الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثالث والعشرون بين قاعدة الواجب للآدميين على الآدميين وبين قاعدة الواجب للوالدين على الأولاد خاصة ) وهذا الموضع مشكل بسبب أن كل ما وجب للأجانب وجب للوالدين وقد يجب للوالدين ما لا يجب للأجانب فما ضابط ذلك [ ص: 143 ] الحق الواجب للوالدين الذي امتازوا به عن الأجانب هذا هو موضع الإشكال وأنا أقرب ذلك وألخصه بذكر مسائل وفتاوى منقولة عن العلماء تختص بالوالدين فيظهر بعد ذلك تقريب هذا الموضع إن شاء الله تعالى وذلك بثمان مسائل :

( المسألة الأولى ) قيل لمالك في مختصر الجامع يا أبا عبد الله لي والدة وأخت وزوجة فكلما رأت لي شيئا قالت : أعط هذا لأختك فإن منعتها ذلك سبتني ودعت علي قال له مالك ما أرى أن تغايظها وتخلص منها بما قدرت عليه أي وتخلص من سخطها بما قدرت عليه .

( المسألة الثانية ) وقال فيه لرجل قال له والدي في بلد السودان كتب إلي أن أقدم عليه وأمي تمنعني من ذلك فقال له مالك : أطع أباك ولا تعص أمك وروي أن الليث أمره بطاعة الأم لأن لها ثلثي البر كما حكى الباجي أن امرأة كان لها حق على زوجها فأفتى بعض الفقهاء ابنها بأن يتوكل لها على أبيه فكان يحاكمه ويخاصمه في المجالس تغليبا لجانب الأم ومنعه بعضهم من ذلك قال : لأنه عقوق للأب والحديث إنما دل على أن بره أقل من بر الأم لا أن الأب يعق .

( المسألة الثالثة ) قال : في الموازية إذا منعه أبواه من الحج لا يحج إلا بإذنهما إلا الفريضة فنص على وجوب طاعتهما في النافلة وقال في المجموعة : يوافقهما في حجة الفريضة العام والعامين وقال الأصحاب : لا يعصيهما في الخروج للغزو إلا أن يتعين بمفاجأة العدو أو ينذره فيتأخر السنة والسنتين فإن أذنا له وإلا خرج .

( المسألة الرابعة ) قال : الغزالي في الإحياء أكثر العلماء على أن طاعة الوالدين واجبة في الشبهات دون الحرام وإن كرها انفراده عنهما في الطعام وجبت عليه موافقتهما ويأكل معهما لأن ترك الشبهة مندوب وترك طاعتهما حرام والحرام مقدم على المندوب ولا يسافر في مباح ولا نافلة إلا بإذنهما ولا يبادر لحج الإسلام ولا يخرج لطلب العلم إلا بإذنهما إلا علم هو فرض عليه متعين ولم يكن في بلده من يعلمه لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وروي في البخاري قال الحسن إذا منعته أمه عن صلاة العشاء في الجماعة شفقة عليه فليعصها قال الشيخ أبو الوليد الطرطوشي في كتاب بر الوالدين لا طاعة لهما في ترك سنة راتبة كحضور الجماعات وترك ركعتي الفجر والوتر ونحو ذلك إذا سألاه ترك ذلك على الدوام بخلاف ما لو دعياه لأول وقت الصلاة وجبت طاعتهما وإن فاتته فضيلة أول الوقت .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال : ( الفرق الثالث والعشرون بين قاعدة الواجب للآدميين على الآدميين وبين قاعدة الواجب للوالدين على الأولاد خاصة وهذا الموضع مشكل بسبب أن كل ما وجب للأجانب وجب للوالدين وقد يجب للوالدين ما لا يجب للأجانب فما ضابط ذلك . [ ص: 143 ] الحق الواجب للوالدين الذي امتازوا به عن الأجانب إلى تمام الكلام في المسألة الخامسة ) قلت : أكثر ذلك نقل لا كلام فيه وما فيه من كلام فهو صحيح غير قوله قال الشيخ أبو الوليد الطرطوشي : فإنه ليست كنيته أبا الوليد وإنما كنيته أبو بكر .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثالث والعشرون بين قاعدة الواجب للآدميين على الآدميين وبين قاعدة الواجب للوالدين على الأولاد خاصة وبين قاعدة الواجب لذوي الأرحام غير الأبوين على قريبهم خاصة ) .

وذلك أن ضابط ما يختص به الوالدين دون الأجانب أمور : أحدها أن ندب طاعتهم وبرهم مطلقا أقوى من ندب بر الأجانب مطلقا الثاني وجوب اجتناب مطلق الأذى كيف كان إذا لم يكن فيه ضرر على الابن الثالث وجوب طاعتهما في ترك النوافل الرابع وجوب طاعتهما في ترك تعجيل الفروض الموسعة الخامس وجوب طاعتهما في ترك فروض الكفاية إذا كان ثم من يقوم بها وأما ضابط ما يختص به الأجانب دون الأبوين فهو أن ندب برهم مطلقا يضعف عن ندب بر الوالدين وأن طاعتهم في ترك النوافل مكروهة تنزيها قلت : والظاهر أن طاعتهم في ترك تعجيل الفروض الموسعة وترك فروض الكفاية كذلك وأن اجتناب مطلق الأذى غير واجب في حقهم ولو لم يكن فيه ضرر على المكلف بل الواجب في حقهم اجتناب أذى مخصوص كالغيبة والنميمة والحسد وإفساد الحليلة والولد والخادم ونحو ذلك مما عده ابن حجر في زواجره من الكبائر فتأمل ذلك فكل واجب للأجانب واجب للأبوين ولا عكس لغويا قال : الأصل وأما ما يجب لذوي الأرحام من غير الأبوين فلم أظفر فيه بتفصيل كما وجدت المسائل الآتي بيانها في الأبوين بل أصل الوجوب من حيث الجملة ا هـ قلت لكن في الزواجر ما حاصله أن الذي يتجه في الفرق بين العقوق وقطع الرحم هو أن المراد بالعقوق الذي هو كبيرة أن يحصل من الولد .

[ ص: 159 ] لها أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين عرفا وإن لم يكن محرما لو فعل مع الغير كأن يلقاه فيقطب في وجهه أو يقدم عليه في ملأ فلا يقوم له ولا يعبأ به ونحو ذلك مما يقضي أهل العقل .

والمروءة من أهل العرف بأنه مؤذ تأذيا عظيما ويحتمل أن العبرة بالمتأذي لكن لو كان في غاية الحمق أو سفاهة العقل فأمر أو نهى ولده بما لا يعد مخالفته فيه في العرف عقوقا لا يفسق ولده بمخالفته حينئذ لعذره وعليه فلو كان متزوجا بمن يحبها فأمره بطلاقها ولو لعدم عفتها فلم يمتثل أمره لا إثم عليه كما صرح به أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه فيما رواه الترمذي عنه وصححه أن { رجلا أتاه فقال : إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها فقال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه } وقال الترمذي وربما قال : سفيان إن أمي وربما قال : إن أبي وفيما رواه ابن حبان في صحيحه عنه أن { رجلا أتاه فقال : إن أبي لم يزل بي حتى زوجني وإنه الآن يأمرني بطلاقها قال : ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سمعته يقول : الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ على ذلك إن شئت أو دع } قال : وأحسب عطاء قال : فطلقها نعم قد أشار أبو الدرداء إلى أن الأفضل طلاقها امتثالا لأمر والده وعليه يحمل ما رواه أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه . وقال : الترمذي حديث حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : { كانت تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي : طلقها فأبيت فأتى عمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر له ذلك فقال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم طلقها }

وكذا سائر أوامره التي لا حامل عليها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه ولو عرضت على أرباب العقول لعدوها أمورا متساهلا فيها ولرأوا أنه لا إيذاء لمخالفتها هذا هو الذي يتجه في تقرير ذلك الحد وأن المراد بقطع الرحم الذي هو كبيرة أن يقطع المكلف ما ألف قريبه منه من سابق الوصلة والإحسان لغير عذر شرعي لأن قطع ذلك يؤدي إلى إيحاش القلوب ونفرتها وتأذيها يصدق عليه حينئذ أنه قطع وصلة رحمه وما ينبغي لها من عظيم الرعاية فلو فرض أن قريبه لم يصل إليه منه إحسان ولا إساءة قط [ ص: 160 ] لم يفسق بذلك لأن الأبوين إذا فرض ذلك في حقهما من غير أن يفعل معهما ما يقتضي التأذي العظيم لغناهما مثلا لم يكن كبيرة فأولى بقية الأقارب ولو فرض أن الإنسان لم يقطع عن قريبه ما ألفه من الإحسان لكنه فعل معه محرما صغيرة أو قطب في وجهه أو لم يقم إليه في ملأ ولا عبأ به لم يكن ذلك فسقا بخلافه مع أحد الوالدين لأن تأكد حقهما اقتضى أن يتميزا على بقية الأقارب بما لا يوجد نظيره فيهم وعلى هذا الضابط فلا فرق بين أن يكون الإحسان الذي ألفه منه قريب مالا أو مكاتبة أو مراسلة أو زيادة أو غير ذلك فقطع ذلك كله بعد فعله لغير عذر كبيرة والمراد بالعذر في المال فقد ما كان يصله به أو تجدد احتياجه إليه وأن يندبه الشارع إلى تقديم غير القريب عليه لكون الأجنبي أحوج وأصلح فعدم الإحسان إليه أو تقديم الأجنبي عليه لهذا القدر يرفع عنه الفسق .

