الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 366 ] مسألة إذا قلنا : له أن يجتهد في أعيان المفتين ، هل له أن يجتهد في أعيان المسائل التي يقلد فيها ؟ بحيث إذا غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب فقيه أقوى وجب عليه تقليده ؟ اختلف جواب القاضي أبي الطيب والقدوري ، فأوجبه القدوري وقال القاضي : ليس للعامي استحسان الأحكام فيما اختلف فيه الفقهاء ولا أن يقول : قول فلان أقوى من قول فلان ، ولا حكم لما يغلب على ظنه ولا اعتناء به ، ولا طريق له إلى الاستحسان كما لا طريق له إلى الصحة . ولو كان يعتقد أن أحدهم أعلم ، نقل الرافعي عن الغزالي أنه لا يجوز أن يقلد غيره . وإن قلنا : لا يجب عليه البحث عن الأعلم إذا لم يعتقد اختصاص أحدهم بزيادة علم ، قال النووي : وهذا - وإن كان ظاهرا - ففيه نظر ، لما ذكرنا من سؤال آحاد الصحابة مع وجود أفاضلهم .

                                                      ثم قال : " وعلى الجملة فالمختار ما ذكره الغزالي " . وفيما قاله نظر ، لما سبق من جواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل . وإذا قلنا : يطلب الأعلم ، فهل عليه أن يطلب الأورع ؟ كذلك اختلفوا : فقيل : عليه ، استنباطا . وقيل : لا ، إذ لا تعلق لمسائل الاجتهاد بالورع ، والأصح ترجيح الراجح علما على الراجح ورعا . فإن استويا قدم الأسن ، لأنه أقرب إلى الإصابة ، لطول الممارسة . وإذا كان هناك رجلان من أهل مذهبين : أحدهما شافعي مثلا ، والآخر حنفي ، فهل يجب عليه أن يميز بين أصل المذهبين فيعلم أيهما أصح ؟ قيل : يجب عليه ذلك ، فإنه لا يشق عليه أن أحدهما بنى مذهبه على القياس والاستحسان والرأي ، والآخر على النص . والأصح : أنه لا يجب ، لتعذر ذلك عليه ، ومن ثم لا يجب طلب الأعلم في الأصح .

                                                      وقال إلكيا : أما اتباع الشافعي أو أبي حنيفة على التخيير من غير اجتهاد مع اختلاف مذاهبهم [ ص: 367 ] فاختلفوا فيه : فقيل : يجوز ، كما يتبع مجتهدي العصر في آحاد المسائل . وقيل : لا يجوز من حيث إمكان درك التناقض . ولو اختلف جواب مجتهدين ، فالقصر في حق العاصي بسفره ، واجب عند أبي حنيفة رحمه الله ، والإتمام واجب عند الشافعي رضي الله عنه . فإن قلنا بقول ابن سريج اجتهد في الأوثق والأفقه .

                                                      وإن قلنا بخلافه قال الروياني : ففيه أوجه : ( أصحها ) : في " الرافعي " : أنه يتخير ويعمل بقول من شاء منهما ، ونقله المحاملي عن أكثر أصحابنا ، وصححه الشيخ في " اللمع " والخطيب البغدادي ، واختاره ابن الصباغ فيما إذا تساويا في نفسه ، ونقل عن القاضي ، واختاره الآمدي مستدلا بإجماع الصحابة وأنهم لم ينكروا العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل . وأغرب الروياني فقال : إنه غلط . قال ابن المنير : لو لم أجد تخيير العامي عند اختلاف المفتين منصوصا عليه في الحديث لما كان الهجوم على تقريره سائغا ، ودل أن { النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى بني قريظة وقال : لا تنزلوا حتى تأتوهم ، فحانت صلاة العصر في أثناء الطريق فاختلفوا حينئذ ، فمنهم من صلى العصر ثم توجه ، ومنهم من تمادى وحمل قوله : لا تنزلوا على ظاهره . فلما عرضت القصة على النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطئ أحدا منهم } . ونحن نعلم أن السرية ما خلت عمن لا نظر له ولا مفزع إلا تقليد وجوه القوم وعلمائهم ، وكان ذلك المقلد مخيرا ، وباختياره قلد ولم يلحقه عتب ولا عيب . و ( الثاني ) : يأخذ بالأغلظ ، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر .

                                                      [ ص: 368 ] و ( الثالث ) : يأخذ بالأيسر والأخف . و ( الرابع ) : يجب عليه تقليد أعلمهما عنده ، فإن استويا قلد أيهما شاء . وهو ظاهر مذهب الشافعي رحمه الله تعالى ، لأنه قال في " الأم " في القبلة فيما إذا اختلفوا على الأعمى ، عليه أن يقلد أوثقهما وأدينهما عنده . ويفارق ما قبل السؤال حيث لا يلزمه الاجتهاد ، لأن في الاجتهاد في أعيانهم مشقة . و ( الخامس ) : يأخذ بقول الأول لأنه لزمه حين سأله ، حكاه الرافعي عن حكاية الروياني ، وقضيته أنهما لو أجاباه في مجلس واحد دفعة أنه يتخير قطعا ، لأنه لم يسبق أحدهما فنقول : قد لزمه قول السابق .

                                                      و ( السادس ) حكاه الرافعي : يأخذ بقول من يبني على الأثر دون الرأي . وحكى ابن السمعاني ( سابعا ) ، وقال : إنه الأولى ، أنه يجتهد في قول من يأخذ منهما . وحكى الأستاذ أبو منصور ( ثامنا ) وهو : التفصيل بين ما في حق الله تعالى وبين حق عباده : فإن كان فيما بينه وبين الله تعالى أخذ بأيسرهما ، وما كان في حقوق العباد فبأثقلهما ، وبه قال الكعبي . وحكى الخطيب البغدادي في كتاب " الفقيه والمتفقه " ( تاسعا ) عن ; أبي عبد الله الزبيري ، أنه إن اتسع عقله للفهم فعليه أن يسأل المختلفين عن حجتهما فيأخذ بأرجح الحجتين عنده . وإن قصر عن ذلك أخذ بقول المعتبر عنده . ويخرج من كلام الماوردي ( عاشر ) وهو الأخذ بقولهما إن أمكن الجمع ، فإنه قال في ( باب استقبال القبلة ) : ولو كانا عنده في العلم سواء فوجهان : [ ص: 369 ] أحدهما ) يتخير . و ( الثاني ) يأخذ بقولهما ويصلي إلى جهة كل واحد منهما . وذكر الغزالي في المسألة تفصيلا بين أن يتساويا فيراجعهما مرة أخرى ويقول : تناقض على جوابكما وتساويتما فما الذي يلزمني ؟ فإن خيراه بين الجوابين اختار أحدهما ، وإن اتفقا في الأخذ بالاحتياط أو الميل إلى أحدهما فعل ، وإن أصرا على الخلاف : فإن كانا سواء في اعتقاده اختار أحدهما ، وإن كان أحدهما عنده أرجح فوجهان : اختار القاضي التخيير ، واختار الغزالي اتباع الأفضل ، لرجحان الظن بالنسبة إليه .

                                                      وهذا يدل على ترجيح قول الأعلم عند الاختلاف ، مع اختياره أنه لا يجب . وكأنه إنما أوجب هنا ما عرض له من الضرورة والإصرار ، وقبل ذلك لا ضرورة به تدعو إلى اتباع الأعلم . والحاصل أن تعريفه إما باعتبار الضرورة وعدمها فلا يلزم من اعتبار حال الضرورة بالنسبة إلى حكم اعتبار ضدها بالنسبة إلى ذلك الحكم ، وإما لأن العمل الذي أشاروا إليه في زمن الصحابة وعدم وجوب تقليد الأعلم لا يتناول هذه الصورة . قيل : وكأن الخلاف هنا مخرج على الخلاف في العلتين إذا تعارضتا وإحداهما تقتضي الحظر ، وقال الأستاذ أبو منصور : بل من الخلاف في أن المصيب واحد ، أو : كل مجتهد مصيب ، فمن خير بينهما بناه على أن كل مجتهد مصيب ، ومن أوجب تقليد الأعلم قال " المصيب واحد .

                                                      وهذا كله إذا لم يكن عمل بأحدهما ، فلو استفتى عالما فعمل بفتواه [ ص: 370 ] ثم أفتاه آخر بخلافه لم يجز الرجوع إليه في ذلك الحكم ، قاله في " الإحكام " . وقال إلكيا : إن تساويا في ظنه ولا ترجيح اختلف فيه : فقيل : يحكم بخاطره ، وهو قول أصحاب ( الإلهام ) . وقيل : يتعين عليه التعليق بعلم الأدلة العقلية بتلك الواقعة ليكون بانيا على اجتهاد نفسه . وقيل : يتوقف في ذلك . انتهى . وقال في " المحصول " : يجتهد ، فإن ظن أرجحية في أحدهما عمل به ، وإن ظن استواءهما مطلقا فيمكن أن يقال : لا يتصور وقوعه ، لتعارض أمارتي الحل والحرمة . ويمكن أن يقال بوقوعه ويسقط التكليف ويتخير بينهما ، وإن ظن الاستواء في الدين دون العلم قلد الأعلم . وقيل : يتخير . وبالعكس الأدين ، وإن ظن أحدها أعلم والآخر أدين فالأقرب الأعلم ، فإن العلم أصل والدين مكمل . .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية