الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل :

[ الجواب على شبه أصحاب الحيلة السريجية ]

قال الموقعون : لقد دعوتم الشبه الجفلى إلى وليمة هذه المسألة ، فلم تدعوا منها داعيا ولا مجيبا ، واجتهدتم في تقريرها ظانين إصابة الاجتهاد ، وليس كل مجتهد مصيبا . [ ص: 210 ] ونثرتم عليها ما لا يصلح مثله للنثار ، وزينتموها بأنواع الحلي ، ولكنه حلي مستعار ; فإذا استردت العارة زال الالتباس والاشتباه ، وهناك تسمع بالمعيدي خير من أن تراه .

فأما قولكم : " إنا ارتقينا مرتقى صعبا ، وأسأنا الظن بمن قال بهذه المسألة " فإن أردتم بإساءة الظن بهم تأثيما أو تبديعا فمعاذ الله ، بل أنتم أسأتم بنا الظن ، وإن أردتم بإساءة الظن أنا لم نصوبهم في هذه المسألة ، ورأينا الصواب في خلافهم فيها ; فهذا قدر مشترك بيننا وبينكم في كل ما تنازعنا فيه ، بل سائر المتنازعين بهذه المثابة ، وقد صرح الأربعة الأئمة بأن الحق في واحد من الأقوال المختلفة ، وليست كلها صوابا .

وأما قولكم : " إن هذه المسألة مأخوذة من نص الشافعي " فجوابه من وجهين : أحدهما : أنها لو كانت منصوصة له فقوله بمنزلة قول غيره من الأئمة يحتج له ولا يحتج به ، وقد نازعه الجمهور فيها ، والحجة تفصل ما بين المتنازعين .

الثاني : أن الشافعي رضي الله تعالى عنه لم ينص عليها ولا على ما يستلزمها .

وغاية ما ذكرتم نصه على صحة قوله : " أنت طالق قبل موتي بشهر " فإذا مات لأكثر من شهر من وقت هذا التعليق تبينا وقوع الطلاق .

وهذا قد وافقه عليه من يبطل هذه المسألة ، وليس فيه ما يدل على صحة هذه المسألة ولا هو نظيرها .

وليس فيه سبق الطلاق لشرطه ، ولا هو متضمن للمحال ; إذ حقيقته إذا بقي من حياتي شهر فأنت طالق .

وهذا الكلام معقول غير متناقض ليس فيه تقديم الطلاق على زمن التطليق ولا على شرط وقوعه ، وإنما نظير المسألة المتنازع فيها أن يقول : " إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر " وهذا المحال بعينه ، وهو نظير قوله : " إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا " أو يقول : " أنت طالق عام الأول " فمسألة الشافعي شيء ومسألة ابن سريج شيء ، ويدل عليه أن الشافعي إنما أوقع عليه الطلاق إذا مات لأكثر من شهر من حين التعليق ; فلو مات عقيب اليمين لم تطلق ، وكانت بمنزلة قوله : " أنت طالق في الشهر الماضي " وبمنزلة قوله : " أنت طالق قبل أن أنكحك " فإن كلا الوقتين ليس بقابل للطلاق ; لأنها في أحدهما لم تكن محلا ، وفي الثاني لم تكن فيه طالقا قطعا ، فقوله : " أنت طالق في وقت قد مضى " ولم تكن فيه طالقا إما إخبار كاذب أو إنشاء باطل ، وقد قيل يقع عليه الطلاق ويلغو قوله : " أمس " لأنه أتى بلفظ الطلاق ثم وصل به ما يمنع وقوعه أو يرفعه فلا يصلح ويقع لغوا ، وكذلك قوله : " أنت طالق طلقة قبلها طلقة " ليس فيه إيقاع الطلقة الموصوفة بالقبلية في الزمن الماضي ولا تقدمها على الإيقاع ، وإنما فيه إيقاع طلقتين إحداهما قبل الأخرى ; فمن ضرورة قوله : [ ص: 211 ] قبلها طلقة " إيقاع هذه السابقة أولا ثم إيقاع الثانية بعدها ; فالطلقتان إنما وقعتا بقوله : " أنت طالق " لم تتقدم إحداهما على زمن الإيقاع ، وإن تقدمت على الأخرى تقديرا ، فأين هذا من التعليق المستحيل ؟

فإن أبيتم وقلتم : قد وصل الطلقة المنجزة بتقدم مثلها عليها ، والسبب هو قوله أنت طالق ; فقد تقدم وقوع الطلقة المعلقة بالقبلية على المنجزة ، ولما كان هذا نكاحا صح ، وهكذا قوله : " إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا " أكثر ما فيه تقدم الطلاق السابق على المنجز ، ولكن المحل لا يحتملهما ; فتدافعا وبقيت الزوجة بحالها ولهذا لو قال : " إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله واحدة " صح لاحتمال المحل لهما .

فالجواب أنه أوقع طلقتين واحدة قبل واحدة ، ولم تسبق إحداهما إيقاعه ، ولم يتقدم شرط الإيقاع ; فلا محذور ، وهو كما لو قال : " بعدها طلقة ، أو معها طلقة " وكأنه قال : " أنت طالق طلقتين معا ، أو واحدة بعد واحدة " ويلزم من تأخر واحد عن الأخرى سبق إحداهما للأخرى ، فلا إحالة ، أما وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فهو محال وقصده باطل ، والتعبير عنه إن كان خبرا فهو كذب ، وإن كان إنشاء فهو منكر ; فالتكلم به منكر من القول وزور في إخباره ، منكر في إنشائه .

وأما كون المعلق تمام الثلاث فهاهنا لمنازعيكم قولان تقدم حكايتهما ، وهما وجهان في مذهب أحمد والشافعي .

أحدهما : يصح هذا التعلق ويقع المنجز والمعلق ، وتصير المسألة على وزان ما نص عليه الشافعي من قوله : " إذا مات زيد فأنت طالق قبله بشهر " فمات بعد شهر ، فهكذا إذا قال : " إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله واحدة " ثم مضى زمن تمكن فيه القبلية ثم طلقها تبينا وقوع المعلق في ذلك الزمان ، وهو متأخر عن الإيقاع ; فكأنه قال : " أنت طالق في الوقت السابق على تنجيز الطلاق أو وقوعه معلقا " فهو تطليق في زمن متأخر .

والقول الثاني : أن هذا محال أيضا ، ولا يقع المعلق ; إذ حقيقته أنت طالق في الزمن السابق على تطليقك تنجيزا أو تعليقا فيعود إلى سبق الطلاق للتطليق ، وسبق الوقوع للإيقاع ، وهو حكم بتقديم المعلول على علته .

يوضحه أن قوله : " إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله " إما أن يريد طالق قبله بهذا الإيقاع أو بإيقاع متقدم .

والثاني ممتنع ; لأنه لم يسبق هذا الكلام منه شيء .

والثاني كذلك لأنه لا يتضمن : " أنت طالق قبل أن أطلقك " وهذا عين المحال .

فهذا كشف حجاب هذه المسألة وسر مأخذها ، وقد تبين أن مسألة الشافعي لون وهذه لون آخر . [ ص: 212 ]

وأما قولكم : " إن الحكم لا يجوز تقدمه على علته ، ويجوز تقدمه على شرطه كما يجوز تقدمه على أحد سببيه - إلى آخره " فجوابه أن الشرط إما أن يوجد جزءا من المقتضى أو يوجد خارجا عنه ، وهما قولان للنظار ، والنزاع لفظي ; فإن أريد بالمقتضى التام فالشرط جزء منه ، وإن أريد به المقتضى الذي يتوقف اقتضاؤه على وجود شرطه وعدم مانعه فالشرط ليس جزءا منه ، ولكن اقتضاؤه يتوقف عليه ، والطريقة الثانية طريقة القائلين بتخصيص العلة ، والأولى طريقة المانعين من التخصيص ، وعلى التقديرين فيمتنع تأخر الشرط عن وقوع المشروط ; لأن يستلزم وقوع الحكم بدون سببه التام ; فإن الشرط إن كان جزءا من المقتضى فظاهر ، وإن كان شرطا لاقتضائه فالمعلق على الشرط لا يوجد عند عدمه ، وإلا لم يكن شرطا ; فإنه لو كان يوجد بدونه لم يكن شرطا ، فلو ثبت الحكم قبله لثبت بدون سببه التام ، فإن سببه لا يتم إلا بالشرط ، فعاد الأمر إلى سبق الأثر لمؤثره والمعلول لعلته ، وهذا محال ، ولهذا لما لم يكن لكم حيلة في دفعه وعلمتم لزومه فررتم إلى ما لا يجدي عليكم شيئا .

وهو جعل الشرط مجرد علامة ودليل ومعرف ، وهذا إخراج للشرط عن كونه شرطا وإبطال لحقيقته ; فإن العلامة والدليل [ و ] المعرف ليست شروطا في المدلول المعرف ، ولا يلزم من نفيها نفيه ، فإن الشيء يثبت بدون علامة ومعرف له ، والمشروط ينتفي لانتفاء شرطه وإن لم يوجد لوجوده .

وكل العقلاء متفقون على الفرق بين الشرط والأمارة المحضة وأن حقيقة أحدهما وحكمه دون حقيقة الآخر وحكمه .

وإن كان قد يقال : إن العلامة شرط في العلم بالمعلم والدليل شرط في العلم بالمدلول ، فذاك أمر وراء الشرط في الوجود الخارجي ، فهذا شيء وذلك شيء آخر ، وهذا حق ، ولهذا ينتفي العلم بالمدلول عند انتفاء دليله ، ولكن هل يقول أحد : إن المدلول ينتفي وانتفاء دليله ؟ فإن قيل : نعم ، قد قاله غير واحد ، وهو انتفاء الحكم الشرعي لانتفاء دليله .

قيل : نعم فإن الحكم الشرعي لا يثبت بدون دليله ، فدليله موجب لثبوته ، فإذا انتفى الموجب انتفى الموجب ، ولهذا يقال : لا موجب فلا موجب ، أما شرط اقتضاء السبب لحكمة فلا يجوز اقتضاؤه بدون شرطه ، ولو تأخر الشرط عنه لكان مقتضيا بدون شرطه ، وذلك يستلزم إخراج الشرط عن حقيقته ، وهو محال .

وأما تقديم الحكم على أحد سببيه في الصورة التي ذكرتموها على إحدى الطريقتين ، أو تقديمه على شرط بعد وجود سببه على الطريقة الأخرى ; فالتنظير به مغلطة ; فإن الحكم لم يتقدم على سببه ولا شرطه ، وهذا محال .

وإن وقع تسامح في عبارة الفقهاء ، فإن القضاء الحول مثلا والحنث والموت بعد الجرح شرط للوجوب ، ونحن لم نقدم الوجوب على [ ص: 213 ] شرط ولا سببه ، وإنما قدمنا فعل الواجب .

والفرق بين تقدم الحكم بالوجوب ، وبين تقدم أداء الواجب ، فظهر أن هذا وهم أو إيهام ، وقد ظهر أن تقديم شرط علة الحكم وموجبه على الحكم أمر ثابت عقلا وشرعا ، ونحن لم نأخذ ذلك عن نص أهل اللغة حتى تطالبونا بنقله ، بل ذلك أمر ثابت لذات الشرط وحكم من أحكامه .

وليس ذلك متلقى من اللغة ، بل هو ثابت في نفس الأمر لا يختلف بتقدم لفظ ولا تأخره ، حتى لو قال : " أنت طالق إن دخلت الدار " أو قال : " يبعثك الله إذا مت " أو : " تجب عليك الصلاة إذا دخل وقتها " ونحو ذلك فالشرط متقدم عقلا وطبعا وشرعا وإن تأخر لفظا .

وأما قولكم : " إن الأحكام تقبل النقل عن مواضعها فتتقدم وتتأخر " فتطويل بلا تحصيل ، وتهويل بلا تفضيل ، فهل تقبل النقل عن ترتيبها على أسبابها وموجباتها بحيث يثبت الحكم بدون سببه ومقتضيه ؟ نعم قد يتقدم ويتأخر وينتقل لقيام سبب آخر يقتضي ذلك فيكون مرتبا على سببه الثاني بعد انتقاله كما كان مرتبا على الأول قبل انتقاله ، وفي كل من الموضعين هو مرتب على سببه هذا في حكمه وذاك في محله ، وأما تنظيركم بنقل الأحكام وتقدمها على أسبابها بقوله : " أنت طالق قبل موتي بشهر " وقولكم : " إن نظيره في الحسيات أن تقول : إن زرتني أكرمتك قبل زيارتك بشهر " فوهم أيضا أو إيهام ، فإن قوله : " أنت طالق قبل موتي بشهر " إنما تطلق إذا مضى شهر بعد هذه اليمين حتى يتبين وقوع الطلاق بعد إيقاعه فلو مات قبل مضي شهر لم تطلق على الصحيح ; لأنه يصير بمنزلة أنت طالق عام الأول ; ليس كذلك قوله : " إن زرتني أكرمتك قبله بشهر " فإن الطلاق حكم يمكن تقدير وقوعه قبل الموت ، والإكرام فعل حسي لا يكون إكراما بالتقدير ، وإنما يكون إكراما بالوقوع ، وأما استشهادكم بقوله : " أعتق عبدك عني " فهو حجة عليكم ; فإنه يستلزم تقدم الملك التقديري على العتق الذي هو أثره وموجبه ، والملك شرطه ، ولو جاز تأخر الشرط لقدر الملك له بعد العتق ، وهذا محال ; فعلم أن الأسباب والشروط يجب تقدمها ، سواء كانت محققة أو مقدرة .

وقولكم : " إن هذا التعليق يتضمن شرطا ومشروطا ، والقضية الشرطية قد تعقد للوقوع وقد تعقد لنفي الشرط والجزء - إلى آخره " فجوابه أيضا أن هذا من الوهم أو الإيهام ; فإن القضية الشرطية هي التي يصح الارتباط بين جزأيها ، سواء كانا ممكنين أو ممتنعين ، ولا يلزم من صدقها شرطية صدق جزأيها جملتين ; فالاعتبار إنما هو بصدقها في نفسها ; ولهذا كان قوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } من أصدق الكلام وجزء الشرطية ممتنعان ، لكن أحدهما ملزوم للآخر ، فقامت القضية الشرطية من [ ص: 214 ] التلازم الذي بينهما ; فإن تعدد الآلهة مستلزم لفساد السموات والأرض ، فوجود آلهة مع الله ملزوم لفساد السموات والأرض ، والفساد لازم ، فإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه ، فصدقت الشرطية دون مفرديها ، وأما الشرطية في مسألتنا فهي كاذبة في نفسها ; لأنها عقدت للتلازم بين وقوع الطلاق المنجز وسبق الطلاق الثلاث عليه ، وهذا كذب في الإخبار باطل في الإنشاء ; فالشرطية نفسها باطلة لا تصح بوجه ; فظهر أن تنظيرها بالشرطية الصادقة الممتنعة الجزأين وهم أو إيهام ظاهر لا خفاء به .

وأما قياسكم المحرر ، وهو قولكم : " طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر ، فوجب أن ينفي السابق منهما المتأخر .

كقوله : إن قدم زيد - إلى آخره " فجوابه أنه لما قدم زيد طلقت ثلاثا ، فقدم عمرو بعده وهي أجنبية ، فلم يصادف الطلاق الثاني محلا ، فهذا معقول شرعا ولغة وعرفا ، فأين هذا من تعلق مستحيل شرعا وعرفا ؟ ولقد وهنت كل الوهن مسألة إلى مثل هذا القياس استنادها ، وعليه اعتمادها .

وأما قولكم : " نكتة المسألة أنا لو أوقعنا المنجز لزمنا أن نوقع قبله ثلاثا - إلى آخره " فجوابه أن يقال : هذا كلام باطل في نفسه ، فلا يلزم من إيقاع المنجز إيقاع الثلاث قبله ، لا لغة ولا عقلا ولا شرعا ولا عرفا ، فإن قلتم : لأنه شرط للمعلق قبله ، فقد تبين فساد المعلق بما فيه كفاية .

ثم نقلب عليكم هذه النكتة قلبا أصح منها شرعا وعقلا ولغة ، فنقول : إذا أوقعنا المنجز لم يمكنا أن نوقع قبله ثلاثا قطعا ، وقد وجد سبب وقوع المنجز وهو الإيقاع ، فيستلزم موجبه وهو الوقوع ، وإذا وقع موجبه استحال وقوع الثلاث ; فهذه النكتة أصح وأقرب إلى الشرع والعقل واللغة ، وبالله التوفيق .

وأما قولكم : " إن المكلف أتى بالسبب الذي ضيق به على نفسه فألزمناه حكمه - إلى آخره " فجوابه أن هذا إنما يصح فيما يملكه من الأسباب شرعا ، فلا بد أن يكون السبب مقدورا ومشروعا ، وهذا السبب الذي أتى به غير مقدور ولا مشروع ; فإن الله تعالى لم يملكه طلاقا ينجزه تسبقه ثلاث قبله ، ولا ذلك مقدور له ; فالسبب لا مقدور ولا مأمور ، بل هو كلام متناقض فاسد ; فلا يترتب عليه تغيير أحكام الشرع ، وبهذا خرج الجواب عما نظرتم به من المسائل :

أما المسألة الأولى - وهي إذا طلق امرأته ثلاثا جملة - فهذه مما يحتج لها ، ولا يحتج بها ، وللناس فيها أربعة أقوال ، أحدها : الإلزام بها ، والثاني : إلغاؤها جملة وإن كان هذا إنما يعرف عن الفقهاء الشيعة ، والثالث : أنها واحدة ، وهذا قول أبي بكر الصديق وجميع الصحابة في زمانه وإحدى الروايتين عن ابن عباس واختيار أعلم الناس [ ص: 215 ] بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن إسحاق والحارث العكلي وغيره ، وهو أحد القولين في مذهب مالك حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الجلاب ، وأحد القولين في مذهب أحمد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .

والرابع : أنها واحدة في حق التي لم يدخل بها ، وثلاث في حق المدخول بها ، وهذا مذهب إمام أهل خراسان في وقته إسحاق بن راهويه نظير الإمام أحمد والشافعي ومذهب جماعة من السلف ، وفيها مذهب خامس ، وهو أنها إن كانت منجزة وقعت ، وإن كانت معلقة لم تقع ، وهو مذهب حافظ الغرب وإمام أهل الظاهر في وقته أبو محمد بن حزم ، ولو طولبتم بإبطال هذه الأقوال وتصحيح قولكم بالدليل الذي يركن إليه العالم لم يمكنكم ذلك ، والمقصود أنكم تستدلون بما يحتاج إلى إقامة الدليل عليه ، والذين يسلمون لكم وقوع الثلاث جملة واحدة فريقان : فريق يقول بجواز إيقاع الثلاث فقد أتى المكلف عنده بالسبب المشروع المقدور فترتب عليه سببه ، وفريق يقول : تقع وإن كان إيقاعها محرما كما يقع الطلاق في الحيض والطهر الذي أصابها فيه ، وإن كان محرما لأنه ممكن ، بخلاف وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فإنه محال ، فأين أحدهما من الآخر ؟ فصل

وأما نقضكم الثاني بتمليك الرجل امرأته الطلاق وتضييقه على نفسه بما وسع الله عليه من جعله بيده ، فجوابه من وجوه :

أحدها : أنه بالتمليك لم يخرج الطلاق عن يده ، بل هو في يده كما هو ، هذا إن قيل إنه تمليك ، وإن قيل إنه توكيل فله عزلها متى شاء .

الثاني : أن هذه المسألة فيها نزاع معروف بين السلف والخلف ; فمنهم من قال : لا يصح تمليك المرأة الطلاق ولا توكيلها فيه ، ولا يقع الطلاق إلا ممن أخذ بالساق .

وهذا مذهب أهل الظاهر ، وهو مأثور عن بعض السلف ; فالنقض بهذه الصورة يستلزم إقامة الدليل عليها ، والأول لا يكون دليلا .

ومن هنا قال بعض أصحاب مالك : إنه إذا علق اليمين بفعل الزوجة لم تطلق إذا حنث .

قال : لأن الله تعالى ملك الزوج الطلاق ، وجعله بيده رحمة منه ، ولم يجعله إلى المرأة ; فلو وقع الطلاق بفعلها لكان إليها إن شاءت أن تفارقه وإن شاءت أن تقيم معه ، وهذا خلاف شرع الله ، وهذا أحد الأقوال في مسألة تعليق الطلاق بالشرط كما تقدم .

والثاني : أنه لغو وباطل ، وهذا اختيار أبي عبد الرحمن ابن بنت الشافعي ومذهب أهل الظاهر .

[ ص: 216 ] والثالث : أنه موجب لوقوع الطلاق عند وقوع الصفة ، سواء كان يمينا أو تعليقا محضا ، وهذا المشهور عند الأئمة الأربعة وأتباعهم .

والرابع : أنه إن كان بصيغة التعليق لزم ، وإن كان بصيغة القسم والالتزام لم يلزم إلا أن ينويه ، وهذا اختيار أبي المحاسن الروياني وغيره .

والخامس : أنه إن كان بصيغة التعليق وقع ، وإن كان بصيغة القسم والالتزام لم يقع وإن نواه ، وهذا اختيار القفال في فتاويه .

والسادس : أنه إن كان الشرط والجزاء مقصودين وقع ، وإن كانا غير مقصودين - وإنما حل به قاصدا منع الشرط والجزاء - لم يقع ، ولا كفارة فيه ، وهذا اختيار بعض أصحاب أحمد .

والسابع : كذلك ، إلا أن فيه الكفارة إذا خرج مخرج اليمين ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، والذي قبله اختيار أخيه .

وقد تقدم حكاية قول من حكى إجماع الصحابة أنه إذا حنث فيه لم يلزمه الطلاق ، وحكينا لفظه .

والمقصود الجواب عن النقض بتمليك المرأة الطلاق أو توكيلها فيه .

وأما قولكم في النقض الثالث : " إن فقهاء الكوفة صححوا تعليق الطلاق بالنكاح ، وهو يسد باب النكاح " فهذا القول مما أنكره عليهم سائر الفقهاء ، وقالوا : هو سد لباب النكاح ، حتى قال الشافعي نفسه : أنكره عليهم بذلك وبغيره من الأدلة .

ومن العجب أنكم قلتم في الرد عليهم : لا يصح هذا التعليق ; لأنه لم يصادف محلا ، وهو لا يملك الطلاق المنجز فلا يملك المعلق ; إذ كلاهما مستدع لقيام محله ، ولا محل ، فهلا قبلتم منهم احتجاجهم عليكم في المسألة السريجية بمثل هذه الحجة ، وهي أن المحل غير قابل لطلقة مسبوقة بثلاث ، وكان هذا الكلام لغوا وباطلا فلا ينعقد ، كما قلتم أنتم في تعليق النكاح بالطلاق : إنه لغو وباطل فلا ينعقد

فصل [ إذا علق عتق عبده على ملكه ]

وأما النقض الرابع بقوله : " كل عبد أو أمة أملكه فهو حر " فهذا للفقهاء فيه قولان ، وهما روايتان عن الإمام أحمد : إحداهما : أنه لا يصح كتعليق الطلاق . [ ص: 217 ]

والثاني : أنه يصح والفرق بينه وبين تعليق الطلاق أن ملك العبد قد شرع طريقا إلى زوال ملكه عنه بالعتق ، إما بنفس الملك كمن ملك ذا رحم محرم ، وإما باختيار الإعتاق كمن اشترى عبدا ليعتقه عن كفارته أو ليتقرب به إلى الله ، ولم يشرع الله النكاح طريقا إلى زوال ملك البضع ووقوع الطلاق ، بل هذا يترتب عليه ضد مقصوده شرعا وعقلا وعرفا ، والعتق المترتب على الشراء ترتيب لمقصوده عليه شرعا وعرفا ، فأين أحدهما من الآخر ؟ وكونه قد سد على نفسه باب ملك الرقيق فلا يخلو إما أن يعلق ذلك تعليقا مقصودا أو تعليقا قسميا ; فإن كان مقصودا فهو قد قصد التقرب إلى الله بذلك ، فهو كما لو التزم صوم الدهر وسد على نفسه باب الفطر .

وإن كان تعليقا قسميا فله سعة بما وسع الله عليه من الكفارة كما أفتى به الصحابة رضي الله عنهم وقد تقدم .

فصل

وأما النقض الخامس بمن معه ألف دينار فاشترى بها جارية وأولدها ، فهذا أيضا نقض فاسد ; فإنه بمنزلة من أنفقها في شهواته وملاذه ، وقعد ملوما محسورا ، أو تزوج بها امرأة وقضى وطره منها ونحو ذلك .

فأين هذا من سد باب الطلاق وبقاء المرأة كالغل في عنقه إلى أن يموت أحدهما ؟

فصل [ لم تبن الشرائع على الصور النادرة ] .

وقولكم : " قد يكون له في هذه اليمين مصلحة وغرض صحيح ، بأن يكون محبا لزوجته ويخشى وقوع الطلاق بالحلف أو غيره فيسرحها " جوابه أن الشرائع العامة لم تبن على الصور النادرة ، ولو كان لعموم المطلقين في هذا مصلحة لكانت حكمة أحكم الحاكمين تمنع الرجال من الطلاق بالكلية ، وتجعل الزوج في ذلك بمنزلة المرأة لا تتمكن من فراق زوجها .

ولكن حكمته تعالى أولى وأليق من مراعاة هذه المصلحة الجزئية التي في مراعاتها تعطيل مصلحة أكبر منها وأهم ، وقاعدة الشرع والقدر تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات أدناهما ، ودفع أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما ، وهكذا ما نحن فيه سواء ; فإن مصلحة تمليك الرجال الطلاق أعلى وأكبر من مصلحة سده عليهم ، ومفسدة سده عليهم أكبر من مفسدة فتحه لهم المفضية إلى ما ذكرتم .

وشرائع الرب تعالى كلها حكم ومصالح وعدل ورحمة ، وإنما العبث والجور والشدة في خلافها ، وبالله التوفيق . [ ص: 218 ] وإنما أطلنا الكلام في هذه المسألة لأنها من أمهات الحيل وقواعدها ، والمقصود بيان بطلان الحيل ; فإنها لا تتمشى على قواعد الشريعة ولا أصول الأئمة ، وكثير منها - بل أكثرها - من توليدات المنتسبين إلا الأئمة وتفريعهم ، الأئمة براء منها .

التالي السابق


الخدمات العلمية