الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      فرع [ كون الواحد واجبا وحراما باعتبارين ] قال الجمهور : المجوزون كون الواحد واجبا وحراما باعتبارين هذا إذا أمكن الإتيان بأحدهما منفكا عن الآخر ، أما إذا لم يمكن ذلك بحيث لا يخلو المخاطب عنهما ، بأن يقول : لا تنطق ، ولا تسكت ، ولا تتحرك ، ولا تسكن ، فإن منعنا تكليف المحال منعناه ، وإن جوزناه جوزناه عقلا لكنه لم يقع ، فعلى هذا من توسط أرضا مغصوبة أو تخطى زرع غيره ، ثم تاب وتوجه للخروج ، واختار أقرب الطرق ، أو أدخل فرجه في محرم ، ثم خرج فخروجه واجب لا تحريم فيه ، وإن وجد فيه اعتباران ، الشغل والتفريغ ; لأنه لا يمكن الإتيان بالتفريغ إلا بالشغل . قال القاضي : هذا هو المختار ، وكذلك القول في كف الزاني عن الزنى . قال ابن برهان : وهذا مما أجمع عليه كافة الفقهاء والمتكلمين . وقال أبو هاشم : خروجه كلبثه ; لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه ، وذلك قبيح لعينه فهو منهي عنه بهذا الاعتبار ومأمور به ; لأنه انفصال عن المكث نقله إمام الحرمين عنه ، وحكاه القاضي عن أبي الشمر من [ ص: 353 ] الأصوليين ، وهو في الحقيقة تكليف بالمحال لجمعه بين النقيضين ، فإنه منهي عن الشيء ونقيضه في فعل واحد ، وقد بناه أبو هاشم على أصله الفاسد في الحسن والقبح ، فأصله الفاسد من منع التكليف بالمحال .

                                                      وحاصل الخلاف : أن الأمر الشرعي هل يبقى مستمرا أو ينقطع ؟ وقال إمام الحرمين : إن كان متعمدا لتوسطها فهو مأمور بالخروج ، وإنما يعصي بما تورط به من العدوان السابق ، وقال : وهو مرتبك في المعصية بحكم الاستصحاب مع انقطاع تكليف النهي . وحاصله : أنه عاص في خروجه ولا نهي عليه فسقوط النهي لعدم الإمكان ، وتعصيته لتسببه الأول ، وهو بعيد ، إذ ليس في الشرع معصية من غير نهي ولا عقاب من غير نهي ، وهو قريب من مذهبه في مسألة خطاب الكفار بالفروع . قال : وكذلك من غصب مالا وغاب به ، ثم تاب وتوجه راجعا ، وكذا استبعده ابن الحاجب وضعفه الغزالي لاعترافه بانتفاء النهي ، فالمعصية إلى ماذا تستند ؟ . وحاصله : أنه لا معصية إلا بفعل منهي عنه أو ترك مأمور به ، وقد سلم انتفاء تعلق النهي به فانتهض الدليل عليه ، فإن قيل : فيه جهتان يتعلق الأمر بافتراغ ملك الغير ، والنهي عن اللبث ، كالصلاة في الدار المغصوبة سواء كما قاله في " البرهان " : قلنا : ممنوع ; لأن الخروج شيء واحد ، ولا جهتين لتعذر الامتثال بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة ، فإن الامتثال ممكن ، وإنما جاء الاتحاد من جهة اختيار المكلف ، والتكليف بالمحال لا خير للعبد فيه ، فلا يكلف . [ ص: 354 ]

                                                      قلت : وقد تعرض الشافعي في " الأم " لهذه المسألة فقال في كتاب الحج في المحرم إذا تطيب : ولا رخصة له في تركه إذا قدر على غسله ، وهذا مرخص له في التيمم إذا لم يجد ماء ، ولو غسل الطيب غيره كان أحب إلي ، وإن غسله هو بيده يفتدي من غسله . قيل : إن عليه غسله ، وإن ماسه فلا ، إنما ماسه ليذهبه عنه ، ثم يماسه ليتطيب به ولا يثبته ، وهذا ما وجب عليه الخروج منه خرج منه كما يستطيع ، ولو دخل دار رجل بغير إذن لم يكن جائزا له ، وكان عليه الخروج منها ، ولم أزعم أنه يخرج بالخروج ، وإن كان يمشي ما لم يؤذن له ، ولأن مشيه للخروج من الذنب لا للزيادة منه ، فهكذا هذا الباب كله . ا هـ لفظه . وهو صريح في أن من تورط في الوقوع في حرام فيتخلص منه لا يوصف حالة التخلص بالإثم ; لأنه تارك له فلا يتعلق به تحريم ، كما لو خرج من الدار المغصوبة لا يتعلق به تحريم الدخول . وقال الشيخ أبو محمد الجويني في كتاب الصوم من " الفروق " : قد نص الشافعي على تأثيم من دخل أرضا غاصبا ، ثم قال : فإذا قصد الخروج منها لم يكن عاصيا بخروجه ; لأنه تارك للغصب . ا هـ . والتحقيق : أن نفس إشغال الحيز باق على تحريمه ، ونفس الانتقال هو جائز بل هو واجب ، إذ هو وسيلة إلى ترك الحرام ، ومثله لو قال : إن وطئتك فأنت طالق . هل يمتنع عليه الوطء ؟ . [ ص: 355 ] قال ابن خيران : نعم ; لأن الطلاق يقع عند تغييب الحشفة والنزع يقع بعد وقوع الطلاق ، وقال عامة الأصحاب : بل يجوز ، ونص عليه في " الأم " ; لأن الوطء يقع في النكاح ، والذي يقع بعد وقوع الطلاق هو النزع ، والنزع ترك المأثم ، والخروج عن المعصية ليس بحرام . قال الرافعي : ويشبه ذلك ما لو قال لرجل : ادخل داري ولا تقم فيها .

                                                      ثم ذكر إمام الحرمين أن غرضه يظهر بمسألة ألقاها أبو هاشم ، فحارت فيها عقول الفقهاء وهي من توسط جمعا من الجرحى ، وجثم على صدر واحد منهم ، وعلم أنه لو بقي على ما هو عليه لهلك من تحته ، ولو انتقل لهلك آخر ، يعني مع تساوي الرجلين في جميع الخصال . قال : وهذه المسألة لم أتحصل فيها من قول الفقهاء على ثبت ، والوجه : القطع بسقوط التكليف عن صاحب الواقعة مع استمرار حكم سخط الله وغضبه ، ووجه السقوط استحالة التكليف بالمحال واستمرار العصيان ، لتسببه إلى ما لا يخلص منه ، ولو فرض إلقاء رجل على صدر آخر ، بحيث لا ينسب إلى الواقع اختيار فلا تكليف ولا عصيان . وقال الغزالي : يحتمل ذلك ، ويحتمل أن يقال : يمكث ، فإن الانتقال فعل مستأنف ، ويحتمل التخيير ، وقال في " المنخول " : المختار أنه لا حكم لله فيه ، فلا يؤمر بمكث ولا انتقال ، ولكن إن تعدى في الابتداء [ ص: 356 ] استصحب حكم العدوان ، وإن لم يتعد فلا تكليف عليه ، ونفى الحكم حكم الله في هذه الصورة .

                                                      وقال في آخر الكتاب حكم الله فيه أن لا حكم ، وهو نفي الحكم . هذا ما قاله الإمام فيه ، ولم أفهمه بعد ، وقد كررته عليه مرارا ، ولو جاز أن يقال : نفي الحكم حكم لجاز أن يقال ذلك قبل ورود الشرائع ، وعلى الجملة جعل نفي الحكم حكما تناقض ، فإنه جمع بين النفي والإثبات إن كان لا يعني به تخيير المكلف بين الفعل والترك ، وإن عناه فهو إباحة محققة لا دليل عليها . قال الإبياري ، وهذا أدب حسن مع الإمام ، وقوله : هذا لا أفهمه يعني لا لعجز السامع عن فهمه بل لكونه غير مفهوم في نفسه . ا هـ . وللإمام أن يقول : أردت انتفاء الحكم يعني الحكم الخاص وهي الأحكام الخمسة ، وتكون البراءة الأصلية حكما لله بهذا الاعتبار ، وقد قال في كتاب الصداق من " النهاية " : ليس يبعد عندنا أن يقال بنفي الحرج عنه فيما فعله ، وهذا حكم ، ولا يبعد أن يقال : انتقالك ابتداء فعل منك واستقرارك في حكم استدامة ما وقع ضروريا ، ويؤيد أن الانتقال إنما يجب في مثل ذلك إذا كان ممكنا ، وإذا امتنع بإيجابه بحال ، والممتنع شرعا كالممتنع حسا وطبعا . قال : وهذا في الدماء لعظم موقعها بخلاف الأموال ، فالتحقيق فيها ليس بالبدع ، فلو وقع بين أوان ولا بد من انكسار بعضها أقام أو انتقل فيتعين [ ص: 357 ] في هذه الصورة التخيير . ا هـ .

                                                      وقد سأل الغزالي الإمام في كبره عن هذا ، فقال له : كيف تقول لا حكم وأنت ترى أنه لا تخلو واقعة عن حكم ؟ فقال : حكم الله أن لا حكم ، فقلت له : لا أفهم هذا ؟ وقال ابن برهان : إن تسبب إلى الوقوع أثم بالنسب ، وإلا فلا إثم ولا ضمان . وقال ابن عقيل من الحنابلة : إن وقع على الجرحى بغير اختياره لزمه المكث ، ولا يضمن ما تلف بسقوطه ، وإن تلف شيء باستمرار وكره ، أو بانتقاله لزمه ضمانه ، ولا يجوز له أن ينتقل إلى آخر قطعا . وقال ابن المنير في " شرح البرهان " يحتمل وجوب البقاء عليه ; لأن الانتقال استئناف فعل بالاختيار مهلك ولا كذلك الاستصحاب ، فإنه أشبه بالعدم ; لأنه الأصل ، ويحتمل أن يقال : ينتقل ; لأن الانتقال يحقق المصلحة في سلامة المنتقل عنه ، ويحتمل أن يهلك المنتقل إليه ، أو يموت بأجله قبل الجثوم إليه ، ويحتمل أن يتخير ; لتعادل المفسدتين .

                                                      قال : ولعمري لقد دلس بفرضها ; لأنه لا يضيق كما زعم إلا بأن نفرض جوهرين مفردين متلاصقين ، قد جثم جوهر فرد على أحدهما فإن بقي أهلك ، وإن انتقل فر من انتقاله عن الجوهر الأول ، وهو زمن جثومه على الجوهر الثاني لا يتخلل بينهما زمن وهذا فرض مستحيل ، فإن الأجسام أوسع من ذلك ، وأزمنة انتقالها معدودة ، فهو إذا انتقل مضت أزمنة بين الانتقال والجثوم هو فيها سالم من القضيتين ، ويحتمل أن يموت الثاني قبل الجثوم عليه ، فيسلم من المعصية مطلقا فالانتقال مترجح فيتعين ، وكذلك متوسط البقعة المغصوبة ، حكم الله عليه وجوب الخروج ، ويكون به مطيعا لا عاصيا . [ ص: 358 ] قال : والعجب من قول الإمام في مسألة أبي هاشم : لا تكليف على المتوسط ، وبخلو الواقعة مع التزامه في باب القياس عدم الخلو ، واحتجاجه بأن نفي الحكم حكم .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية