الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ أمثلة للقياس في الرخص ]

                                                      وقد استعمل أصحابنا القياس في الرخص فيما سبق فلنشر إلى ذلك أدنى إشارة ، فإنه يعز استحضاره :

                                                      ومنها : أن السلم رخصة ورد مقيدا بالأجل وجوزه أصحابنا حالا ، لأنه إذا جاز مؤجلا مع الغرر فلأن يجوز حالا أولى لقلة الغرر وقد ينازع في كونه هذا قياسا ، وإنما هو من باب دلالة الفحوى ، أي مفهوم الموافقة ، وفي كونها قياسا خلاف . على أن الغزالي في المستصفى أبدى في كون السلم رخصة احتمالين له .

                                                      ومنها : ثبت في صحيح مسلم النهي عن المزابنة وهي بيع الرطب على النخل بالتمر ثم ورد الترخيص في " العرايا " وهي بيع [ ص: 77 ] الرطب على النخل بتمر في الأرض كذلك مفسرا من طريق زيد بن ثابت وغيره ، وألحق أصحابنا به العنب بجامع أنه زكوي يمكن خرصه ويدخر بالسنة ، فكان كالرطب وإن لم يشمله الاسم . قال ابن الرفعة : وكلام الشافعي في " الأم " يدل على أن الأصل الرطب ، والعنب مقيس عليه ، ولكن الماوردي في " الحاوي " حكى خلافا فقال : اختلف أصحابنا ، هل جازت الرخصة في الكرم نصا أو قياسا ؟ على وجهين : أحدهما : وهو قول البصريين إنها نص فرووا عن زيد بن ثابت { أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في العرايا }

                                                      والعرايا : بيع الرطب بالتمر والعنب بالزبيب . والثاني : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وطائفة من البغداديين إنها جازت قياسا على النخل لبروز ثمرتها وإمكان الخرص فيهما وتعلق الزكاة بهما . قلت : والظاهر ترجيح الثاني وهو الذي يدل عليه كلام الشافعي . وما ذكره الأولون عن زيد بن ثابت غير ثابت بل المعروف عنه خلافه . وقد روى البخاري عنه في صحيحه { أنه عليه الصلاة والسلام رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غيره } ، ومن توابع ذلك أنه هل يلتحق بهما ما سواهما من الأشجار ؟ قولان ، مدركهما جواز القياس في الرخص ، والأصح أنه لا يلحق . ومنها : أن الصلاة تحرم عند الاستواء ، واستثني يوم الجمعة لحديث أبي هريرة فيه ، يستثنى باقي الأوقات في يوم الجمعة ؟ فيه وجهان : أحدهما : نعم كوقت الاستواء تخصيصا ليوم الجمعة وتفضيلا له ، " وأصحهما " المنع ، لأن الرخصة قد وردت في وقت الاستواء خاصة ، فلا يلحق به غيره لقوة عموم النهي .

                                                      ومنها : الرخصة في مسح الخف وردت وهي مقصورة على الضرورة فلا يلحق بها الجرموق على الجديد - لأن الحاجة لا تدعو إليه فلا تتعلق الرخصة به . واستشكل هذا بتجويز المسح على الخف الزجاج والخشب والحديد . [ ص: 78 ] ومنها : لو مسح أعلى الخف وأسفله كفى وهو الأكمل ، لوروده في معجم الطبراني من حديث جابر ، وفي الاقتصار على الأسفل قولان ، أصحهما : المنع ، لأنه رخصة فيقتصر على الوارد . ومنها : التيمم للفرض رخصة للضرورة ، وفي جوازه للنافلة خلاف . ومنها : النيابة في حج الفرض عن المعضوب رخصة ، كما صرح به القاضي الحسين وغيره . ولو استناب في حج التطوع جاز في الأصح . ومنها : أن الرخصة وردت فيمن أقام ببلد لحاجة يتوقعها كل وقت فله أن يقصر ثمانية عشر يوما ، ولا يجوز له الترخص بغير ذلك . لكن هل يتعدى هذا الحكم لباقي الرخص من الجمع والفطر والمسح وغيرها ؟ لم يتعرض له الجمهور ، ويحتمل إلحاقه بناء على جواز القياس في الرخصة . وقد نص عليه الشافعي رحمه الله بالنسبة إلى عدم وجوب الجمعة . ويحتمل منعه من جهة أنا منعنا الزيادة على هذه المدة بالنسبة إلى القصر مع ورود أصله فلأن يمتنع رخص ما لم يرد أصله أولى .

                                                      ومنها : أن الرخصة وردت بالجمع بين الصلاتين بالمطر وألحقوا به الثلج والبرد إن كانا يذوبان ، وقيل : لا يرخصان اتباعا للفظ المطر . ومنها : قال الروياني : لا يجوز الجمع بين الجمعة والعصر بعذر المطر تأخيرا ، وكذا تقديما في أصح الوجهين ، لأن الجمعة رخصة في وقت مخصوص فلا يقاس عليه . والمشهور الجواز . ومنها : أن صلاة شدة الخوف لا تختص بالقتال ، بل لو ركب الإنسان سيلا يخاف الغرق وغيره من أسباب الهلاك فإنه يصلي ولا يعيد قياسا على الصلاة في القتال . وأجاب إمام الحرمين في " النهاية " إذ قال : من أصلكم أن الرخص لا تتعدى مواضعها ولذلك لم يثبتوا رخصا في حق المريض بوجهين : [ ص: 79 ] أحدهما : أن هذا بالنص وهو عموم قوله تعالى : { فإن خفتم } والثاني : أنا نجوز القياس في الرخص إذا لم يمنع مانع ، والإجماع يمنع من إجراء رخص السفر في المرض . ومنها : أن صوم أيام التشريق لا يجوز في الجديد ، ويجوز في القديم للمتمتع إذا عدم الهدي ، وفي جوازه لغيره وجهان ، أصحهما المنع ، لأن النهي عام والرخصة في حق المتمتع . ومنها : قال الرافعي وردت السنة بالمساقاة على النخل ، والكرم في معناه . وفي " الكفاية " قيل : إن الشافعي قاس على النخل وقيل : أخذه من النص .

                                                      ومنها : المبيت بمنى للحاج واجب وقد رخص في تركه للرعاة وأهل سقاية العباس ، فهل يلتحق بهم المعذور كأن يكون عنده مريض منزول به محتاج لتعهده ، أو كان به مرض يشق عليه المبيت ، أو له بمكة مال يخاف ضياعه ؟ فيه وجهان : ( أصحهما ) : نعم قياسا على العذر ، والثاني : المنع ، والرخصة وردت لهم خاصة .

                                                      قال في " البحر " : فلو عمل أهل العباس أو غيرهم في غير سقايته هل يجوز لهم ترك المبيت والرمي ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا ، والثاني : نعم ، قياسا عليهم وهكذا ذكره أبو حامد ، ونص الشافعي في " الأوسط " على أنه لا يشركه باقي السقايات وبهذا يعترض على تصحيحه في الروضة الجواز .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية