الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة فلو اختار من كل مذهب ما هو الأهون عليه ، ففي تفسيقه وجهان : قال أبو إسحاق المروزي : يفسق ، وقال ابن أبي هريرة : لا ، حكاه الحناطي في فتاويه " . [ ص: 382 ] وأطلق الإمام أحمد : لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ ، وأهل المدينة في السماع ، وأهل مكة في المتعة كان فاسقا . وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها ، وبالعامي المقدم عليها من غير تقليد ، لإخلاله بغرضه وهو التقليد . فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق ، لأنه قلد من يسوغ اجتهاده . وفي " فتاوى النووي " الجزم بأنه لا يجوز تتبع الرخص .

                                                      وقال في فتاو له أخرى وقد سئل عن مقلد مذهب : هل يجوز له أن يقلد غير مذهبه في رخصة لضرورة ونحوها ؟ أجاب : يجوز له أن يعمل بفتوى من يصلح للإفتاء إذا سأله اتفاقا من غير تلقط الرخص ولا تعمد سؤال من يعلم أن مذهبه الترخيص في ذلك . وسئل أيضا : هل يجوز أكل ما ولغ فيه الكلب أو شربه تقليدا لمالك ؟ فأجاب : ليس له أكله ولا شربه إن نقص عن قلتين إذا كان على مذهب من يعتقد نجاسته . انتهى . وفي " أمالي " الشيخ عز الدين : إذا كان في المسألة قولان للعلماء ، بالحل والحرمة ، كشرب النبيذ - مثلا - فشربه شخص ولم يقلد أبا حنيفة ولا غيره ، هل يأثم أم لا ؟ لأن إضافته لمالك والشافعي ليست بأولى من إضافته لأبي حنيفة . وحاصل ما قال إنه ينظر إلى الفعل الذي فعله المكلف : فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم ، وإلا لم يأثم . انتهى .

                                                      وعن " الحاوي " للماوردي أن من شرب من النبيذ ما لا يسكر مع علمه باختلاف العلماء ولم يعتقد الإباحة ولا الحظر حد . وفي " فتاوى القاضي حسين " : عامي شافعي لمس امرأة رجل ولم يتوضأ ، فقال : عند بعض الأئمة الطهارة بحالها لا تصح صلاته ، لأن بالاجتهاد يعتقد مذهب الشافعي فلا يجوز له أن يخالف اجتهاده ، كما إذا اجتهد في القبلة وأدى اجتهاده إلى جهة وأراد أن يصلي إلى غير تلك الجهة لا يصح ، ولو جوزنا له ذلك لأدى إلى أن يرتكب محظورات المذاهب وشرب المثلث والنكاح بلا ولي ولا سبيل إليه . انتهى .

                                                      [ ص: 383 ] وفي " السنن " للبيهقي عن الأوزاعي : من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام . وعنه : يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف ، ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن ، ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة ، ومن قول أهل الكوفة النبيذ ، قال : وأخبرنا الحاكم قال أخبرنا أبو الوليد يقول : سمعت ابن سريج يقول : سمعت إسماعيل القاضي قال : دخلت على المعتضد فدفع إلي كتابا نظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم ، فقلت : مصنف هذا زنديق ، فقال : لم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب . ومن فروع هذه القاعدة : أنه هل يجوز للشافعي - مثلا - أن يشهد على الخط عند المالكي الذي يرى العمل به ؟ صرح ابن الصباغ بأنه لا يجوز ، وهو ظاهر كلام الأصحاب في ( كتاب الأقضية ) .

                                                      قالوا : ليس له أن يشهد على خط نفسه ، والظاهر الجواز إذا وثق به وقلد المخالف . ويدل عليه تصحيح النووي قبول شهادة الشاهد على ما لا يعتقده كالشافعي يشهد بشفعة الجوار ، وحكى الرافعي فيه وجهين بلا ترجيح . ومنها : أن الحنفي إذا حكم للشافعي بشفعة الجوار هل يجوز له ؟ وفيه وجهان : أصحهما : الحل . وهذه المسألة تشكل على قاعدتهم في ( كتاب الصلاة ) أن الاعتبار بعقيدة الإمام لا المأموم . .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية