الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 236 ] مسألة

                                                      لا يشترط في النسخ أن يخلفه بدل ، كما في نسخ الصدقة في مناجاة الرسول ، والإمساك بعد الإفطار في ليالي رمضان ، خلافا للمعتزلة حيث قالوا : لا يجوز نسخ الحكم إلى غير بدل . حكاه الإمام في " مختصر التقريب " . واستدل القاضي بأنه يجوز ارتفاع التكليف عن المخاطبين جملة ، فلأن يجوز ارتفاع عبادة بعينها لا إلى بدل أولى . قال : والمخالفون في ذلك وهم المعتزلة لا يجوزون ارتفاع التكليف . فلهذا خالفونا في هذه المسألة ، فهذا مثار الخلاف بيننا وبينهم . ا هـ . لكن المجزوم به في " المعتمد " لأبي الحسين : الجواز ، وإنما نسب الأصوليون المنع في هذه المسألة لبعض الظاهرية .

                                                      هذا بالنسبة إلى الجواز ، أما الوقوع فالجمهور عليه ، وقيل : لم يقع ، وهو ظاهر نص الشافعي ، فإنه قال في " الرسالة " : وليس ينسخ فرض أبدا إلا إذا أثبت مكانه فرض ، كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة . قال : وكل منسوخ في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هكذا . وقال [ ص: 237 ] الشافعي في موضع آخر بعد ذكر نسخ التوجه لبيت المقدس : وهذا مع إبانته لك أن الناسخ والمنسوخ في الكتاب والسنة دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سن سنة حوله الله عنها إلى سنن أخرى غيرها يصير إليها الناس بعد التي حول عنها ، لئلا يذهب على عامتهم الناسخ ، فيثبتون على المنسوخ ، ولئلا يشتبه على أحد بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسن ، فيكون في الكتاب شيء يرى بعض من جهل اللسان أو العلم بموقع السنة مع الكتاب بمعانيه أن الكتاب ينسخ السنة . ا هـ . كلامه . وليس ذلك مراده ، بل هو موافق للجماهير على أن النسخ قد يقع بلا بدل ، وإنما أراد الشافعي بهذه العبارة كما نبه عليه الصيرفي في " شرح الرسالة " ، وأبو إسحاق المروزي في كتاب " الناسخ " أنه ينقل من حظر إلى إباحة ، أو إباحة إلى حظر ، أو يجري على حسب أحوال المفروض . ومثله بالمناجاة . وكان يناجى النبي صلى الله عليه وسلم بلا تقديم صدقة ، ثم فرض الله تقديم الصدقة ، ثم أزال ذلك ، فردهم إلى ما كانوا عليه ، فإن شاءوا تقربوا بالصدقة إلى الله ، وإن شاءوا ناجوه من غير صدقة . قال : فهذا معنى قول الشافعي فرض مكان فرض فتفهمه . ا هـ .

                                                      والحاصل أنهم ينقلون من حكم شرعي إلى مثله ، ولا يتركون غير محكوم عليهم بشيء . وهذا صحيح موجود في كل منسوخ . قال أبو إسحاق : معنى قولنا : لا ينسخ الشيء إلا بمثله ، يعني ما لا بد له من الناسخ ، كالنقل من الحظر إلى الإباحة ، أو من الفرض إلى الندب أو إلى الفرض ، فأما إن أريد إسقاطه فنسخه إما أن ينسخ برسم مع ثبوت الرسم الأول فلا يكون ذلك إلا بقرار رسمه ، وإما برفع رسمه مع حكمه بأن ينسى ، فيستغني بذلك عن رسم يرفع به كسورة الأحزاب التي كانت تعدل سورة البقرة . [ ص: 238 ] وقال ابن القطان : قول الشافعي إن النسخ يكون بأن يبدل مكانه شيئا ، جوابه من وجهين : أحدهما : أنه أراد أن الأكثر في الفرائض هو الذي ذكره . الثاني : أن ذلك يجري مجرى أمر ثان بعبارة أخرى ، والفرض الأول قد تغير ، لأن الله تعالى حين أمر به أراد : في زمان يوصف ، إنما خفي ذلك علينا ، وقدر أنه عام في الأزمنة كلها ، إلا أنه لا بد أن يعلم أن الفرض الأول قد تغير ، ألا ترى أنه كان خمسين صلاة ، فكان علينا أن نعتقد أن الكل واجب ، فإذا سقط البعض تغير الاعتقاد الذي كنا قد اعتقدناه ، فلا محالة يتغير شيء ما من الفرض الأول . ا هـ . والحاصل أن الصور أربع : الأولى : جواز النسخ بلا بدل ، لا شك فيه ، وإنما فيه خلاف المعتزلة .

                                                      الثانية : وقوعه بلا بدل أصلا بحيث يعود الأمر كهو قبل ورود الشرائع ، ويتركون غير محكوم عليهم بشيء ، وهذا هو الذي منع الشافعي وقوعه ، وإن كان جائزا عقلا كما صرح به إمام الحرمين في " التلخيص " .

                                                      الثالثة : يبدل من الأحكام الشرعية ، إما إحداث أمر مغاير لما كان واجبا أولا كالكعبة قبل القدس ، أو الحكم بإباحة ما كان واجبا كالمناجاة ، والنسخ لم يقع إلا هكذا ، كما قاله الشافعي ، وبه صرح إمام الحرمين في " التلخيص " ، فقال بعد أن ذكر جواز النسخ لا إلى بدل : فإن قال قائل : كيف يتصور ذلك ؟ ولو وجبت عبادة فمن ضرورة نسخ وجوبها إباحة تركها ، والإباحة حكم من الأحكام ، وهو بدل من الحكم الثابت أولا ، وهو الوجوب . قلنا : من مذهب من يخالفنا أن العبادة [ ص: 239 ] لا تقع إلا بعبادة ، ولا يجوزون نسخا بإباحة على أن ما طالبتمونا به يتصور بأن يقال : الرب سبحانه نسخ حكم العبادة ، وعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل ورود الشرائع ، فهذا مما يعقل ولا ينكر ، فإن استروحوا في منع ذلك بقوله : { ما ننسخ من آية } الآية . وهي مصرحة بإثبات البدل ، قلنا : هذا إخبار بأن النسخ يقع على هذا الوجه ، وليس فيه ما يدل على أنه لا يجوز وقوع النسخ على غير هذا الوجه . ا هـ . فقد صرح بأن النسخ لا يقع إلا على هذا الوجه بعد أن جوز وقوعه لا إلى بدل .

                                                      الرابعة : وقوعه ببدل بشرط أن يكون تأصيلا لأمر آخر ، كالكعبة بعد المقدس ، ولم يشترطه الشافعي كما توهم عليه . .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية