الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ المسألة ] الثانية [ الصوم واجب على أصحاب الأعذار ] قال كثير من الفقهاء : الصوم واجب على المريض والحائض والمسافر [ ص: 317 ] مع أنه يجوز تركه لهم ; لعموم قوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وجوابه أنه مخصوص بقوله : { فمن كان منكم مريضا } . ونقله ابن السمعاني في " القواطع " ، فقال : ذكر أصحابنا في أصحاب الأعذار الذين لا يتحتم عليهم الصوم في الحال ، كالمريض والمسافر ، أو من لا يجوز له الصوم في الحال ، كالحائض والنفساء ، أن الصوم واجب عليهم ، ويأتون به عند زوال العذر وهو قضاء ، وقال أصحاب أبي حنيفة : لا يجب على الحائض والنفساء والمريض بخلاف المسافر . قال : والقول بإيجابه على الحائض مشكل جدا ، ثم وجهه ، وقال في " المستصفى " : في المسافر مذهبان ضعيفان . أحدهما : مذهب الظاهرية : أنه لا يصح صومه في سفر ، والثاني : مذهب الكرخي : أن الواجب أيام أخر ، ولكن لو صام رمضان صح وكان معجلا للواجب ، كتقديم الزكاة على الحول ، وهو فاسد لظاهر الآية ; لأن الآية لا تفهم إلا الرخصة في التأخير ، ونقل الشيخ أبو إسحاق عن بعض الأشعرية أنه يجب على المسافر صوم أحد الشهرين إما شهر الأمر أو شهر القضاء وأي ما صام كان أصلا ، كالأنواع في كفارة اليمين ، واختاره الإمام الرازي ، ونقله سليم عن الأشعرية . قال : وقالوا في المريض والحائض كقول أهل العراق يعني أنه لا يجب مع العذر .

                                                      وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني : اختلفوا في المريض والمسافر [ ص: 318 ] والحائض الذين لا يلزمهم فعل الصوم في الحال لأجل عذرهم . هل يجب عليهم الصوم في الحال أو بعد زوال العذر ؟ فمذهبنا : أنه واجب عليهم في الحال إلا أنهم يجوز لهم تأخيره إلى أن يزول العذر ، وقال أهل العراق : الصوم واجب على المسافر في الحال دون المريض . قالوا : وأما الحائض فلا يجوز أن يقال : الصوم واجب عليها ، والقول بذلك بدعة ، وقال ابن جماعة المقدسي في " الفروق " : وإياك أن تقول : إن المسافر يخير بين الصوم والفطر فهو خطأ ; لأن التخيير الواجب غير كونه واجبا . فلا يتصور التخيير بين واجب ومباح ، بل العبارة الصحيحة أن يتخير بين فعل الصوم وبين فعل العزم على قضائه ، فيكون العزم بدلا عن الصوم من الوقت ، وحاصله : الوجوب في حق المسافر والمريض ، وأما الحائض ففي وجوبه عليها وجهان . صحح الشيخ أبو إسحاق وغيره الوجوب ، ونقله ابن برهان عن كافة الفقهاء منا ومن الحنفية ، ونقل عن المتكلمين منا ومن المعتزلة أنها لا تخاطب به ، وهو الذي نصره ابن القشيري . وقال النووي في " الروضة " : إنه الأصح ، إذ القضاء لا يجب إلا بأمر جديد . قلت : وهو الذي نص عليه الشافعي في " الرسالة " ، فقال : وقد ذكر أن التكليف إنما يتعلق بالبالغين .

                                                      [ ص: 319 ] قال الشافعي : وهكذا التنزيل في الصوم والصلاة على البالغين العالمين دون من لم يبلغ ، ومن بلغ ممن غلب على عقله من ذوي الحيض في أيام حيضهن . هذا لفظه ، وقال الآمدي : والحق في ذلك : إن أريد بكونها مكلفة بتقدير زوال المانع فحق ، وإن أريد أنها تؤمر بالإتيان بالصوم حالة الحيض فباطل ، وهو يشير إلى أن الخلاف لفظي ، وبذلك صرح الشيخ أبو إسحاق أيضا ، وقيل : بل يظهر في النية إذا قلنا : يجب التعرض للأداء والقضاء . وحكى إلكيا الطبري وجوبه عليها بمعنى ترتبه في ذمتها لا وجوب أدائه ، ولهذا يسمى ما تؤديه بعد الحيض قضاء ، ورأيت من يحكي ذلك عن نص الشافعي ، وحينئذ فيصير النزاع لفظيا ; لأن القائل بالوجوب لا يعني غير ذلك ، فبقي الخلاف في أنه هل يوصف بالوجوب قبل الطهر أم لا ؟ ونظير هذا ، أن الدين المؤجل هل يوصف قبل الحلول بالوجوب ؟ فيه وجهان : حكاهما الرافعي عن القفال في باب الدعاوى .

                                                      وفرع عليهما ما لو ادعى عليه دينا مؤجلا قبل المحل فله أن يقول في الجواب : لا يلزمني دفع شيء إليك الآن ويحلف عليه ، وهل يقول لا شيء علي مطلقا ؟ قال القفال : فيه وجهان مبنيان على هذا . قلت : والمسألة إنما تتصور على القول المرجوح في صحة سماع الدعوى بالدين المؤجل ، والمذهب المنصوص كما حكاه الغزالي في كتاب " التدبير " : أنها لا تسمع ، إذ لا يتعلق بها إلزام ومطالبة فلا فائدة فيها .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية