الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل [ موجبات الأيمان والأقارير والنذور ]

المثال الثامن : مما تتغير به الفتوى لتغير العرف والعادة : موجبات الأيمان والإقرار والنذور وغيرها ; فمن ذلك أن الحالف إذا حلف " لا ركبت دابة " وكان في بلد عرفهم في لفظ الدابة الحمار خاصة اختصت يمينه به ، ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل ، وإن كان عرفهم في لفظ الدابة الفرس خاصة حملت يمينه عليها دون الحمار ، وكذلك إن كان الحال ممن عادته ركوب نوع خاص من الدواب كالأمراء ومن جرى مجراهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب ; فيفتى في كل بلد بحسب عرف أهله .

ويفتى كل أحد بحسب عادته ، وكذلك إذا حلف " لا أكلت رأسا " في بلد عادتهم أكل رءوس الضأن خاصة لم يحنث بأكل رءوس الطير والسمك ونحوها ، وإن كان عادتهم أكل رءوس السمك حنث بأكل رءوسها ، وكذلك إذا حلف لا اشتريت كذا ولا بعته ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها ونحو ذلك ، وعادته أن لا يباشر ذلك بنفسه كالملوك حنث قطعا بالإذن والتوكيل فيه ، فإنه [ ص: 46 ] نفس ما حلف عليه .

وإن كان عادته مباشرة ذلك بنفسه كآحاد الناس فإن قصد منع نفسه من المباشرة لم يحنث بالتوكيل ، وإن قصد عدم الفعل والمنع منه جملة حنث بالتوكيل ، وإن أطلق اعتبر سبب اليمين وبساطها وما هيجها ، وعلى هذا إذا أقر الملك أو أغنى أهل البلد لرجل بمال كثير لم يقبل تفسيره بالدرهم والرغيف ونحوه مما يتمول ، فإن أقر به فقير يعد عنده الدرهم والرغيف كثيرا قبل منه ، وعلى هذا إذا قيل له : جاريتك أو عبدك يرتكبان الفاحشة ، فقال : ليس كذلك ، بل هما حران لا أعلم عليهما فاحشة ; فالحق المقطوع به أنهما لا يعتقان بذلك ، لا في الحكم ولا فيما بينه وبين الله تعالى ; فإنه لم يرد ذلك قطعا .

واللفظ مع القرائن المذكورة ليس صريحا في العتق ولا ظاهرا فيه ، بل ولا محتملا له ، فإخراج عبده أو أمته عن ملكه بذلك غير جائز ، ومن ذلك ما أخبرني به بعض أصحابنا أنه قال لامرأته : إن أذنت لك في الخروج إلى الحمام فأنت طالق ، فتهيأت للخروج إلى الحمام ، فقال لها : اخرجي وابصري ، فاستفتى بعض الناس ، فأفتوه بأنها قد طلقت منه ، فقال للمفتي : بأي شيء أوقعت علي الطلاق ؟ قال : بقولك لها اخرجي ، فقال : إني لم أقل لها ذلك إذنا ، وإنما قلته تهديدا ، أي : إنك لا يمكنك الخروج .

وهذا كقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } فهل هذا إذن لهم أن يعملوا ما شاءوا ؟ فقال : لا أدري ، أنت لفظت بالإذن ، فقال له : ما أردت الإذن ، فلم يفقه المفتي هذا ، وغلظ حجابه عن إدراكه ، وفرق بينه وبين امرأته بما لم يأذن به الله ورسوله ولا أحد من أئمة الإسلام .

وليت شعري هل يقول هذا المفتي : إن قوله تعالى : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } إذن له في الكفر ؟ وهؤلاء أبعد الناس عن الفهم عن الله ورسوله وعن المطلقين مقاصدهم .

ومن هذا إذا قال العبد لسيده ، وقد استعمله في عمل يشق عليه : أعتقني من هذا العمل ، فقال : أعتقتك ، ولم ينو إزالة ملكه عنه ، لم يعتق بذلك ، وكذلك إذا قال عن امرأته : هذه أختي ، ونوى أختي في الدين ، لم تحرم بذلك ، ولم يكن مظاهرا . والصريح لم يكن موجبا لحكمه لذاته .

وإنما أوجبه لأنا نستدل على قصد المتكلم به لمعناه ; لجريان اللفظ على لسانه اختيارا ; فإذا ظهر قصده بخلاف معناه لم يجز أن يلزم بما لم يرده ، ولا التزمه ، ولا خطر بباله ، بل إلزامه بذلك جناية على الشرع وعلى المكلف ، والله سبحانه وتعالى رفع المؤاخذة عن المتكلم بكلمة الكفر مكرها لما لم يقصد معناها ولا نواها ، فكذلك المتكلم بالطلاق والعتاق والوقف واليمين والنذر مكرها لا يلزمه شيء من ذلك ; لعدم نيته وقصده ; وقد أتى باللفظ الصريح ; فعلم أن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به ، والله تعالى رفع المؤاخذة عمن حدث نفسه بأمر بغير تلفظ أو [ ص: 47 ] عمل ، كما رفعها عمن تلفظ باللفظ من غير قصد لمعناه ولا إرادة ، ولهذا لا يكفر من جرى على لسانه لفظ الكفر سبقا من غير قصد لفرح أو دهش وغير ذلك ، كما في حديث الفرح الإلهي بتوبة العبد ، وضرب مثل ذلك بمن فقد راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة ، فأيس منها ثم وجدها فقال : اللهم أنت عبدي وأنا ربك : " أخطأ من شدة الفرح " ولم يؤاخذ بذلك ، وكذلك إذا أخطأ من شدة الغضب لم يؤاخذ بذلك ، ومن هذا قوله تعالى : { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم } قال السلف : هو دعاء الإنسان على نفسه وولده وأهله في حال الغضب ، ولو استجابه الله تعالى لأهلكه وأهلك من يدعو عليه ، ولكنه لا يستجيبه لعلمه بأن الداعي لم يقصده .

التالي السابق


الخدمات العلمية