الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل :

ومن المسائل التي يؤدي ثبوتها إلى نفيها لو قال لامرأته : " إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم " ومضى اليوم ولم يطلقها لم تطلق ; إذ لو طلقت بمضي اليوم لكان طلاقها مستندا إلى وجود الصفة وهي عدم طلاقها اليوم ، وإذا مضى اليوم ولم يطلقها لم يقع الطلاق المعلق باليوم .

ومنها ; لو تزوج أمة ثم قال لها : " إن مات مولاك وورثتك فأنت طالق " أو قال : " إن ملكتك فأنت طالق " ثم ورثها أو ملكها بغير إرث لا يقع الطلاق ; إذ لو وقع لم تكن الزوجة في حال وقوعه ملكا له ; لاستحالة وقوع الطلاق في ملكه ، فكان وقوعه مفضيا إلى عدم وقوعه . [ ص: 201 ] ومنها : لو كان العبد بين موسرين فقال كل منهما لصاحبه : " متى أعتقت نصيبك فنصيبي حر قبل ذلك " فأعتق أحدهما نصيبه لم ينفذ عتقه ; لأنه لو نفذ لوجب عتق نصيب صاحبه قبله ، وذلك يوجب السراية إلى نصيبه ، فلا يصادف إعتاقه محلا ، فنفوذ عتقه يؤدي إلى عدم نفوذه . والصواب في هذه المسألة بطلان هذا التعليق لتضمنه المحال ، وأيهما عتق نصيبه صح وسرى إلى نصيب شريكه .

ومنها لو قال لعبده : " إن دبرتك فأنت حر قبله " ثم دبره صح التدبير ولم يقع العتق ; لأن وقوعه يمنع صحة التدبير ، وعدم صحته يمنع وقوع العتق ، وكانت صحته تفضي إلى بطلانه ، هذا على قول المزني ، وعلى قول ابن سريج لا يصح التدبير ; لأنه لو صح لوقع العتق قبله ، وذلك يمنع التدبير ، وكان وقوعه يمنع وقوعه .

ونظيره أن يقول لمدبره : " متى أبطلت تدبيرك فأنت حر قبله " ثم أبطله بطل ولم يقع العتق على قول المزني ; إذ لو وقع لم يصادف إبطال التدبير محلا ، وعلى قول ابن سريج لا يصح إبطال التدبير ; لأنه لو صح إبطاله لوقع العتق ، ولو وقع العتق لم يصح إبطال التدبير ومثله لو قال لمدبره : " إن بعتك فأنت حر قبله " ومثله لو قال لعبده : " إن كاتبتك غدا فأنت اليوم حر " ثم كاتبه من الغد .

ومثله لو قال لمكاتبه : " إن عجزت عن كتابتك فأنت حر قبله " ومثله لو قال : " متى زنيت أو سرقت أو وجب عليك حد وأنت مملوك فأنت حر قبله " ثم وجد الوصف وجب الحد ولم يقع العتق المعلق به ; إذ لو وقع لم توجد الصفة ، فلم يصح ، وكان مستلزما لعدم وقوعه . ومثله أن يقول له : " متى جنيت جناية وأنت مملوكي فأنت حر قبله " ثم جنى لم يعتق . ومثله أن يقول له : " متى بعتك وتم البيع فأنت حر قبله " ثم باعه ، فعلى قول المزني يصح البيع ولا يقع العتق ; لأن وقوعه يستلزم عدم وقوعه ، وعلى قول ابن سريج لا يصح البيع ; لأنه يعتق قبله وعتقه يمنع صحة بيعه . ومثله لو قال لأمته : " إن صليت ركعتين مكشوفة الرأس فأنت حرة قبل ذلك " فصلت مكشوفة الرأس . فعلى قول المزني تصح الصلاة دون العتق ، وعلى قول ابن سريج لا تصح الصلاة لأنها لو صحت عتقت قبل ذلك ، وإذا عتقت بطلت صلاتها ، وكانت صحة صلاتها مستلزمة لبطلانها .

ومنها لو زوج أمته بحر ، وادعى عليه مهرها قبل الدخول ، وادعى الزوج الإعسار ، وادعى سيد الأمة يساره قبل نكاحه الأمة بميراث أو غيره ، لم تسمع دعواه ; إذ لو ثبتت دعواه لبطل النكاح ; لأنه لا يصح نكاح الأمة مع وجود الطول ، وإذا بطل النكاح بطل دعوى المهر .

وكذلك لو تزوج بأمة فادعت أن الزوج عنين لم تسمع دعواها ; إذ لو ثبتت دعواها [ ص: 202 ] لزال خوف العنت الذي هو شرط في نكاح الأمة ، وذلك يبطل النكاح ، وبطلانه يوجب بطلان الدعوى منها ، فلما كانت صحة دعواها تؤدي إلى إفسادها أفسدناها .

وكذلك المرأة إذا ادعت على سيد زوجها أنه باعه إياها بمهرها قبل الدخول لم تصح دعواها ; لأنها لو صحت لسقط نصف المهر وبطل البيع في العبد .

وكذلك لو شهد شاهدان على عتق عبد فحكم بعتقه ، ثم ادعى العبد بعد الحكم بحريته على أحد الشاهدين أنه مملوكه ; لم تسمع دعواه ; لأن تحقيقها يؤدي إلى بطلان الشهادة على العتق ، فتبطل دعوى ملكه للشاهد .

وكذلك لو سبي مراهق من أهل الحرب ولم يعلم بلوغه ، فأنكر البلوغ ، لم يستحلف ; لأن إحلافه يؤدي إلى إبطال استحلافه ، فإنا لو حلفناه لحكمنا بصغره والحكم بالصغر يمنع الاستحلاف .

ونظيره لو ادعى على أم مراهق ما يوجب القصاص أو قذفا يوجب الحد أو مالا من مبايعة أو ضمان أو غير ذلك ، وادعى أنه بالغ ، وأنه يلزمه الحكم بذلك فأنكر الغلام ذلك ، فالقول قوله ، ولا يمين عليه ; إذ لو حلفناه لحكمنا بصغره ، والحكم بالصغر يسقط اليمين عنه ، وإذا لم يكن هنا يمين لم يكن رد يمين ; لأن رد اليمين إنما يكون عند نكول من هو من أهلها .

وكذلك لو أعتق المريض جارية له قيمتها مائة ، وتزوج بها في مرض موته ، ومهرها مائة ، وترك مائتي درهم ، فالنكاح صحيح ، ولا مهر لها ، ولا ميراث ، أما الميراث فلأنها لو ورثت لبطلت الوصية بعتقها ; لأن العتق في المرض وصية ، وفي بطلان الوصية بطلان الحرية ، وفيه بطلان الميراث .

وأما سقوط المهر فلأنه لو ثبت لركب السيد دين ، ولم تخرج قيمتها من الثلث ، فيبطل عتقها كلها ، فلم يكن للزوج أن ينكحها وبعضها رقيق ، فيبطل المهر ، فكان ثبوت المهر مؤديا إلى بطلانه .

فالحكم بإبطالها مستفاد من قوله تعالى : { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا } فعير تعالى من نقض شيئا بعد أن أثبته ; فدل على أن كل ما كان إثباته مؤديا إلى نفيه وإبطاله كان باطلا ، فهذا ما احتج به السريجيون .

التالي السابق


الخدمات العلمية