الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة

                                                      يجوز إثبات الحدود والكفارات والمقدرات التي لا نص فيها ولا إجماع [ ص: 68 ] بالقياس عندنا خلافا للحنفية ، قاله القاضي أبو الطيب وسليم وابن السمعاني والأستاذ أبو منصور . قال : فأما الاستدلال على المنصوص عليها بالقياس فجائز وفاقا وحكى الباجي عن أصحابهم كقولنا ، وحكاه القاضي في " التقريب " عن الجمهور من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما وقال : إنه الصحيح المختار . وقد قال الشافعي رحمه الله في الأم : ولا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ منهم ربع دينار فصاعدا ، قياسا على السنة في السارق ويتجه أن يخرج له في هذه قولان من اختلاف قوله في تحمل العاقلة الأطراف وأروش الجراحات والحكومات ، فإنه قال في القديم : لا يضرب على العاقلة لأن الضرب على خلاف القياس ، لكن ورد الشرع به في النفس فيقتصر عليها ، ولهذا لا قسامة ولا كفارة في الأطراف . والمشهور أنها تضرب عليهم كدية النفس قياسا بل أولى لأنه أقل .

                                                      وقال الماوردي والروياني : الذي يثبت به القياس في الشرع هو الأحكام المستنبطة من النصوص ، فأما الأسماء والحدود في المقادير ففي جواز استخراجها بالقياس وجهان : أحدهما : يجوز إذا تعلق بأسماء الأحكام كتسمية النبيذ خمرا لوجود معنى الخمر فيه ويجوز أن يثبت المقادير قياسا كما قدرنا أقل الحيض وأكثره ، وهذا اختيار ابن أبي هريرة ، لأن جميعها أحكام والثاني : لا يجوز لأن الأسماء مأخوذة من اللغة دون الشرع ، ومعاني [ ص: 69 ] الحدود غير معقولة والمقادير مشروعة انتهى . وفي بعض النسخ أن الأول هو الصحيح لكن نقل في كتاب الصيام عن علي بن أبي هريرة أنه أوجب بالأكل والشرب كفارة فوق كفارة المرضع والحامل ودون كفارة المجامع : قال : وهذا مذهب لا يستند إلى خبر ولا إلى أثر ولا قياس ، حكاه عنه الرافعي ، قال صاحب " الذخائر " وقد حكى أنه لا وقص في النقدين فيجب فيما زاد على النصاب بحسابه خلافا لأبي حنيفة وأنه اعتبره بالماشية . قال : وهو فاسد ; لأنه قياس في غير محله سيما على رأيهم فإن القياس في المقدرات ممنوع . انتهى .

                                                      وقال الأصحاب فيما إذا قلنا : يمسح على الجبيرة بالماء ، هل يتقدر مدة المسح بيوم وليلة للمقيم وثلاثة للمسافر ؟ وجهان ، أصحهما : لا ، لأن التقدير إنما يعرف بنقل وتوقيف ولم يرد ، ونقل القاضي في " التقريب " والشيخ في " اللمع " عن الجبائي مثل قول الحنفية . قالا : وقيل : يجوز إثبات ذلك بالاستدلال دون القياس . وقال آخرون : لا يجوز مطلقا . وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : منع بعض أهل الكوفة جريان القياس في الزكاة والحدود والمقادير ، وربما ألحق بها الكفارات قال : وما من باب إلا ولهم فيه ضرب من القياس ولا تعلق لهم بغيره ، والظاهر أنهم استعملوه في الوصف إذا ثبت بغير الأصل ، ومنعوه في الإيجاب ، وجوزوه في الترك . انتهى وذكر أبو عبد الله الصيمري من الحنفية في كتابه في الأصول أنه روي عن أبي يوسف إثبات الحدود بخبر الواحد ، قال : فيجوز على قوله إثباته بالقياس ويجوز أن يقال خبر الواحد مقدم على القياس واحتج الشيخ في " اللمع " بأن هذه الأحكام يجوز إثباتها بخبر الواحد فجاز إثباتها بالقياس كسائر الأحكام وهذه العلة تبطل بالنسخ وقد صار المزني إلى أن أقل النفاس أربعة أيام لأن أكثر النفاس مثل أكثر الحيض أربع مرات فليكن أقله مع أقله [ ص: 70 ] كذلك ، وخالفه الأصحاب وقالوا أقله ساعة فقد خالفوا الأصل .

                                                      وقال ابن السمعاني : منع أصحاب أبي حنيفة جريان القياس فيما ذكرناه وقال أبو الحسن الكرخي لا يجوز تعليل الحدود والكفارات والعبادات ، ولهذا منع من قطع النباش بالقياس ، ومنع من إيجاب الحد على اللواط بالقياس ، ومنع من الصلاة بإيماء الحاجب بالقياس ، ومنع من إيجاب الكفارة في قتل العمد بالقياس قال : ولا فرق في الكفارات الجارية مجرى العقوبات وبين ما لا يجري مجرى العقوبات ، ومنع أيضا من إثبات النصب بالقياس . قال : ولهذا الأصل لا تجب الزكاة في الفصلان وصغار الغنم . والأصح على مذهبنا جواز القياس في المقادير . ومنع الكرخي أيضا أن يعلل ما رخص فيه لنوع مساهلة كأجرة الحمام ، وقطع السارق ، والاستصناع على أصولهم فيما جرت العادة فيه مثل الخفاف والأواني وغير ذلك .

                                                      وقد تتبع الشافعي مذهبهم وأبان أنهم لم يفوا بشيء مما ذكروه فقال الشافعي : أما الحدود فقد كثرت أقيستكم فيها تعديتموها إلى الاستحسان وهو في مسألة شهود الزنى فإنهم أوجبوا الحد في تلك المسألة ونصوا أنه استحسان . وأما الكفارات فقد قاسوا الإفطار بالأكل على الإفطار بالوقاع ، وقاسوا قتل الصيد ناسيا على قتله عامدا مع تقييد النص بالعمد في قوله تعالى : { ومن قتله منكم متعمدا } وأما المقدرات فقاسوا فيها ومما أفحشوا في ذلك تقدير عدد الدلاء عند وقوع الفأرة ثم أدخلوا تقديرا على تقدير فقدروا للحمام غير تقدير العصفور والفأرة ، وقدروا الدجاجة على تقدير الحمامة وقدروا الخرص بالقلتين في العشر . وأما الرخص فقد قاسوا فيها وتناهوا في القصد فإن الاقتصار على الأحجار في الاستجمار من أظهر الرخص ثم اعتقدوا أن كل نجاسة نادرة أو معتادة مقيسة على الأثر اللاصق بمحل النجو ، وانتهوا في ذلك إلى نحو نفي إيجاب استكمال الأحجار مع قطع كل منصف بأن الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم فهموا هذا التخفيف منه في هذا الموضع لشدة البلوى . [ ص: 71 ]

                                                      ثم قال الشافعي رحمه الله تعالى : ومن شنيع ما قالوا في الرخص ، إثباتهم لها على خلاف وضع الشرع فيها فإنها شرعت تخفيفا وإعانة على ما يعانيه المرء في سفره من كثرة أشغال قاسوها في سفر المعصية . فهذا الذي ذكروه يزيد على القياس إذ القياس تقدير المنصوص عليه قراره ، وإلحاق غيره به ، وهذا قلب الموضوع المنصوص في الرخص الكلية قال ابن السمعاني : وليس كل من هذه المذكورات يجوز القياس فيها بل الضابط أن كل حكم جاز أن يستنبط منه معنى مخيل من كتاب أو سنة فإنه معلل ، وما لا يصح منه مثل هذا لا يعلل سواء كان من الحدود أو الكفارات . ثم قد تنقسم العلل أقساما ، فقسم يعلل جملته لا تفصيله وهو كل ما يمكن إبداء معنى من أصله وفرعه ، وقسم يعلل جملته وتفصيله لعدم اطراد التعليل في التفاصيل ، وقسم آخر لا تعلل جملته ، لكن بعد ثبوت جملته تعلل تفاصيله ، كالكتابة والإجازة وفروع تحمل العاقلة . وقد يوجد قسم لا يجري التعليل في جملته وتفاصيله ، كالصلاة وما تشتمل عليه من القيام والسجود وغيره وربما يدخل فيه الزكاة ومقادير الأنصبة والأوقاص انتهى .

                                                      وقال إلكيا : نقل عن زعماء الحنفية امتناع القياس في التقديرات والحدود والكفارات والرخص ، ولذلك منعوا إثبات حد السارق في المختلس . وحكي عن أبي حنيفة ما يدل على ذلك ، فإنه لم يثبت لهذا المحصر بدلا عن الصوم وقال : إنه يقتضي إثبات عبادة مبتدأة وكان يقول : إن النصب لا يصح أن تبتدأ بقياس ولا بخبر الواحد ولذلك اعتد في إسقاط الزكاة في الفصيل ، وكان يجوز أن يعمل القياس في نصب ما قد يثبت الزكاة فيها ، كما يجوز أن يعمل القياس في صفة العبادة من وجوب وغيره ، ولذلك قبلوا خبر الواحد في إثبات النصاب فيمن زاد على المائتين ، وفي وجوب الوتر . فقيل لهم : تكلم الناس في الحدود والأيمان بالقياس ، فأجابوا أنه ليس لأجل [ ص: 72 ] إثبات حد به ، وإنما تكلموا لبيان الشبه المسقطة له مع تحقق إثباتها ، وسقوط الحد ليس بحد فيصح القياس . وأوجبوا الكفارة على القتل قياسا على المجامع ، وعلى المرأة كالرجل ، وعلى المجامع ناسيا في الإحرام ، كما لو قتل الصيد خطأ وليس في ذلك شيء من نص ولا عموم ولا إجماع . فأجابوا بأن هذا لم نعلمه قياسا بل استدلالا بالأصول على الأحكام مغاير للقياس لنحو السر . وهذا كله مردود لأنه لا شيء فيها غير القياس . ثم بين ذلك وأطال ، وقال : الذي يستقيم مذهبا للمحصل على ما يراه أن أبا حنيفة إنما قال ذلك في إجراء القياس في أصول الكفارات وأصول الحدود كإلحاق الردة ، والقذف بالقتل في الكفارة وكإلحاق من يكاتب ويطلعهم على عوراتنا بالسارق من حيث إن ذلك يقتضي التصرف في علائق غيب لا يهتدى إليه فانعدم طريق القياس . فامتنع القياس من حيث إن الذي يكاتب الكفار وإن زاد ضرر فعله على ضرر السارق الواحد فهو بالإضافة إلى سارق واحد ، أما بالإضافة إلى الجنس فلا من حيث إن السرقة مما يتشوف إليها الرعاع بخلاف مكاتبة المسلم فإنها لا تكاد توجد ، أو لا يظهر استواء السبب ، فكل ما كان من هذا الجنس فلا يجري فيه القياس لفقد الشرط . تنبيهات

                                                      الأول : أشار الغزالي رحمه الله إلى أن الجاري في الحدود والكفارات ليس قياسا بل هو تنقيح المناط وكذلك في الأسباب ، ونازعهالعبدري في الأسباب ، وقال : هي تخريج ، لا تنقيح .

                                                      الثاني : قال بعضهم : المراد بجريانه في الحدود زيادة عقوبة في الحد ، [ ص: 73 ] لوجود علة تقتضي الزيادة ، كزيادة التعزير في حق الشرب وتبليغه إلى ثمانين ، قياسا على حد القذف . أما إنشاء حد بالقياس على حد فلا يجوز بالاتفاق .

                                                      الثالث : ذكر في " المحصول " تبعا للشيخ في " اللمع " أن العادات لا يجوز القياس فيها ومثله بأقل الحيض وأكثره ، وهذا مخالف لتمثيل الماوردي رحمه الله السابق ، لأنه مثل به للمقادير وقد خطأ من قاس في العبادات بأن هذه أمر وجودي ، فإما أن يكون القياس لإثبات ذلك الموجود في محل آخر ففاسد ، لأن الأمور الوجودية لا تطرد على نظام واحد ، لأنه ليس حكما شرعيا حينئذ ، وإما أن يكون لإثبات الحكم : فإن كانت العادة موجودة في هذا الفرع أثبتنا الحكم فيها فلا حاجة إلى الأصل لأنه مساو للفرع حينئذ في سبب الحكم ، وإن لم يبين وجوده فالحكم مثبت لانتفاء علته .

                                                      الرابع : أن سبب وضع هذه المسألة فيما ذكره ابن المنير أن أبا حنيفة قد اشتهر عنه القول بالقياس والإقبال على الرأي والتقليل من التوقيف والأحاديث ، فتبرأ أصحابه من ذلك فأظهروا أنهم امتنعوا من الرأي والقياس في كثير من القواعد التي قاس فيها أصحاب الحديث . قلت : وكذلك منعهم من التعليل بالعلة القاصرة فهم يدعون أنا أقول بالقياس منهم .

                                                      الخامس : سبق أن أبا حنيفة منع القياس في الكفارات ثم أوجب الكفارة على المفطر بغير الجماع ، والشافعي مع أنه حكي عنه جواز القياس فيها فإنه لا يوجب الكفارة في غير الوقاع . ولهذا قال بعض الفقهاء : ما أجدر كلا من الإمامين أن ينتحل في هذه المسألة مذهب صاحبه ، يعني : أن قياس القول بالقياس في الكفارات عدم تخصيصها بالوقاع دون سائر المفطرات ، [ ص: 74 ] وقياس عدم القياس عدم إيجاب الكفارة في غير الوقاع . وهذا القول جهل بمدارك الأئمة ، فإنهم وإن أثبتوا بالحديث المأمور به بالكفارة بمطلق الإفطار فهذا المطلق هو المقيد بالجماع ، وقد يمكن أن يبنى الخلاف في القياس في الكفارات على أنه هل يجب على المجتهد البحث عن كل مسألة هل يجري القياس فيها أم لا ؟ وهل قام الدليل على أن أدلة القياس عامة بالنسبة إلى آحاد المسائل ؟ وأن العلة الجامعة بين الأصل والفرع في صورة الخلاف الخاصة صحيحة معتبرة في نظر الشرع وخلية عن الاعتبار ؟ وقد أشار ابن السمعاني إلى هذا البناء المذكور .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية