الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ أمثلة من تناقض القياسيين ] فمن ذلك أنهم أجازوا الوضوء بنبيذ التمر وقاسوا في أحد القولين عليه سائر الأنبذة ، وفي القول الآخر لم يقيسوا عليه ، فإن كان هذا القياس حقا فقد تركوه ، وإن كان باطلا فقد استعملوه ، ولم يقيسوا عليه الخل ولا فرق بينهما ، وكيف كان نبيذ التمر تمرة طيبة وماء طهورا ، ولم يكن الخل عنبة طيبة وماء طهورا ، والمرق لحما طيبا وماء طهورا ، ونقيع المشمش والزبيب كذلك ؟ فإن ادعوا الإجماع على عدم الوضوء بذلك فليس فيه إجماع .

فقد قال الحسن بن صالح بن حي وحميد بن عبد الرحمن : يجوز الوضوء بالخل ، وإن كان الإجماع كما ذكرتم فهلا قستم المنع من الوضوء بالنبيذ على ما أجمعوا عليه من المنع من الوضوء بالخل ؟ فإن قلتم : اقتصرنا على موضع النص ولم نقس عليه ، قيل لكم : فهلا سلكتم ذلك في جميع نصوصه ، واقتصرتم على محالها الخاصة ، ولم تقيسوا عليها ؟ فإن قلتم : لأن هذا خلاف القياس ، قيل لكم : فقد صرحتم أن ما ثبت على خلاف القياس يجوز القياس عليه ، ثم هذا يبطل أصل القياس ، فإنه إذا جاز ورود الشريعة بخلاف القياس علم أن القياس ليس من الحق ، وأنه عين الباطل ، فإن الشريعة لا ترد بخلاف الحق أصلا ، ثم من قاعدتكم أن خبر الواحد إذا خالف الأصول لم يقبل ، وفي أي الأصول وجدتم ما يجوز التطهير به خارج المصر والقرية ولا يجوز التطهير به داخلهما ؟ فإن قالوا : اقتصرنا في ذلك على موضع النص ، قيل : فهلا اقتصرتم به على خارج مكة فقط حيث جاء الحديث ؟ وكيف [ ص: 206 ] ساغ لكم قياس الغسل من الجنابة في ذلك على الوضوء دون قياس داخل المصر على خارجه ؟ وقياس العنبة الطيبة والماء الطهور واللحم الطيب والماء الطهور والدبس الطيب والماء الطهور على الثمرة الطيبة والماء الطهور ، فقستم قياسا ، وتركتم مثله ، وما هو أولى منه ، فهلا اقتصرتم على مورد الحديث ولا عديتموه إلى أشباهه ونظائره ؟

ومن ذلك أنكم قستم على خبر مروي { يا بني المطلب إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس } فقستم على ذلك الماء الذي يتوضأ به ، وأبحتم لبني المطلب غسالة أيدي الناس التي نص عليها الخبر ، وقستم الماء المستعمل في رفع الحدث وهو طاهر لاقى أعضاء طاهرة على الماء الذي لاقى العذرة والدم والميتات ، وهذا من أفسد القياس ، وتركتم قياسا أصح منه وهو قياسه على الماء المستعمل في محل التطهير من عضو إلى عضو ومن محل إلى محل ، فأي فرق بين انتقاله من عضو المتطهر الواحد إلى عضوه الآخر وبين انتقاله إلى عضو أخيه المسلم ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد } ، ولا ريب عند كل عاقل أن قياس جسد المسلم على جسد أخيه أصح من قياسه على العذرة والجيف والميتات والدم .

ومن ذلك أنكم قستم الماء الذي توضأ به الرجل على العبد الذي أعتقه في كفارته والمال الذي أخرجه في زكاته ، وهذا من أفسد القياس ، وقد تركتم قياسا أصح في العقول والفطر منه ، وهو قياس هذا الماء الذي قد أدى به عبادة على الثوب الذي قد صلى فيه ، وعلى الحصى الذي رمى به الجمار مرة عند من يجوز منكم الرمي بها ثانية ، وعلى الحجر الذي استجمر به مرة إذا غسله أو لم يكن به نجاسة .

ومن ذلك أنكم قستم الماء الذي وردت عليه النجاسة فلم تغير له لونا ولا طعما ولا ريحا على الماء الذي غيرت النجاسة لونه أو طعمه أو ريحه ، وهذا من أبعد القياس عن الشرع والحسن . وتركتم قياسا أصح منه ، وهو قياسه على الماء الذي ورد على النجاسة ، فقياس الوارد على المورود مع استوائهما في الحد والحقيقة والأوصاف أصح من قياس مائة رطل ماء وقع فيه شعرة كلب على مائة رطل خالطها مثلها بولا وعذرة حتى غيرها .

ومن ذلك أنكم فرقتم بين ماء جار بقدر طرف الخنصر تقع فيه النجاسة فلم تغيره وبين الماء العظيم المستبحر إذا وقع فيه مثل رأس الإبرة من البول ، فنجستم الثاني دون الأول ، [ ص: 207 ] وتركتم محض القياس فلم تقيسوا الجانب الشرقي من غدير كبير في غربيه نجاسة على الجانب الشمالي والجنوبي ، وكل ذلك مماس لما قد تنجس عندكم مماسة مستوية .

وقاسوا باطن الأنف على ظاهره في غسل الجنابة ، فأوجبوا الاستنشاق ، ولم يقيسوه عليه في الوضوء الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بالاستنشاق نصا ، ففرقوا بينهما ، وأسقطوا الوجوب في محل الأمر به ، وأوجبوه في غيره ، والأمر بغسل الوجه في الوضوء كالأمر بغسل البدن في الجنابة سواء .

ومن ذلك أنكم قستم النسيان على العمد في الكلام في الصلاة ، وفي فعل المحلوف عليه ناسيا ، وفيما يوجب الفدية من محظورات الإحرام كالطيب واللباس والحلق والصيد ، وفي حمل النجاسة في الصلاة ، ثم فرقتم بين النسيان والعمد في السلام قبل تمام الصلاة ، وفي الأكل والشرب في الصوم ، وفي ترك التسمية على الذبيحة ، وفي غير ذلك من الأحكام ، وقستم الجاهل على الناسي في عدة مسائل وفرقتم بينهما في مسائل أخر ، ففرقتم بينهما فيمن نسي أنه صائم فأكل أو شرب ، لم يبطل صومه ولو جهل فظن وجود الليل فأكل أو شرب فسد صومه ، مع أن الشريعة تعذر الجاهل كما تعذر الناسي أو أعظم ؟ كما عذر النبي صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته بجهله بوجوب الطمأنينة فلم يأمره بإعادة ما مضى ، وعذر الحامل المستحاضة بجهلها بوجوب الصلاة والصوم عليها مع الاستحاضة ولم يأمرها بإعادة ما مضى ، وعذر عدي بن حاتم بأكله في رمضان حين تبين له الخيطان اللذان جعلهما تحت وسادته ولم يأمره بالإعادة ، وعذر أبا ذر بجهله بوجوب الصلاة إذا عدم الماء فأمره بالتيمم ولم يأمره بالإعادة ، وعذر الذين تمعكوا في التراب كتمعك الدابة لما سمعوا فرض التيمم ولم يأمرهم بالإعادة ، وعذر معاوية بن الحكم بكلامه في الصلاة عامدا لجهله بالتحريم ، وعذر أهل قباء بصلاتهم إلى بيت المقدس بعد نسخ استقباله بجهلهم بالناسخ ولم يأمرهم بالإعادة ، وعذر الصحابة والأئمة بعدهم من ارتكب محرما جاهلا بتحريمه فلم يحدوه .

وفرقتم بين قليل النجاسة في الماء وقليلها في الثوب والبدن ، وطهارة الجميع شرط لصحة الصلاة ، وترك الجميع صريح القياس في مسألة الكلب ، فطائفة لم تقس عليه غيره ، وطائفة قاست عليه الخنزير وحده دون غيره كالذئب الذي هو مثله أو شر منه ، وقياس الخنزير على الذئب أصح من قياسه على الكلب ، وطائفة قاست عليه البغل والحمار ، وقياسهما على الخيل التي هي قرينتهما في الذكر وامتنان الله - سبحانه - على عباده لها بركوبها واتخاذها زينة وملامسة الناس لها أصح من قياس البغل على الكلب ، فقد علم كل أحد أن [ ص: 208 ] الشبه بين البغل والفرس أظهر وأقوى من الشبه بينه وبين الكلب . وقياس البغل والحمار على السنور بشدة ملامستهما والحاجة إليهما وشربهما من آنية البيت أصح من قياسهما على الكلب .

وقستم الخنافس والزنابير والعقارب والصردان على الذباب في أنها لا تنجس بالموت بعدم النفس السائلة لها وقلة الرطوبات والفضلات التي توجب التنجيس فيها ، ونجس من نجس منكم العظام بالموت مع تعريها من الرطوبات والفضلات جملة ، ومعلوم أن النفس السائلة التي في تلك الحيوانات المقيسة أعظم من النفس السائلة التي في العظام .

وفرقتم بين ما شرب منه الصقر والبازي والحدأة والعقاب والأحناش وسباع الطير وما شرب منه سباع البهائم من غير فرق بينهما ، قال أبو يوسف : سألت أبا حنيفة عن الفرق في هذا بين سباع الطيور وسباع ذوات الأربع ، فقال : أما في القياس فهما سواء ، ولكني أستحسن في هذا .

وتركتم صريح القياس في التسوية بين نبيذ التمر والزبيب والعسل والحنطة ونبيذ العنب ، وفرقتم بين المتماثلين ، ولا فرق بينهما ألبتة ، مع أن النصوص الصحيحة الصريحة قد سوت بين الجميع .

وفرقتم بين من معه إناءان طاهر ونجس فقلتم : يريقهما ويتيمم ، ولا يتحرى فيهما ، ولو كان معه ثوبان كذلك يتحرى فيهما ، والوضوء بالماء النجس كالصلاة في الثوب النجس ، ثم قلتم : فلو كانت الآنية ثلاثة تحرى ، ففرقتم بين الاثنين والثلاثة ، وهو فرق بين متماثلين ، وهذا على أصحاب الرأي ، وأما أصحاب الشافعي ففرقوا بين الإناء الذي كله بول وبين الإناء الذي نصفه فأكثر بول ، فجوزوا الاجتهاد بين الثاني والإناء الطاهر ، دون الأول ، وتركوا محض القياس في التسوية بينهما .

وقستم القيء على البول ، وقلتم : كلاهما طعام أو شراب خرج من الجوف ، ولم تقيسوا الجشوة الخبيثة على الفسوة ، ولم تقولوا : كلاهما ريح خارجة من الجوف . وقستم الوضوء وغسل الجنابة على الاستنجاء وغسل النجاسة في صحته بلا نية ، ولم تقيسوهما على التيمم وهما أشبه به من الاستنجاء ، ثم تناقضتم فقلتم : لو انغمس جنب في البئر لأخذ الدلو ولم ينو الغسل لم يرتفع حدثه ، كما قاله أبو يوسف ونقض أصله في أن مس [ ص: 209 ] الماء لبدن الجنب يرفع حدثه وإن لم ينو ، وقال محمد : بل يرتفع حدثه ولا يفسد الماء ، فنقض أصله في فساد الماء الذي يرفع الحدث .

وقستم التيمم إلى المرفقين على غسل اليدين إليهما ، ولم تقيسوا المسح على الخفين إلى الكعبين على غسل الرجلين إليهما ، ولا فرق بينهما ألبتة ، وأهل الحديث أسعد بالقياس منكم كما هم أسعد بالنص .

وقستم إزالة النجاسة عن الثياب بالمائعات على إزالتها بالماء ، ولم تقيسوا إزالتها من القذر بها على الماء ، فما الفرق ؟ ثم قلتم : تزال من المخرجين بكل مزيل جامد ، ولا تزال من سائر البدن إلا بالماء ، وقلتم : تزال من المخرجين بالروث اليابس ، ولا تزال بالرجيع اليابس ، مع تساويهما في النجاسة .

وقستم قليل القيء على كثيره في النجاسة ، ولم تقيسوه عليه في كونه حدثا ، وقستم نوم المتورك على المضطجع في نقض الوضوء ، ولم تقيسوا عليه نوم الساجد .

وتركتم محض القياس المؤيد بالسنة المستفيضة في مسح العمامة - وهي ملبوس معتاد ساتر لمحل الفرض ويشق نزعه على كثير من الناس إما لحنك أو لكلاب أو لبرد - على المسح على الخفين ، والسنة قد سوت بينهما في المسح كما هما سواء في القياس ويسقط فرضهما في التيمم .

وقستم مسح الوجه واليدين في التيمم على الوضوء في وجوب الاستيعاب ، ولم تقيسوا مسح الرأس في الوضوء على الوجه في وجوب الاستيعاب ، والفعل والباء والأمر في الموضعين سواء .

وقستم وجود الماء في الصلاة على وجوده خارجها في بطلان صلاة المتيمم به ، ولم تقيسوا القهقهة في الصلاة على القهقهة في خارجها ، وفرقتم بين تقديم الزكاة قبل وجوبها فأخرجتموه وبين تقديم الكفارة قبل وجوبها فمنعتموه .

وقستم وجه المرأة في الإحرام على رأس الرجل وتركتم قياس وجهها على يديها أو على بدن الرجل ، وهو محض القياس وموجب السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين يديها ووجهها وبين يدي الرجل ووجهه حيث قال { لا تلبس القفازين ولا النقاب } وكذلك قال { لا يلبس المحرم القميص ولا السراويل ولا تنتقب المرأة } فتركتم محض القياس وموجب السنة .

وقستم المزارعة والمساقاة على الإجارة الباطلة فأبطلتموهما ، وتركتم محض القياس وموجب السنة وهو قياسهما على المضاربة والمشاركة فإنهما أشبه بهما منهما بالإجارة ، فإن صاحب الأرض والشجر يدفع أرضه وشجره لمن يعمل عليهما وما رزق الله من نماء فهو بينه وبين العامل ، وهذا كالمضاربة سواء ، فلو لم تأت السنة الصحيحة بجوازها لكان القياس يقتضي جوازها عند القياسيين [ ص: 210 ]

واشترط أكثر من جوزها كون البذر من رب الأرض ، وقاسها على المضاربة في كون المال من واحد والعمل من واحد ، وتركوا محض القياس وموجب السنة ، فإن الأرض كالمال في المضاربة ، والبذر يجري مجرى الماء والعمل فإنه يموت في الأرض ، ولهذا لا يجوز أن يرجع إلى ربه مثل بذره ويقتسما الباقي ، ولو كان كرأس المال في المضاربة لجاز ، بل اشترط أن يرجع إليه مثل بذره كما يرجع إلى رب المال مثل ماله ، فتركوا القياس كما تركوا موجب السنة الصحيحة الصريحة وعمل الصحابة كلهم .

وقستم إجارة الحيوان للانتفاع بلبنه على إجارة الخبز للأكل ، وهذا من أفسد القياس ، وتركتم محض القياس وموجب القرآن ، فإن الله - سبحانه - قال : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } فقياس الشاة والبقرة والناقة للانتفاع بلبنها على الظئر أصح وأقرب إلى العقل من قياس ذلك على إجارة الخبز للأكل ، فإن الأعيان المستخلفة شيئا بعد شيء تجري مجرى المنافع كما جرت مجراها في المنيحة والعارية والضمان بالإتلاف ، فتركتم محض القياس .

وقستم على ما لا خفاء بالفرق بينه وبينه ، وهو أن الخبز والطعام تذهب جملته بالأكل ولا يخلفه غيره ، بخلاف اللبن ونقع البئر ، وهذا من أجل القياس .

وقستم الصداق على ما يقطع فيه يد السارق ، وتركتم محض القياس وموجب السنة ، فإنه عقد معاوضة فيجوز بما يتراضى عليه المتعاوضان ولو خاتما من حديد .

وقستم الرجل يسرق العين ثم يملكها بعد ثبوت القطع على ما إذا ملكها قبل ذلك ، وتركتم محض القياس وموجب السنة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسقط القطع عن سارق الرداء بعدما وهبه إياه صفوان ، وفرقتم بين ذلك وبين الرجل يزني بالأمة ثم يملكها فلم تروا ذلك مسقطا للحد ، مع أنه لا فرق بينهما .

وقستم قياسا أبعد من هذا فقلتم : إذا قطع بسرقتها مرة ثم عاد فسرقها لم يقطع بها ثانيا ، وتركتم محض القياس على ما إذا زنى بامرأة فحد بها ثم زنى بها ثانية فإن الحد لا يسقط عنه ، ولو قذفه فحد ثم قذفه ثانيا لم يسقط عنه الحد .

وقستم نذر صوم يوم العيد في الانعقاد ووجوب الوفاء على نذر صوم اليوم القابل له شرعا ، وتركتم محض القياس وموجب السنة ، ولم تقيسوه على صوم يوم الحيض ، وكلاهما غير محل للصوم شرعا فهو بمنزلة الليل [ ص: 211 ]

وقستم وجعلتم المحتقن بالخمر كشاربها في الفطر بالقياس ، ولم تجعلوه كشاربها في الحد .

وقستم الكافر الذمي والمعاهد على المسلم في قتله به ، ولم تقيسوه على الحربي في إسقاط القود . ومن المعلوم قطعا أن الشبه الذي بين المعاهد والحربي أعظم من الشبه الذي بين الكافر والمسلم ، والله - سبحانه وتعالى - قد سوى بين الكفار كلهم في إدخالهم نار جهنم ، وفي قطع الموالاة بينهم وبين المسلمين ، وفي عدم التوارث بينهم وبين المسلمين ، وفي منع قبول شهادتهم على المسلمين ، وغير ذلك ، وقطع المساواة بين المسلمين والكفار ، فتركتم محض القياس - وهو التسوية بين ما سوى الله بينه - وسويتم بين ما فرق الله بينه .

ومن العجب أنكم قستم المؤمن على الكافر في جريان القصاص بينهما في النفس والطرف ، ولم تقيسوا العبد المؤمن على الحر في جريان القصاص بينهما في الأطراف ، فجعلتم حرمة عدو الله الكافر في أطرافه أعظم من حرمة وليه المؤمن ، وكأن نقص المؤمن العبودية الموجب للأجرين عند الله أنقص عندكم من نقص الكفر ، وقلتم : يقتل الرجل بالمرأة ، ثم ناقضتم فقلتم : لا يؤخذ طرفه بطرفها ، وقلتم : يقتل العبد بالعبد وإن كانت قيمة أحدهما مائة درهم وقيمة الآخر مائة ألف درهم ، ثم ناقضتم فقلتم : لا يؤخذ طرفها بطرفه ، إلا أن تتساوى قيمتهما ، فتركتم محض القياس ، فإن الله - سبحانه - ألغى التفاوت بين النفوس والأطراف في الفضل لمصلحة المكلفين ، ولعدم ضبط التساوي ، فألغيتم ما اعتبره الله - سبحانه - من الحكمة والمصلحة ، واعتبرتم ما ألغاه من التفاوت .

وقستم قوله " إن كلمت فلانا أو بايعته فامرأتي طالق وعبدي حر " على ما إذا قال " إن أعطيتني ألفا فأنت طالق " ثم عديتم ذلك إلى قوله " الطلاق يلزمني لا أكلم فلانا " ثم كلمه ، ولم تقيسوه على قوله " إن كلمت فلانا فعلي صوم سنة ، أو حج إلى بيت الله ، أو فمالي صدقة " وقلتم : هذا يمين لا تعليق مقصود ، فتركتم محض القياس ، فإن قوله " الطلاق يلزمني لا أكلم فلانا " يمين لا تعليق ، وقد أجمع الصحابة على أن قصد اليمين في العتق يمنع من وقوعه ، وحكى غير واحد إجماع الصحابة أيضا على أن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق إذا حنث ، وممن حكاه أبو محمد بن حزم ، وحكاه أبو القاسم عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التميمي المعروف بابن بزيزة في كتابه المسمى بمصالح الأفهام في شرح كتاب الأحكام في باب ترجمته الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه .

وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والشرط وغير ذلك : هل يلزم أم لا ؟ فقال علي بن أبي طالب وشريح وطاوس : لا يلزم من ذلك شيء ، ولا [ ص: 212 ] يقضى بالطلاق على من حلف به فحنث ، ولم يعرف لعلي - كرم الله وجهه في الجنة - في ذلك مخالف من الصحابة ، قال : وصح عن عطاء فيمن قال لامرأته " أنت طالق إن لم أتزوج عليك " قال : إن لم يتزوج عليها حتى يموت أو تموت فإنهما يتوارثان ، وهو قول الحكم بن عتبة ، ثم حكي عن عطاء فيمن حلف بطلاق امرأته ليضربن زيدا فمات أحدهما أو ماتا معا فلا حنث عليه ويتوارثان ، وهذا صريح في أن يمين الطلاق لا يلزم ، ولا تطلق الزوجة بالحنث فيها ، ولو حنث قبل موته لم يتوارثا ، فحيث أثبت التوارث دل على أنها زوجة عنده ، وكذلك عكرمة مولى ابن عباس أيضا عنده يمين الطلاق لا يلزم ، كما ذكره عنه سنيد بن داود في تفسيره في سورة النور عند قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } ومن العجب أنكم قلتم : إذا قال " إن شفى الله مريضي فعلي صوم شهر ، أو صدقة ، أو حجة " لزمه ; لأنه قاصد للنذر ، فإذا قال : " إن كلمت فلانا فعلي صوم ، أو صدقة " لم يلزمه ; لأنه لجاج وغضب ، فهو يمين فيه كفارة اليمين ، فجعلتم قصده لعدم الوقوع مانعا من ثلاثة أشياء : إيجاب ما التزم ، ووجوبه عليه ، ووقوعه .

وقلتم : لو قال : " إن فعلت كذا فعلي الطلاق " وفعله لزمه ، ولم يمنع قصد الحلف من وقوعه ، وهو أبغض الحلال إلى الله ، ومنع من وجوب القربات التي هي أحب شيء إلى الله ، فخالفتم صريح القياس والمنقول عن الصحابة والتابعين بأصح إسناد يكون ، ثم ناقضتم القياس من وجه آخر فقلتم : إذا قال " الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله " ثم لم يفعله لم يحنث ; لأنه أخرجه مخرج اليمين ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك } فجعلتموه يمينا ، ثم قلتم : يلزمه وقوع الطلاق ; لأنه تعليق فليس بيمين ، ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم : لو قال : " الطلاق يلزمني لا أجامعها سنة " فهو مول فيدخل في قوله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } والألية والإيلاء والائتلاء هو الحلف بعينه كما في الحديث { تألى على الله أن لا يفعل خيرا } وقال تعالى : { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى } .

وقال الشاعر :

قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت

ثم قلتم : وليس بيمين فيدخل في قوله : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } فيالله العجب ، ما الذي أحله عاما وحرمه عاما ، وجعله يمينا وليس بيمين ؟ ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم : إن قال : " إن فعلت كذا فأنا كافر " وفعله لم يكفر ; لأنه لم يقصد الكفر ، وإنما قصد منع نفسه من الفعل بمنعها من الكفر ، وهذا حق ، لكن نقضتموه [ ص: 213 ] في الطلاق والعتاق مع أنه لا فرق بينهما ألبتة في هذا المعنى الذي منع من وقوع الكفر ، ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم : لو قال : " إن فعلت كذا فعلي أن أطلق امرأتي " فحنث لم يلزمه أن يطلقها ، ولو قال : " إن فعلته فالطلاق يلزمني " : فحنث لم يلزمه أن يطلقها ، ولو قال : " إن فعلته فالطلاق يلزمني " فحنث وقع عليه الطلاق ، ولا تفرق اللغة ولا الشريعة بين المصدر وأن والفعل .

فإن قلتم : الفرق بينهما أنه التزم في الأول التطليق وهو فعله ، وفي الثاني وقوع الطلاق وهو أثر فعله .

قيل : هذا الفرق الذي تخيلتموه لا يجدي شيئا ، فإن الطلاق هو التطليق بعينه ، وإنما أثره كونها طالقا ، وهذا غير الطلاق ، فههنا ثلاثة أمور مرتبة :

التزام التطليق ، وهذا غير الطلاق بلا شك .

والثاني : إيقاع التطليق ، وهو الطلاق بعينه الذي قال الله فيه : { الطلاق مرتان } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { الطلاق لمن أخذ بالساق } .

الثالث : صيرورة المرأة طالقا وبينونتها ، فالقائل " إن فعلت كذا فعلي الطلاق " لم يرد هذا الثالث قطعا ، فإنه ليس إليه ولا من فعله ، وإنما هو إلى الشارع ، والمكلف إنما يلزم ما يدخل تحت مقدرته وهو إنشاء الطلاق ، فلا فرق أصلا بين هذا اللفظ وبين قوله : " فعلي أن أطلق " فالتفريق بينهما تفريق بين متساويين ، وهو عدول عن محض القياس من غير نص ولا إجماع ولا قول صاحب .

يوضحه أن قوله : " فالطلاق لازم لي " إنما هو فعله الذي يلزمه بالتزامه ، وأما كونها طالقا فهذا وصفها ، فليس هو لازما له ، وإنما هو لازم لها . فلينظر اللبيب المنصف الذي العلم أحب إليه من التقليد إلى مقتضى القياس المحض واتباع الصحابة والتابعين في هذه المسألة ، ثم ليختر لنفسه ما شاء ، والله الموفق .

ثم ناقضتم أيضا من وجه آخر فقلتم : لو قال : " إن حلفت بطلاقك أو وقع مني يمين بطلاقك " أو لم يقل بطلاقك بل قال : " متى حلفت أو أوقعت يمينا فأنت طالق " ثم قال : " إن كلمت فلانا فأنت طالق " حنث وقد وقع عليه الطلاق ; لأنه قد حلف وأوقع اليمين ، فأدخلتم الحلف بالطلاق في اسم اليمين والحلف في كلام المكلف ، ولم تدخلوه في اسم اليمين والحلف في كلام الله ورسوله ، وزعمتم أنكم اتبعتم في ذلك القياس والإجماع ، وقد أريناكم مخالفتكم لصريح القياس مخالفة لا يمكنكم الانفكاك عنها بوجه . ومخالفتكم للمنقول عن الصحابة والتابعين كأصحاب ابن عباس ، فظهر عند المنصفين أنا أولى بالقياس والاتباع منكم في هذه المسألة ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية