الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 20 ] الخامسة : استصحاب الحكم الثابت بالإجماع في محل الخلاف : وهو راجع إلى حكم الشرع ، بأن يتفق على حكم في حالة ثم تتغير صفة المجمع عليه ويختلف المجمعون فيه ، فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال . مثال : إذا استدل من يقول : إن المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته ، لأن الإجماع منعقد على صحتها قبل ذلك ، فاستصحب إلى أن يدل دليل على أن رؤية الماء مبطلة . وكقول الظاهرية : يجوز بيع أم الولد ، لأن الإجماع انعقد على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاد ، فنحن على ذلك الإجماع بعد الاستيلاد . وهذا النوع هو محل الخلاف ، كما قاله في القواطع " وكذا فرض أئمتنا الأصوليون الخلاف فيها : فذهب الأكثرون - منهم القاضي ، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والغزالي - إلى أنه ليس بحجة . قال الأستاذ أبو منصور : وهو قول جمهور أهل الحق من الطوائف ، وقال الماوردي والروياني في كتاب القضاء " : إنه قول الشافعي وجمهور العلماء ، فلا يجوز الاستدلال بمجرد الاستصحاب ، بل إن اقتضى القياس أو غيره إلحاقه بما قبل الصفة ألحق به ، وإلا فلا .

                                                      وقال ابن السمعاني : إنه الصحيح من المذهب . وذهب أبو ثور وداود الظاهري إلى الاحتجاج به ، ونقل ابن السمعاني عن المزني وابن سريج والصيرفي وابن خيران ، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي علي القطني ، وأبي الحسين القطان . قال الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب " : " كان أبو الحسين بن القطان شديد القول به ، حتى أنه لو اقتصر ما كان يخرج إلى استصحاب الحال . قال : وإنما أخذه أهل الكوفة من أصحابنا ، وأهل ما وراء النهر من أهل سمرقند وغيرهم أيضا شديدو القول به . انتهى .

                                                      واختاره الآمدي وابن الحاجب . وقال سليم في التقريب " إنه الذي ذهب إليه شيوخ أصحابنا ، فيستصحب حكم الإجماع حتى يدل [ ص: 21 ] الدليل على ارتفاعه . وحكي الأول عن الحنفية والظاهرية ومتكلمي الأشعرية . والمعروف عن الظاهرية إنما هو الثاني . قال الشيخ أبو إسحاق ، كان القاضي أبو الطيب يقول : داود لا يقول بالقياس الصحيح ، وهنا يقول بقياس فاسد ، لأنه حمل حالة الخلاف على حالة الإجماع من غير علة جامعة .

                                                      والمختار هو الأول ، لأن محل الوفاق غير محل الخلاف ، فلا يتناوله بوجه ، وإنما يوجب استصحاب الإجماع حيث لا يوجد صفة تغيره ، ولأن الدليل إن كان هو الإجماع فهو محال في محل الخلاف ، وإن كان غيره فلا مستند إلى الإجماع الذي يزعم أنه يستصحب . قال أصحابنا : والقول باستصحاب الإجماع في محل الخلاف يؤدي إلى التكافؤ ، لأنه ما من أحد يستصحب حال الإجماع في شيء إلا ولخصمه أن يستصحبه في مقابله . وبيانه : أن في مسألة التيمم أن للخصم أن يقول : أجمعنا على بطلان التيمم برؤية الماء خارج الصلاة فنستصحبه برؤيته فيها ، وتغير الأحوال لا عبرة به . ونقل إلكيا عن الأستاذ أبي إسحاق أنه استدل على النكاح بلا ولي بأن الأصل في الأبضاع التحريم ، فمن ادعى ما يبيح فعليه الدليل ( قال ) : وهذا ليس بشيء ، فإنه يقال : الأصل التحريم قبل وجود أصل النكاح أو بعده ؟ .

                                                      [ ص: 22 ] إن قلت : قبله ، فمسلم ، أو بعده ، فهو محل النزاع ، ويمكن أن يجعل ذلك معارضة لكلامه . قلت : قال الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب " : واتفق أن حضرني أبو علي الهروي يعني الزبيري ، وقال أنا أقرر الاستصحاب في موضع لا يمكن فيه المعارضة ، فقلت : هات فقال : إذا قال المستدل في إبطال الوقف : أن ما وقف قد تقرر بالاتفاق ملك المالك عليه فلا يزال إلا بدليل . فقلت : العكس فيه من وجوه : أحدها : أن يقال : ما يحصل من المنافع بعد الوقف قد حصل الاتفاق على أنها غير مملوكة ، لكونها معدومة ، فلا تدخل في ملك الواقف إلا بدليل . الثاني : أن الأصل أن لا ملك للواقف على الكراء الذي يأخذ بدلا عن المنافع ، فلا يملك إلا بدليل . الثالث : ما يتصرف فيه بعد الوقف من بيعه وهبته ، الأصل أنه لم يكن ثابتا . قال الأستاذ : إذا كانت مسائل الاستصحاب هكذا ، فلا يجوز أن يجعل من جملة الأدلة في الأحكام قال : وما ادعوه على الشافعي رضي الله عنه أنه قال بالاستصحاب فلم يذكره احتجاجا على طريق الابتداء ، وإنما ذكره على سبيل الترجيح بعد تعارض الأدلة . انتهى .

                                                      وقد أنكر ابن السمعاني القول بالاستصحاب جملة ، وقال : إنه الصحيح من مذهبنا . أما في استصحاب العام والنص قبل الخاص والناسخ فليس ذلك استصحابا ، لأن الدليل قائم وهو العام والنص . وأما استصحاب دليل العقل في براءة الذمة فإنما وجب استصحاب براءة الذمم لأن دليل العقل في براءة الذمة قائم في موضع الخلاف أيضا ، كما في العام والنص ، فوجب [ ص: 23 ] الحكم به . وأما في استصحاب الإجماع فالإجماع الذي كان دليلا على الحكم قد زال في موضع الخلاف فوجب طلب دليل آخر .

                                                      وهذه الطريقة حسنة ، وقد سبقه إليها إمام الحرمين . وبه تبين أن الخلاف فيما عدا استصحاب الإجماع لفظي ، وبه صرح إمام الحرمين . ثم قال ابن السمعاني : إنا لا نثبت براءة الذمة باستصحاب الحال ولا نحكم لشيء لأجل الاستصحاب ، لكن نطلب من المدعي حجة يقيمها ، فإذا لم يقم بقي الأمر على ما كان من غير أن تحكم بثبوت شيء . والخلاف واقع في ثبوت الحكم باستصحاب الحال ، وهذا لا نقول به في موضع ما . انتهى . وهذه طريقة أخرى تغاير الأولى ، قد ذكرها المتأخرون ، وحاصلها التفصيل بين الدوام والابتداء ، ونقول : ليس في الدوام إثبات ، وإنما هناك استمرار ما كان لعدم طريان ما يرفعه . وهي تنبني على الخلاف الكلامي في أن الباقي في محل البقاء هل يحتاج إلى مؤثر ؟ وفيه قولان : فإن قلنا : لا يحتاج وصحت وإلا لم ينتهض ، لأنك في الدوام تريد دليلا وأنت مثبت به فكيف نقول : لم نحكم لشيء ؟ وهذا الخلاف في أن الباقي هل يحتاج إلى مؤثر ينبني على اختلاف آخر في أن علة الحاجة إلى المؤثر ، هل هي الإمكان أو الحدوث أو مجموعهما ، أو الإمكان بشرط الحدوث ، والحق أن العلة الإمكان ، وأن الباقي يحتاج إلى مؤثر ، كما تقرر في علم الكلام ، فعلى هذا لا تنتهض هذه الطريقة . وممن زعم أن الخلاف لفظي ابن برهان فقال في كتابه الكبير : إذا حقق استصحاب الحال لم يبق خلاف ، فإن قول القائل : الأصل يقتضي كذا ، فإنما يتمسك به إلى أن يقوم دليل على خلافه إما أن يريد بالأصل أصل الشرع ، أو أصل العقل ، فإن أراد العقل فالخصم لا يعترف أن العقل يقتضي حكما ، ولأن الأحكام العقلية إنما تثبت بدليل عقلي ، فلا يستصحب الحال فيها .

                                                      وإن أراد أصل الشرع فباطل أيضا ، لأن الأحكام الشرعية إنما .

                                                      [ ص: 24 ] تثبت بأدلة شرعية . وهذه طريقة أخرى . وقد يقال بالتزام الثاني بدليل شرعي مستقرأ من جزئيات الشريعة في العمل به . وبقي من الأنواع ما ذكره القاضي شريح الروياني أحد أئمة أصحابنا في كتاب روضة الحكام " أنه إذا كان للشيء أصل معلوم من الوجوب أو الحل أو الحظر فإنه يرد إليه ، ولا يترك بالشك ، ولا يخرج عنه إلا بدليل . فلو أسلم إليه في لحم ، فأتاه المسلم إليه بلحم ، فقال المسلم هو لحم ميتة ، أو ذكاة مجوسي ، فالقول قول القابض ، لأن الأصل تحريم ذلك ، لأن الحيوان إن كان محرما يبقى التحريم ما لم يعلم زواله . ولو اشترى صاعا من ماء بئر فيه قلتان ، ثم قال : أرده بالعيب فإن فأرة وقعت فيها ، فالقول قول الدافع ، لأن الأصل طهارة الماء . انتهى . وجعل ابن القطان القول بالاستصحاب يرجع إلى أن الباقي لا دليل عليه ، وهو أنه متى كنا على حال مجمع عليها فنحن عليها ، فمن ادعى الانفصال عنها احتاج إلى دليل . قال القرطبي : القول بالاستصحاب لازم لكل أحد ، لأنه أصل تنبني عليه النبوة والشريعة ، فإنا إن لم نقل باستمرار حال تلك الأدلة لم يحصل العلم بشيء من تلك الأمور . انتهى .

                                                      وقد سبق أن هذا محل وفاق . وأما الأستاذ أبو منصور فجعل الخلاف معنويا مبنيا على الخلاف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع ، فمن زعم أنها مباحة استصحب الحال في كل ما رآه مباحا فلا يحظره إلا بدليل .

                                                      ومن زعم أنها محرمة لم يستصحب شيئا . السادسة : وتصلح أن تكون قسيما لما سبق : استصحاب الحاضر في الماضي : وهو المقلوب فإن القسم الأول ثبوت أمر في الثاني لثبوته في الأول ، لفقدان ما يصلح للتعيين . وهذا القسم في ثبوته في الأول لثبوته [ ص: 25 ] في الثاني ، كما إذا وقع النظر في أن زيدا هل كان موجودا أمس في مكان كذا .

                                                      ووجدناه موجودا فيه اليوم ؟ فيقال : نعم ، إذ الأصل موافقة الماضي للحال . وهذا القسم لم يتعرض له الأصوليون ، وإنما ذكره بعض الجدليين من المتأخرين . فنقول : إذا ثبت استعمال اللفظ في هذا المدعي فندعي أنه كان مستعملا قبل ذلك ، لأنه لو كان الوضع غيره فيما سبق لزم أن يكون قد تغير إلى هذا الوضع ، والأصل عدم تغيره .

                                                      قال ابن دقيق العيد : وهذا كلام ظريف وتصرف غريب قد يتبادر إلى إنكاره ، ويقال : الأصل استقرار الواقع في الزمن الماضي إلى هذا الزمن ، أما أن يقال : الأصل انعطاف الواقع في هذا الزمان على الزمان الماضي فلا . وجوابه أن يقال : هذا الوضع ثابت ، فإن كان هو الذي وقع في الزمان الماضي فهو المطلوب ، وإن لم يكن فالواقع في الزمن الماضي ، فعاد الأمر إلى أن الأصل استصحاب الحال في الزمن الماضي .

                                                      وهذا وإن كان طريقا ، كما ذكرنا ، إلا أنه طريق جدل لا جلد ، والجدل طريق في التحقيق سالك على محج مضيق ، وإنما تضعف هذه الطريقة إذا ظهر لنا تغير الوضع ، فأما إذا استوى الأمران فلا بأس . قلت : وأما الفقهاء فظاهر قولهم إن الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن منافاة هذا القسم . وقال بعضهم : لم يقل به أصحابنا الفقهاء إلا في صورة واحدة ، وهي [ ما ] إذا اشترى شيئا وادعاه مدع وأخذه منه بحجة مطلقة ، فإنه يثبت له الرجوع على البائع .

                                                      قالوا : فإن البينة لا توجب الملك ولكنها تظهره ، فيجب أن يكون الملك سابقا على إقامتها ويقدر له لحظة لطيفة . ومن المحتمل انتقال الملك من المشتري إلى المدعي ولكنهم استصحبوا مقلوبا ، وهو عدم الانتقال فيه فيما مضى ، استصحابا للحال . وكذلك قالوا : إذا وجدنا ركازا ولم ندر هل هو إسلامي أم جاهلي ؟ يحكم بأنه جاهلي على وجه ، لأنا استدللنا بوجوده في الإسلام على .

                                                      [ ص: 26 ] أنه كان موجودا قبل ذلك . قلت : ومثله : إذا أشكل حال القرية التي فيها الكنيسة هل أحدثها المسلمون أم لا ؟ فقال الروياني : تقر ، استصحابا لظاهر الحال . ولم يحك الرافعي غيره . ويقاربها صور ( منها ) : لو أحرم بالحج وشك هل أحرم قبل أشهره أو بعدها ؟ كان محرما بالحج قالوا : لأنه على يقين منه هذا الزمن وفي شك مما تقدمه ، ويمكن أن يوجد أيضا ، فهذه القاعدة . ( ومنها ) : إذا اختلف الغاصب والمالك فالصحيح تصديق المالك . فقد استصحبوا مقلوبا ، وهو الحدوث فيما مضى استصحابا للحاضر . ويمكن خلافه ، وكذلك مسائل الانعطاف في استصحاب حكم الصوم على من نوى في النفل قبل الزوال ، والثواب على الوضوء جميعه إذا نوى عند غسل الوجه على وجه ، وتعليق العتق على قدوم زيد ، ثم يبيعه ، فقدم زيد ذلك اليوم ، ونظائره . .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية