الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 148 ] فصل . في أنواعه النوع الأول مفهوم اللقب

                                                      وهو تعليق الحكم بالاسم العلم ، نحو : قام زيد ، أو اسم نوع ، نحو : في الغنم زكاة ، فلا يدل على نفي الحكم عما عداه ، وقد نص عليه الشافعي ، كما قاله في " البرهان " ، وقال الأستاذ أبو إسحاق لم يختلف قول الشافعي وأصحابه فيه . وخالف فيه أبو بكر الدقاق ، وبه اشتهر ، وزعم ابن الرفعة وغيره أنه لم يقل به من أصحابنا غيره ، وليس كذلك ، فقد قال سليم في " التقريب " : ثار إليه الدقاق وغيره من أصحابنا ، ورأيت في كتاب ابن فورك حكايته عن بعض أصحابنا ، ثم قال : وهو الأصح . وقال إلكيا الطبري في " التلويح " : إن أبا بكر بن فورك كان يميل إليه ، ويقول : إنه الأظهر والأقيس . وحكاه السهيلي في " نتائج الفكر " عن أبي بكر الصيرفي ، ولعله تحرف عليه بالدقاق ، ونقله عبد العزيز في التحقيق عن أبي حامد المروزي ، والمعروف عن أبي حامد المروزي إنكار القول بالمفهوم مطلقا . [ ص: 149 ] وقال إمام الحرمين في أوائل المفهوم في " البرهان " : ما صار إليه الدقاق صار إليه طوائف من أصحابنا ، ونقله أبو الخطاب الحنبلي في " التمهيد " عن منصوص أحمد . قال : وبه قال مالك ، وداود ، وبعض الشافعية . ا هـ .

                                                      وقال المازري أشير إلى مالك القول به لاستدلاله في " المدونة " على عدم إجزاء الأضحية إذا ذبحت ليلا بقوله تعالى : { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } قال : فذكر الأيام ولم يذكر الليالي ، ونقل القول به عن ابن خويز منداد ، والباجي ، وابن القصار . وحكى ابن برهان في " الوجيز " قولا ثالثا عن بعض علمائنا ، وهو الفرق بين أسماء الأنواع فيدل على نفيه عما عداه ، نحو : في السود من النعم الزكاة ، وبين أسماء الأشخاص ، إلا أن مدلول أسماء الأنواع أكثر ، وهما في الدلالة متساويان . وحكى ابن حمدان ، وأبو يعلى من الحنابلة قولا رابعا ، وهو الفرق بين أن تدل قرينة فيكون حجة ، كقوله : { جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا } إذ قرينة الامتنان تقتضي الحصر فيه .

                                                      قال إمام الحرمين : وقد سفه الأصوليون الدقاق ، ومن قال بمقالته ، وقالوا : هذا خروج عن حكم اللسان ، فإن من قال : رأيت زيدا لم يقتض أنه لم ير غيره قطعا ، ولإجماع العلماء على جواز التعليل والقياس ، فهو يقتضي أن تخصيص الربا بالاسم لا يدل على نفيه عما عداه ، ولو قلنا به بطل القياس . [ ص: 150 ]

                                                      قال : وعندي أن المبالغة في الرد عليه سرف ، لأنه لا يظن بعاقل التخصيص بالذكر من غير غرض . ثم اختار إمام الحرمين أن التخصيص بالاسم يتضمن غرضا مبهما ، ولا يتعين انتفاء غير المذكور .

                                                      ثم قال : وأنا أقول وراء ذلك ، لا يجوز أن يكون من غرض المتكلم في التخصيص نفي ما عدا المسمى بلقبه ، فإن الإنسان لا يقول : رأيت زيدا ، وهو يريد الإشعار بأنه لم ير غيره . فإن هو أراد ذلك قال : إنما رأيت زيدا ، وما رأيت إلا زيدا ، وحاصله أن التخصيص باللقب يتضمن غرضا مبهما ، ولا يتضمن انتفاء الحكم في المسكوت . والدقاق يقول : يتضمن غرضا معينا . واختار الغزالي في " المنخول " أنه حجة مع قرائن الأحوال . قال : ولهذا رددنا على ابن الماجشون في تعليله تخصيص الأربعة في الربا بالذكر ، حيث علل الربا بالمالية العامة ، إن قلنا : لم تكن الأشياء الأربعة غالب ما يعامل به ، وكان [ الحجاز مصب التجار ] في الأعصار الخالية ، فلو ارتبط الحكم بالمالية لكان التنصيص عليها أسهل من التخصيص ، كما في العارية { على اليد ما أخذت حتى تؤديه } فكان هذا مأخوذا من قرائن الأحوال مع التخصيص باللقب . وهاهنا أمور مهمة : أحدها : أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني قال في كتابه " شرح الترتيب " : إن أبا عبد الله البصري ألزم الدقاق ذلك في مجلس النظر فالتزمه .

                                                      قال : وكنا نكلمه في هذا في الدرس ، فألزمناه أنه إذا قال له : صم ، يجب [ ص: 151 ] أن يدل على منع الصلاة . وإذا قال : صل ، يجب أن يمتنع من الصوم والزكاة والحج وغيرها من العبادات . فقال كذلك أقول . فقلنا : إذا قال لواحد من جملة القوم : يا زيد تعال ، ينبغي أن لا يجوز للباقين أن يأتوه . قال : كذلك أقول : فقلنا : إذا وصلنا إلى هذا سقط الكلام . قال الأستاذ : وهذا الذي ركبه خلاف الإجماع ، وليس مما يتخالج لقبوله في القلوب وجه عند العقلاء ألبتة . قال : ولو تصور دليل الخطاب لم يصر إلى ذلك ، ثم ذكر أن صورته أن يذكر الشيء بلفظه العام مقيدا بأحد أوصافه ، نحو : اقتل أهل الكتاب اليهود منهم .

                                                      قال : وكان الدقاق إذا جرى له كلام في مثله يذكره في مجلس الدرس ، ويعيده ، ويتحجج له ، وينصره ، ورأيناه كأنه استحى من هذا القول الذي ركبه في دليل الخطاب ، فلم نره عاد إليه أو تكلم به في كتاب . ا هـ . وهذا يدل على رجوع الدقاق عن هذا الرأي أو توقفه فيه . وليس ما ألزم به الدقاق بعجيب ، لأنه يقول : أقول بذلك ما لم يقم دليل النطق بخلافه .

                                                      الأمر الثاني : إطلاق أن مفهوم اللقب ليس بحجة مطلقا قد استشكل ، فإن أصحابنا قد قالوا به في مواضع واحتجوا به كاحتجاجهم في تعيين الماء في إزالة النجاسة بحديث : ( حتيه ثم اقرصيه بالماء ) . وعلى تعيين التراب بالتيمم بقوله : ( وتربتها طهورا ) . والحق أن ذلك ليس من اللقب ، بل من قاعدة أخرى ، وهي أنه متى انتقل من الاسم العام إلى الخاص أفاد المخالفة ، فلما ترك الاسم العام وهو الأرض إلى الخاص وهو التراب ، جعل دليلا . وأما في الاسم فلأن امتثال المأمور لا يحصل إلا بالمعين . وقال في " شرح الإلمام " : الأمر إذا تعلق بشيء بعينه لا يقع الامتثال إلا بذلك الشيء ، لأنه قبل فعله لم يأت بما أمر به ، فلا يخرج عن العهدة ، وسواء كان الذي تناوله الأمر صفة أو لقبا عندنا لما ذكرناه من توقف الامتثال عليه [ ص: 152 ] وكان بعض أصحابنا قد اعترض في مسألة تعيين الماء في النجاسة بقوله عليه السلام : ( اغسليه بالماء ) بأنه حكم علق بلقب ، ومفهوم اللقب ليس بحجة . فيقال عليه : متعلق الأمر لا بد له منه لضرورة الامتثال ، ولا نظر هنا لكونه لقبا أو صفة ، وإنما يفرق بينهما في محل الحكم ، وهو الدم مثلا . فلا يقال : إنه يدل على أن غير الدم يجوز غسله بغير الماء ، عملا بالمفهوم ، لأن الدم لقب لا يدل على انتفاء الحكم عما عداه . ا هـ .

                                                      وقال الشريف المرتضى في " الذريعة " : احتجوا على أن غير الماء لا يطهر بقوله تعالى : { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } . فنقول : الحكم غير الماء ، وهو متعلق بالاسم لا بالصفة ، ويمكن أن يكون من استدل بهذا إنما عول على أن الاسم يجري فيها مجرى الصفة ، لأن مطلق الاسم الماء ، يخالف اتصافه ، فأجري مجرى كون الإبل سائمة أو عاملة . والتحقيق أن يقال : إنه ليس بحجة ، إذا لم يوجد فيه رائحة التعليل ، فإن وجد كان حجة ، وقد أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد ، فقال في قوله : ( إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها ) يحتج به على أن الزوج يمنع امرأته من الخروج إلا بإذنه ، لأجل تخصيص النهي بالخروج للمساجد ، فيقتضي بمفهومه جواز المنع في غير المساجد ، ولا يقال : إنه مفهوم لقب ، لأن التعليل هنا موجود ; وهو أن المسجد فيه معنى مناسب وهو محل العبادة ، فلا يمنع من التعبد ، فلا يكون ذلك من مفهوم اللقب . [ ص: 153 ]

                                                      قلت : ولهذا ينفصل الجواب عن استدلالهم بالحديثين السابقين ، فإن في اختصاص إزالة النجاسة بالماء والتيمم بالتراب معنى لا يوجد في غيرهما .

                                                      وقال الإبياري : ظن قوم أن المنفي مأخوذ من المفهوم وهو غلط . فإذا قال لوكيله : بع غانما ، لا يتمكن من بيع سالم ، لا لأجل النص على بيع غانم ، ولكنه لا يبيع إلا بإذن ، والحجر سابق ، والإذن قاصر ، فيبقى الحجر على ما كان عليه في غير محل الإذن .

                                                      قلت : قال الأصحاب : لو قال لوكيله : بع هذا من زيد ، تعين عليه بيعه منه . فلا يبيعه من غيره ، لأنه قد يكون للموكل غرض في تخصيصه ، لكون ماله أقرب إلى الحل ونحوه . ففيه رائحة التعليل ، فلهذا قلنا به . ولهذا قال الماوردي : لو مات ذلك الشخص المعين بطلت الوكالة ، بخلاف ما لو امتنع من الشراء فإنه يجوز أن يرغب بعد ذلك . ولو أوصى بأن تباع العين الفلانية من زيد ، فإن كانت محاباة صح ، وتعينت لأنه قربة ، وإن لم تكن محاباة فوجهان : أصحهما المنع ، لأنه لا قربة حينئذ . ولو قالت المرأة للأولياء غير المجبرين : رضيت بأن أزوج من فلان ، فالصحيح أنه يكتفى به ، ولكل منهم تزويجها منه ، فلو عينت بعد ذلك واحدا ، فهل ينعزل الآخرون ؟ وجهان ، الصحيح عدم الانعزال . قال الرافعي : وبناه بعضهم على أن المفهوم هل هو حجة أم لا ؟ ولو قال اليهودي : عيسى رسول الله حكم بإسلامه ، ذكره الرافعي في كتاب الردة .

                                                      قال : لأن المسلم لو جحد نبوته كفر . وحكاه الإمام في كتاب الكفارات عن المحققين . قال الرافعي ثم : والمشهور عند الجمهور خلافه ، وفي هذا نفي القول بمفهوم اللقب . [ ص: 154 ]

                                                      الثالث : قال ابن الحاج في تعليقه على " المستصفى " : ينبغي تحقق المراد باللقب . وليس المراد به المرتجل فقط ، بل المرتجل والمنقول من الصفات . وقد جعل الغزالي منه : لا تبيعوا الطعام بالطعام ، لأن الطعام لقب لجنسه ، وإن كان مشتقا مما يطعم إذ لا يدرك فرق بين قوله : في الغنم زكاة ، وفي الماشية زكاة ، وإن كانت " الماشية " مشتقة . ا هـ . وما ذكره الغزالي من إلحاق الاسم المشتق الدال على الجنس باللقب تبعه عليه الآمدي ، لأن الصفة فيه ليست متخيلة ، إذ الطعام لا يناسب حكم الربا . لكن قال القاضي أبو الطيب : يلحق بالصفة الصريحة وجها واحدا ، لأن المشتق يتضمن صفة . وجزم به سليم في " التقريب " ، وجعل الآمدي اسم الجنس والعلم من باب مفهوم اللقب . قال : لتخصيص الربويات الستة بتحريم التفاضل ، وقولنا : زيد عالم . وقال القرافي : قال التبريزي : اللقب كالأعلام ، وألحق بها أسماء الأجناس . قال : وغيره أطلق في الجميع ، كأنه يشير للآمدي .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية