الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ شراء الوكيل ما وكل فيه لنفسه ]

المثال الثاني عشر : لو وكله أن يشتري له جارية معينة ، فلما رآها الوكيل أعجبته وأراد شراءها لنفسه من غير إثم يدخل عليه ولا غدر بالموكل جاز ذلك ; لأن شراءه إياها لنفسه عزل لنفسه وإخراج لها من الوكالة ، والوكيل يملك عزل نفسه في حضور الموكل وغيبته ، وإذا عزل [ نفسه ] واشترى الجارية لنفسه بماله ملكها ، وليس في ذلك بيع على بيع أخيه أو شراء على شراء أخيه ، إلا أن يكون سيدها قد ركن إلى الموكل وعزم على إمضاء البيع له ; فيكون شراء الوكيل لنفسه حينئذ حراما ; لأنه شراء على شراء أخيه ، ولا يقال : " العقد لم يتم والشراء على شرائه هو أن يطلب من البائع فسخ العقد في مدة الخيار ويعقد معه هو " لعدة أوجه :

أحدها : أن هذا حمل للحديث على الصورة النادرة ، والأكثر خلافها .

الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن ذلك بخطبته على خطبة أخيه ، وذلك إنما يكون قبل عقد النكاح .

الثالث : أنه { نهي أن يسوم على سوم أخيه } ، وذلك أيضا قبل العقد .

الرابع : أن المعنى الذي حرم الشارع لأجله ذلك لا يختص بحالة الخيار ، بل هو قائم بعد الركون والتراضي وإن لم يعقداه كما هو قائم بعد العقد .

الخامس : أن هذا تخصيص لعموم الحديث بلا موجب ، فيكون فاسدا ، فإن شراءه على شراء أخيه متناول لحال الشراء وما بعده ، والذي غر من خصه بحالة الخيار ظنه أن هذا اللفظ إنما يصدق على من اشترى بعد شراء أخيه ، وليس كذلك ، بل اللفظ صادق على القسمين .

السادس : أنه لو اختص اللفظ بما بعد الشراء لوجب تعديته بتعدية علته إلى حالة السوم .

أما على أصل أبي حنيفة فلا يتأتى ذلك ; لأن الوكيل لا يملك عزل نفسه في غيبة الموكل ، فلو اشتراها لنفسه لكان عزلا لنفسه في غيبة موكله ، وهو لا يملكه . [ ص: 270 ] قالوا : فالحيلة في شرائها لنفسه أن يشتريها بغير جنس الثمن الذي وكل أن يشتري به ، وحينئذ فيملكها ; لأن هذا العقد غير الذي وكل فيه ، فهو بمنزلة ما لو وكله في شراء شاة فاشترى فرسا ; فإن العقد يكون للوكيل دون الموكل ; فإن أراد الموكل الاحتراز من هذه الحيلة وأن لا يمكن الوكيل من شرائها لنفسه فليشهد عليه أنه متى اشتراها لنفسه فهي حرة ; فإن وكل الوكيل من يشتريها له انبنى ذلك على أصلين :

أحدهما : أن الوكيل هل له أن يوكل أم لا ؟

والثاني : أن من حلف لا يفعل شيئا ; فوكل في فعله هل يحنث أم لا ؟

وفي الأصلين نزاع معروف ، فإن وكله رجل في بيع جارية ووكله آخر في شرائها ، وأراد هو شراءها لنفسه فالحكم على ما تقدم ، غير أن هاهنا أصلا آخر ، وهو أن الوكيل في بيع الشيء هل يملك بيعه لنفسه ؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد ; إحداهما : لا يملك ذلك سدا للذريعة ; لأنه لا يستقصي في الثمن ، والثانية : يجوز إذا زاد على ثمنها في النداء لتزول التهمة ; فعلى هذه الرواية يفعل ذلك من غير حاجة إلى حيلة ، والثانية لا يجوز فعل هذا ، وهل يجوز له التحيل على ذلك ؟ فقيل : له أن يتحيل عليه بأن يدفع إلى غيره دراهم ويقول له : اشترها لنفسك ، ثم يتملكها منه ، والذي تقتضيه قواعد المذهب أن هذا لا يجوز ; لأنه تحيل على التوصل إلى فعل محرم ، ولأن ذلك ذريعة إلى عدم استقصائه واحتياطه في البيع ، بل يسامح في ذلك لعلمه أنها تصير إليه ، وأنه هو الذي يزن الثمن ، ولأنه يعرض نفسه للتهمة ، ولأن الناس يرون ذلك نوع غدر ومكر ; فمحاسن الشريعة تأبى الجواز .

فإن قيل : فلو وكله أحدهما في بيعها والآخر في شرائها ولم يرد أن يشتريها لنفسه ; فهل يجوز ذلك ؟ .

قيل : هذا ينبني على شراء الوكيل في البيع لنفسه ; فإن أجزناه هناك جاز هاهنا بطريق الأولى ، وإن منعناه هناك ، فقال القاضي : لا يجوز أيضا هاهنا ; لتضاد الغرضين ; لأن وكيل البيع يستقصي في زيادة الثمن ، ووكيل الشراء يستقصي في نقصانه ; فيتضادان ، ولم يذكر غير ذلك ، ويتخرج الجواز - وإن منعنا الوكيل من الشراء لنفسه من نص أحمد - على جواز كون الوكيل في النكاح وكيلا من الطرفين ، وكونه أيضا وليا من الطرفين ، وأنه يلي بذلك على إيجاب العقد وقبوله ، ولا ريب أن التهمة التي تلحقه في الشراء لنفسه أظهر من التهمة التي تلحقه في الشراء لموكله .

والحيلة الصحيحة في ذلك كله أن يبيعها بيعا بتاتا ظاهرا لأجنبي يثق به ، ثم يشتريها منه شراء مستقلا ; فهذا لا بأس به ، والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية