الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      التفريع التعادل الذهني حكمه : الوقف ، أو التساقط ، أو الرجوع إلى غيرهما ، وأما التعادل في نفس الأمر فإن قلنا بالجواز وتعادلا ، وعجز المجتهد عن الترجيح وتحير ولم يجد دليلا آخر ، فاختلفوا على مذاهب : أحدها : أنه يتخير ، وبه قال الجبائي وابنه أبو هاشم قال إلكيا : وسويا في ذلك بين تعارض الخبرين والقياسين ، ونقله الرازي والبيضاوي عن القاضي ، والذي في التقريب " أنه رأي للقائلين بأن كل مجتهد مصيب والثاني : التساقط كالبينتين إذا تعارضتا ، ويطلب الحكم من موضع آخر ، ويرجع إلى العموم أو إلى البراءة الأصلية ، وهذا ما قطع به ابن كج في كتابه ، قال : لأن دلائل الله سبحانه لا تتعارض ، فوجب أن يستدل بتعارضهما على وهائها جميعا ، أو وهاء أحدها غير أنا لا نعرفه ، فأسقطناها جميعا ، وكلامه يشعر بتفريعه على القول بمنع التعادل ونقله إلكيا عن [ ص: 128 ] القاضي ، والأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر ، بالنسبة إلى الحديثين .

                                                      وأنكره ابن حزم في كتاب " الإعراب " ، وقال : إنما هو بعض شيوخنا ، وهو خطأ ، بل الواجب الأخذ بالزائد إذا لم يقدر على استعمالها جميعا ، فاستثنى أحدهما من الآخر ، الثالث : إن كان التعارض بين حديثين تساقطا ولا يعمل بواحد منهما ، أو بين قياسين فيتخير حكاه ابن برهان في الوجيز " عن القاضي ونصره والفرق أنا نقطع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما يتكلم بهما ، فأحدهما منسوخ قطعا ولم نعلمه ، فتركناهما ، بخلاف القياسين ، وقد عرف أن القاضي نسب إليه كل من هذه الأقوال ، الرابع : الوقف كالتعادل الذهني حكاه الغزالي وغيره ، وجزم به سليم في التقريب " ، واستبعده الهندي ، إذ الوقف فيه إلى غاية وأمد ، إذ لا يرجى فيه ظهور الرجحان ، وإلا لم تكن مسألتنا ، بخلاف التعادل الذهني فإنه يتوقف فيه إلى أن يظهر المرجح قلت : لعل قائله أراد بالتوقف عن الحكم والتحاقهما بالوقائع قبل ورود الشرع فيجيء فيه الخلاف المشهور ، لا وقف خبره ، ولم يذكر الإمام في البرهان " غيره ، قال : وهذا حكم الأصولي ، ولكن بما يراه أن الشريعة إذا كانت متعلقة بالمفتين ولم يشعر الزمان منهم فلا يقع مثل هذه الوقعة ، ومن هاهنا حكى ابن برهان في الوجيز " عن الإمام امتناع وجود خبرين لا ترجيح لأحدهما على الآخر .

                                                      والخامس : يأخذ بالأغلظ كما حكاه الماوردي والروياني والسادس : يصار إلى التوزيع إن أمكن تنزيل كل أمارة على أمر والأخرى على غيره كما في الثلثين يقسم بينهما على قول ، وكما في الشفعة توزع على عدد الرءوس وتارة على عدد الأنصباء ، والسابع : إن وقع بالنسبة إلى الواجبات ، فالتخيير ، إذ لا يمتنع [ ص: 129 ] التخيير في الشرع ، كمن ملك مائتين من الإبل وإن وقع بالنسبة إلى حكمين متناقضين ، كالإباحة والتحريم ، فالتساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية ذكره في المستصفى " والثامن : يقلد عالما أكبر منه ، ويصير كالعامي لعجزه عن الاجتهاد ، حكاه إمام الحرمين والتاسع : أنه كالحكم قبل ورود الشرع ، فتجيء فيه الأقوال المشهورة ، حكاه إلكيا الطبري ، وهو غير قول الوقف على ما سبق فيه .

                                                      تنبيهات الأول ما فرضناه من الخلاف عند العجز عن الترجيح وعن دليل آخر هو الصواب وصرح به الغزالي وغيره ، وأطلق جماعة الخلاف في مطلق التعادل ومرادهم ما ذكرناه الثاني ستأتي ، فيما إذا اختلف على العامي جواب مفتيين ، مذاهب أخرى ينبغي استحضارها هنا ، لكن المذهب هناك التخيير ، وهنا اختلف أصحابنا في الترجيح ، والفرق أن العامي يضطر إلى المرجح ، وأما المجتهد فله تصرف وراء التعارض الثالث إذا تخير فللمناظر ثلاثة أحوال : فإن كان مجتهدا تخير في إلحاقه بما شاء إن قلنا : كل مجتهد مصيب ، فإن قلنا : الحق في واحد ، امتنع التخيير ، قاله القاضي في التقريب " ، وإن كان مفتيا ، فقال القاضي : قالت [ ص: 130 ] المصوبة : لا يجوز له تأخير المستفتي ، بل يجزم بمقتضى أحدهما ، وقيل : يجوز وهو الأولى عندنا ، وبه أجاب في المحصول " واستشكل الهندي الجزم بأحدهما ، وقال : ليس في التخيير الأخذ بأي الحكمين شاء ، واختار رأيا ثالثا ، وهو أن المفتي بالخيار بين أن يجزم له الفتيا ، وبين أن يخيره ، إذ ليس في كل واحد منهما مخالفة دليل ولا فساد ، فيسوغ الأمران وإن كان حاكما ، فقال القاضي : أجمع الكل - يعني : المصوبة ، والمخطئة - أنه ليس له تخيير المتحاكمين في الحكم بأيهما شاء ، بل عليه بت الحكم باعتقاده ، لأنه نصب لقطع الخصومات ، ولو خيرهما لما انقطعت خصومتهما ، لأن كل واحد منهما يختار الذي هو أرفق له ، بخلاف حال المفتي فلو اختار القاضي إحدى الأمارتين وحكم بها لم يكن له أن يحكم بالأخرى في وقت آخر لأنه يؤدي إلى اتهامه بالحكم بالباطل ، حكاه القاضي عن كثير من القائلين بأن الكل مصيب ، وحكي عن العنبري جوازه ، وليس ما قاله ببعيد لأن هذه التهمة قائمة في الحكم إذا تغير اجتهاده ، وحكم بالقول وضده .

                                                      وقد قال عمر - رضي الله عنه - في المشركة : ذلك على ما قضينا ، وهذا على ما نقضي نعم ، احتج في المحصول " والمنهاج " للمنع { بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه : لا تحكم في قضية بحكمين مختلفين } وقد أنكر [ ص: 131 ] عليهم هذا الحديث ، وسئل عنه الذهبي فلم يعرفه ، قلت : وهو تحريف ، وإنما هو لأبي بكرة كذلك رواه النسائي في سننه " في الأقضية .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية