الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ مسائل عديدة من الدور الحكمي ]

قالوا : وغاية ما في هذا الباب استلزام هذا التعليق لدور حكمي يمنع وقوع المعلق والمنجز ، ونحن نريكم من مسائل الدور التي يفضي وقوعها إلى عدم وقوعها كثيرا ، منها ما ذكرناه ، ومنها ما لو وجد من أحدهما ريح وشك كل واحد منهما هل هي منه أو من صاحبه ، لم يجز اقتداء أحدهما بالآخر ; لأن اقتداءه به يبطل اقتداءه ، وكذلك لو كان معهما إناءان أحدهما نجس فأدى اجتهاد كل منهما إلى إناء لم تجز القدوة بينهما ; لأنها تفضي إلى إبطال القدوة ، وكذلك إذا اجتهدا في الثوبين والمكانين ، ومنها لو زوج عبده حرة وضمن السيد مهرها ثم باعه لزوجه قبل الدخول بها فالبيع باطل ; لأن صحته تؤدي إلى فساده ، إذ لو صح لبطل النكاح ; لأنها إذا ملكت زوجها بطل نكاحها ، وإذا بطل سقط مهرها ; لأن الفرقة من جهتها ، وإذا سقط مهرها وهو الثمن بطل البيع والعتق ألبتة ، بل إما أن يصح البيع ولا يقع العتق إذ لو وقع العتق لبطل البيع ، وإذا بطل بطل العتق ; فوقوعه يؤدي إلى عدم وقوعه .

وهذا قول المزني وقال ابن سريج : لا يصح بيعه ; لأنه لو صح لوقع العتق قبله ، ووقوع العتق قبله يمنع صحة البيع ، فصحة البيع تمنع صحته ، وكذلك لو قال له : " إذا رهنتك فأنت حر قبله بساعة " وكذلك لو قال لعبيده ولا مال له سواهم وقد أفلس : " إن حجر الحاكم علي فأنتم أحرار قبل الحجر بيوم " لم يصح الحجر ; لأن صحته تمنع صحته ، ومثاله لو قال [ ص: 199 ] لعبده : " متى صالحت عليك فأنت حر قبل الصلح " ومثله لو قال لامرأته : " إن صالحت فلانا وأنت امرأتي فأنت طالق قبله بساعة " لم يصح الصلح ; لأن صحته تمنع صحته

ومثله لو قال لعبده : " متى ضمنت عنك صداق امرأتك فأنت حر قبله إن كنت في حال الضمان مملوكي " ثم ضمن عنه الصداق لم يصح ; لأنه لو صح لعتق قبله ، وإذا عتق قبله لم يصادف الضمان شرطه ، وهو كونه مملوكه وقت الضمان ، وكذلك لا يقع العتق ; لأن وقوعه يؤدي إلى أن لا يصح الضمان عنه ، وإذا لم يصح الضمان عنه لم يصح العتق ، فكل من الضمان والعتق تؤدي صحته إلى بطلانه ; فلا يصح واحد منهما ، ومثله ما لو قال : " إن شاركني في هذا العبد شريك فهو حر قبله بساعة " لم تصح الشركة فيه بعد ذلك ; لأنها لو صحت لعتق العبد وبطلت الشركة ، فصحتها تفضي إلى بطلانها ، ومثله لو قال : " إن وكلت إنسانا ببيع هذا العبد أو رهنه أو هبته وكالة صحيحة فهو قبلها بساعة حر " لم تصح الوكالة ; لأن صحتها تؤدي إلى بطلانها .

ومثله ما لو قال لامرأته : " إن وكلت وكيلا في طلاقك فأنت طالق قبله أو معه ثلاثا " لم يصح توكيله في طلاقها ; إذ لو صحت الوكالة لطلقت في حال الوكالة أو قبلها ، فتبطل الوكالة ، فصحتها تؤدي إلى بطلانها ، وكذلك لو خلف الميت ابنا ، فأقر بابن آخر للميت ، فقال المقر به : " أنا ابنه ، وأما أنت فلست بابنه " لم يقبل إنكار المقر به ; لأن قبول قوله يبطل قوله ، ومن هاهنا قال الشافعي : لو ترك أخا لأب وأم فأقر الأخ بابن للميت ثبت نسبه ولم يرث ; لأنه لو ورث لخرج المقر عن أن يكون وارثا ، وإذا لم يكن وارثا لم يقبل إقراره بوارث آخر ، فتوريث الابن يفضي إلى عدم توريثه ، ونازعه الجمهور في ذلك ، وقالوا : إذا ثبت نسبه ترتب عليه أحكام النسب ، ومنها الميراث ، ولا يفضي توريثه إلى عدم توريثه ; لأنه بمجرد الإقرار يثبت النسب ويترتب عليه الميراث والأخ كان وارثا في الظاهر ، فحين أقر كان هو كل الورثة ، وإنما خرج عن الميراث بعد الإقرار وثبوت النسب ; فلم يكن توريث الابن مبطلا لكون المقر وارثا حين الإقرار ، وإن بطل كونه وارثا بعد الإقرار وثبوت النسب ، وأيضا فالميراث تابع لثبوت النسب ، والتابع أضعف من المتبوع ، فإذا ثبت المتبوع الأقوى فالتابع أولى . ألا ترى أن النساء تقبل شهادتهن منفردات في الولادة ثم في النسب ، ونظائر ذلك كثيرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية