الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      تفريع [ هل يكفي في الجرح المجمل ] وإذ ثبت أن بيان السبب في الجرح شرط ، قال أصحابنا ومنهم الصيرفي ، وابن فورك والقاضي أبو الطيب : لا يقبل قولهم : فلان ليس بشيء ، ولا فلان ضعيف ، ولا لين ، ماذا بالكذاب ؟ استفسر ، وقيل له : ما تعني ؟ أتعمد الكذب ؟ فإن قال : نعم ، توقف في خبره وإلا فلا ، لأن الكذب لغة يحتمل الغلط ، ووضع الشيء في غير موضعه ، ومنه قوله : كذب أبو محمد في حديث الوتر . يعني : غلط ، وادعى النووي في " شرح مسلم " أن معنى قولهم : لا يقبل الجرح المطلق وجوب التوقف عن العمل بحديثه إلى أن يبحث عن السبب . قلت : وفيه نظر لما سبق ، ويحتمل التفصيل بين من عرفت عدالته فلا أثر للجرح المطلق ، وبين غيره . واستثنى ابن القطان المحدث من هذا الأصل ما إذا كان الراوي لا يعلم حاله ، ولا وثقه موثق . قال : فيقبل فيه الجرح وإن لم يفسر ما به جرحه ; لأنا قد كنا نترك حديثه بما عدمنا من معرفة ثقته . قلت : وفي الحقيقة لا يستثنى . [ ص: 183 ] وحكى ابن عبد البر في " التمهيد " عن محمد بن نصر المروزي أن من ثبتت عدالته برواية أهل العلم عنه وحملهم حديثه ، فليس يقبل فيه تجريح أحد حتى يثبت عليه ذلكبأمر لا يجهل يكون به جرحه ، فأما قولهم : فلان كذاب ، فليس مما يثبت به جرح ، حتى يبين ما قاله . ووافقه على ذلك . وأنكره عليهما أبو الحسن بن المفوز ، وقال : بل الذي عليه أئمة الحديث قبول تعديل من عدل ، وتعديل وتجريح من جرح ، لمن عرف واشتهر بأمانته ومعرفته بالحديث لا خلاف بينهم فيه .

                                                      إذا تعارض الجرح المفسر والتعديل في راو واحد فأقوال . أحدها : يقدم الجرح مطلقا ، وإن كان الذي عدل أكثر ، وهذا ما جزم به الماوردي ، والروياني ، وابن القشيري . وقال : نقل القاضي فيه الإجماع ، ونقله الخطيب ، والباجي عن جمهور العلماء . وقال الآمدي ، والرازي ، وابن الصلاح : إنه الصحيح ; لأن مع الجارح زيادة علم ، لم يطلع عليها المعدل . قال ابن دقيق العيد : وهذا إنما يصح مع اعتقاد المذهب الآخر ، وهو أن الجرح لا يقبل إلا مفسرا ، وبشرط آخر ، وهو أن يكون الجرح بناء على أمر مجزوم به ، أي بكونه جارحا لا بطريق اجتهادي ، كما اصطلح أهل الحديث على الاعتماد في الجرح على اعتبار حديث الراوي مع اعتبار حديث غيره ، والنظر إلى كثرة الموافقة والمخالفة والتفرد والشذوذ . ا هـ .

                                                      وقد استثنى أصحابنا من هذا ما إذا جرحه لمعصية ، وشهد الآخر أنه قد تاب منها ، يقدم التعديل ; لأن معه زيادة علم . [ ص: 184 ] والثاني : عكسه ، وهو تقديم التعديل ; لأن الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحا ، والمعدل إذا كان عدلا مثبتا لا يعدل إلا بعد تحصيل الموجب لقبوله جزما . حكاه الطحطاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ، وقضية هذه العلة تخصيص الخلاف بالجرح غير المفسر .

                                                      والثالث : يقدم الأكثر من الجارحين أو المعدلين . حكاه في " المحصول " ; لأن كثرتهم تقوي حالهم ، ورده الخطيب . والرابع : أنهما متعارضان ، فلا يقدم أحدهما إلا بمرجح ، حكاه ابن الحاجب ثم جعل القاضي في " التقريب " الخلاف فيما إذا كان عدد المعدلين أكثر ، فإن استويا قدم الجرح بالإجماع ، وكذا قال الخطيب البغدادي في " الكفاية " ، وأبو الحسين بن القطان في كتابه ، وأبو الوليد الباجي في " الأحكام " ، وليس كما قالوا ، ففيه الخلاف ، وممن حكاه أبو نصر بن القشيري ، وأنه نصب الخلاف فيما إذا استوى عدد المعدلين والجارحين . قال : فإن كثر عدد المعدلين ، وقل عدد الجارحين ، تقبل العدالة في هذه الصورة أولى .

                                                      واختار القاضي تقديم الجرح ، وقال المازري : قد حكى ابن شعبان في كتابه " الزاهي " الخلاف عند [ ص: 185 ] تساويهما في العدد . أما إذا زاد عدد المجرحين فلا وجه لجريان الخلاف وبه صرح الباجي فقال : لا خلاف في تقديم الجرح ، وقال الماوردي : لا شك فيه ، وهو أولى بأن يكون إجماعا على نقل القاضي أبي بكر . قال : وصورة المسألة حيث لم يمكن الجمع بين القولين ، فإن قال أحدهما : هو عدل ، والآخر هو مجروح ، قدم الجرح قطعا ، ولا يحسن فيه إجراء خلاف ، وإن اختلف العدد ; لأن التعديل مبناه على الظاهر بخلاف الجرح . قال الباجي : فلو نص المجرح على سببه في وقت بعينه ، ونفاه العدد ، تعارضا . قال : وفيه نظر ، وقال الهندي في " النهاية " : متى كان الجرح مطلقا أو معينا بذكر سببه ، ولم يمكن ضبطه كقوله : رأيته يشرب أو سمعت منه الكذب ، قدم على التعديل ; لأنه زيادة لم يطلع عليها المعدل ، ولا نفاها ، فإن نفاها بطلت عدالته ; لعلمنا بمجازفته وجزمه فيما لا يمكن فيه الجزم ، وإن كان معينا بذكر سبب ينضبط به ، ويمكن أن يعلم كقوله : رأيته قد قتل فلانا ، فإن لم يتعرض المعدل لنفيه بل اقتصر على التعديل مطلقا ، أو مع سببه فكالعدم وإن تعرض لنفيه بأن قال : رأيته حيا ، بعد ذلك فهما يتعارضان ، ويصار إلى الترجيح بنحو كثرة العدد والضبط وزيادة الورع وغيرها .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية