الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ ص: 207 ] فصل :

[ جواب من قال بالمسألة السريجية ]

قال السريجيون : لقد ارتقيتم مرتقى صعبا ، وأسأتم الظن بمن قال بهذه المسألة وهم أئمة علماء لا يشق غبارهم ، ولا تغمز قناتهم ، كيف وقد أخذوها من نص الشافعي رحمه الله تعالى ، وبنوها على أصوله ، ونظروا لها النظائر ، وأتوا لها بالشواهد ؟ فنص الشافعي على أنه إذا قال : " أنت طالق قبل موتي بشهر " ثم مات لأكثر من شهر بعد هذا التعليق ; وقع الطلاق قبل موته بشهر وهذا إيقاع طلاق في زمن ماض سابق لوجود الشرط وهو موته ، فإذا وجد الشرط تبينا وقوع الطلاق قبله ، وإيضاح ذلك بإخراج الكلام مخرج الشرط ، كقوله : " إن مت - أو إذا مت - فأنت طالق قبل موتي بشهر " ونحن نلزمكم بهذه المسألة على هذا الأصل ، فإنكم موافقون عليه ، وكذا قوله قبل دخوله : " أنت طالق طلقة قبلها طلقة " فإنه يقع بها طلقتان ، وإحداهما وقعت في زمن ماض سابق على التطليق ، وبهذا خرج الجواب عن قوله : " إن الوقوع كما لم يسبق الإيقاع فلا يسبق الطلاق التطليق فكذا لا يسبق شرطه فإن الحكم لا يتقدم عليه ، ويجوز تقدمه على شرطه وأحد سببيه أو أسبابه " فإن الشرط معرف ، محض ولا يمتنع تقديم المعرف عليه ، وأما تقديمه على أحد سببيه فكتقديم الكفارة على الحنث بعد اليمين ، وتقديم الزكاة على الحول بعد ملك النصاب ، وتقديم الكفارة على الجرح قبل الزهوق ، ونظائره .

وأما قولكم : " إن الشرط يجب تقديمه على المشروط " فممنوع بل مقتضى الشرع توقف المشروط على وجوده ، وأنه لا يوجد بدونه ، وليس مقتضاه تأخر المشروط عنه ، وهذا يتعلق باللغة والعقل والشرع ، ولا سبيل لكم إلى نص عن أهل اللغة في ذلك ولا إلى دليل شرعي ولا عقلي ، فدعواه غير مسموعة ، ونحن لا ننكر أن من الشروط ما يتقدم مشروطه ، ولكن دعوى أن ذلك حقيقة الشرط وأنه إن لم يتقدم خرج عن أن يكون شرطا دعوى لا دليل عليها ، وحتى لو جاء عن أهل اللغة ذلك لم يلزم مثله في الأحكام الشرعية ; لأن الشروط في كلامهم تتعلق بالأفعال كقوله : " إن زرتني أكرمتك " " وإذا طلعت الشمس جئتك " فيقتضي الشرط ارتباطا بين الأول والثاني : فلا يتقدم المتأخر ولا يتأخر المتقدم ، وأما الأحكام فتقبل التقدم والتأخر والانتقال ، كما لو قال : " إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر " ومعلوم أنه لو قال مثل هذا في الحسيات كان محالا ، فلو قال : " إذا زرتني أكرمتك قبل أن تزورني بشهر " كان محالا ، إلا أن يحمل كلامه على معنى صحيح ، وهو إذا أردت أو عزمت على زيارتي أكرمتك قبلها .

[ ص: 208 ] وسر المسألة أن نقل الحقائق عن مواضعها ممتنع ، والأحكام قابلة للنقل والتحويل والتقديم والتأخير ، ولهذا لو قال : " أعتق عبدك عني " ففعل ; وقع العتق عن القائل ، وجعل الملك متقدما على العتق حكما ، وإن لم يتقدم عليه حقيقة .

وقولكم : " يلزمنا تجويز تقديم الطلاق على التطليق " فذلك غير لازم ; فإنه إنما يقع بإيقاعه ; فلا يسبق إيقاعه ، بخلاف الشرط ، فإنه لا يوجب وجود المشروط ، وإنما يرتبط به ، والارتباط أعم من السابق والمقارن والمتأخر ، والأعم لا يستلزم الأخص .

ونكتة الفرق أن الإيقاع موجب للوقوع ; فلا يجوز أن يسبقه أثره وموجبه ، والشرط علامة على المشروط ; فيجوز أن يكون قبله وبعده ، فوزان الشرط وزان الدليل ، ووزان الإيقاع وزان العلة ، فافترقا .

وأما قولكم : " إن هذا التعليق يتضمن المحال إلى آخره " فجوابه أن هذا التعليق تضمن شرطا ومشروطا ، وقد تعقد القضية الشرطية في ذلك للوقوع ، وقد تعقد للإبطال ; فلا يوجد فيها الشرط ولا الجزاء ، بل تعليق ممتنع بممتنع ، فتصدق الشرطية وإن انتفى كل من جزأيها ، كما تقول : " لو كان مع الله إله آخر لفسد العالم " وكما في قوله : { إن كنت قلته فقد علمته } ومعلوم أنه لم يقله ولم يعلمه الله ، وهكذا قوله : " إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا " فقضية عقدت لامتناع وقوع طرفيها ، وهما المنجز والمعلق .

ثم نذكر في ذلك قياسا [ آخر ] حرره الشيخ أبو إسحاق رحمه الله تعالى ، فقال : طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر ; فوجب أن ينفي السابق منهما المتأخر .

نظيره أن يقول لامرأته : إن قدم زيد فأنت طالق ثلاثا ، وإن قدم عمرو فأنت طالق طلقة ، فقدم زيد بكرة ، وعمرو عشية

ونكتة المسألة أنا لو أوقعنا الطلاق المباشر لزمنا أن نوقع قبله ثلاثا ، ولو أوقعنا قبله ثلاثا لامتنع وقوعه في نفسه ; فقد أدى الحكم بوقوعه إلى الحكم بعدم وقوعه ، فلا يقع .

وقولكم : " إن هذه اليمين تفضي إلى سد باب الطلاق ، وذلك تغيير لشرع الله ; فإن الله ملك الزوج الطلاق رحمة به - إلى آخره " جوابه أن هذا ليس فيه تغيير للشرع ، وإنما هو إتيان بالسبب الذي ضيق به على نفسه ما وسعه الله عليه ، وهو هذه اليمين ، وهذا ليس تغييرا للشرع .

ألا ترى أن الله تعالى وسع عليه أمر الطلاق فجعله واحدة بعد واحدة ثلاث مرات لئلا يندم ، فإذا ضيق على نفسه وأوقعها بفم واحد حصر نفسه وضيق عليها ومنعها ما كان حلالا لها ، وربما لم يبق له سبيل إلى عودها إليه ، ولذلك جعل الله تعالى الطلاق إلى [ ص: 209 ] الرجال ، ولم يجعل للنساء فيه حظا ; لنقصان عقولهن وأديانهن ، فلو جعله إليهن لكان فيه فساد كبير تأباه حكمة الرب تعالى ورحمته بعباده ، فكانت المرأة لا تشاء أن تستبدل بالزوج إلا استبدلت به ، بخلاف الرجال ; فإنهم أكمل عقولا وأثبت ، فلا يستبدل بالزوجة إلا إذا عيل صبره ، ثم إن الزوج قد يجعل طلاق امرأته بيدها ، بأن يملكها ذلك أو يحلف عليها أن لا تفعل كذا ، فتختار طلاقه متى شاءت ، ويبقى الطلاق بيدها ، وليس في هذا تغيير للشرع ; لأنه هو الذي ألزم نفسه هذا الحرج بيمينه وتمليكه ، ونظير هذا ما قاله فقهاء الكوفة قديما وحديثا : أنه لو قال : " كل امرأة أتزوجها فهي طالق " لم يمكنه أن يتزوج بعد ذلك امرأة ، حتى قيل : إن أهل الكوفة أطبقوا على هذا القول ، ولم يكن في ذلك تغيير للشريعة ; فإنه هو الذي ضيق على نفسه ما وسع الله عليه ، ونظير هذا لو قال : " كل عبد وأمة أملكهما فهما حران " لم يكن له سبيل بعد هذا إلى ملك رقيق أصلا ، وليس في هذا تغيير للشرع ، بل هو المضيق على نفسه ، والضيق والحرج الذي يدخله المكلف على نفسه لا يلزم أن يكون الشارع قد شرعه له ، وإن ألزمه به بعد أن ألزم نفسه ، ألا ترى أن من كان معه ألف دينار فاشترى بها جارية فأولدها ثم ساءت العشرة بينهما لم يبق له طريق إلى الاستبدال بها ، وعليه ضرر في إعتاقها أو تزويجها أو إمساكها ولا بد له من أحدها .

ثم نقول في معارضة ما ذكرتم : بل يكون في هذه اليمين مصلحة له وغرض صحيح ، بأن يكون محبا لزوجته شديد الإلف بها ، وهو مشفق من أن ينزغ الشيطان بينهما فيقع منه طلاقها من غضبة أو موجدة ، أو يحلف يمينا بالطلاق أو يبلى بمن يستحلفه بالطلاق ويضطر إلى الحنث ، أو يبلى بظالم يكرهه على الطلاق ويرفعه إلى حاكم ينفذه ، أو يبلى بشاهدي زور يشهدان عليه بالطلاق ، وفي ذلك ضرر عظيم به ، وكان من محاسن الشريعة أن يجعل له طريقا إلى الأمن من ذلك كله ، ولا طريق أحسن من هذه ; فلا ينكر من محاسن هذه الشريعة الكاملة أن تأتي بمثل ذلك ، ونحن لا ننكر أن في ذلك نوع ضرر عليه ، لكن رأي احتماله لدفع ضرر الفراق الذي هو أعظم من ضرر البقاء ، وما ينكر في الشريعة من دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما ؟ .

التالي السابق


الخدمات العلمية