وبه انقطع بسبب ذلك ما ألفه منه القريب لأنه إنما راعى أمر الشارع بتقديم الأجنبي على القريب وواضح أن القريب لو ألف منه قدرا معينا من المال يعطيه إياه كل سنة مثلا فنقصه لا يفسق بذلك بخلاف ما لو قطعه من أصله لغير عذر وبما أنه لا يلزمه أن يجري على تمام القدر الذي ألفه منه بل اللازم له أن لا يقطع ذلك من أصله وغالب الناس يحملهم شفقة القرابة ورعاية الرحم على وصلتها لم يكن في أمرهم بمداومتهم على أصل ما ألفوه منهم تنفير عن فعله بل حث على دوام أصله كما لا يخفى والمراد بعذر ترك المكاتبة والمراسلة أن لا يجد من يثق به في أداء ما يرسله معه وأما عذر الزيارة فينبغي ضبطه بعذر الجمعة بجامع أن كلا فرض عين وتركه كبيرة والظاهر أنه إذا ترك الزيارة التي ألفت منه في وقت مخصوص لعذر لا يلزمه قضاؤها في غير ذلك الوقت فتأمل جميع ما قررته واستفده فإني لم أر من نبه على شيء منه مع عموم البلوى به وكثرة الاحتياج إلى ضبطه وظاهر أن الأولاد والأعمام من الأرحام وكذا الخالة فيأتي فيهم وفيها ما تقرر من الفرق بين قطعهم وعقوق الوالدين وإن صح في الحديث أن الخالة بمنزلة الأم وأن عم الرجل صنو أبيه إذ يكفي تشابههما في أمر ما كالحضانة تثبت للخالة كما ثبت للأم .

وكذا المحرمية وتأكد الرعاية وكالإكرام في العم والمحرمية وغيرهما مما ذكروا وأما إلحاقهما بهما فإن عقوقهما [ ص: 161 ] كعقوقهما فهو وإن قال به الزركشي إلا أنه مع كونه غير مصرح به في الحديث مناف لكلام أئمتنا فلا معول عليه بل الذي دلت عليه الآيات والأحاديث أن الوالدين اختصا من الرعاية والاحترام والطوعية والإحسان بأمر عظيم جدا وغاية رفيعة لم يصل إليها أحد من بقية الأقارب ويلزم من ذلك أنه يكتفى في عقوقهما وكونه فسقا بما لا يكتفى به في عقوق غيرهما انتهى ولا يخفى أن قطع المكلف ما ألفه الأجنبي منه مما ذكر بلا عذر لا يكون كبيرة فظهر الفرق وأن كل ما وجب للأجنبي وجب لذوي الرحم وكل ما وجب لذوي الرحم من غير الأبوين وجب للأبوين من غير عكس لغوي فيهما والحمد لله وكفى .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( وصل ) في تحقيق فقه هذا الفرق بعشر مسائل ( المسألة الأولى ) في مختصر الجامع قيل لمالك يا أبا عبد الله لي والدة وأخت وزوجة فكلما رأت لي شيئا قالت أعط هذا لأختك فإن منعتها ذلك سبتني ودعت علي قال له مالك ما أرى أن تغايظها وتخلص منها أي من سخطها بما قدرت عليه .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الثانية ) في مختصر الجامع أيضا قال : رجل لمالك والدي في بلد السودان كتب إلي أن أقدم عليه وأمي تمنعني من ذلك فقال له مالك أطع أباك ولا تعص أمك يعني أنه يبالغ في رضا أمه بسفره لوالده ولو بأخذها معه ليتمكن من طاعة أبيه وعدم عصيان أمه وروي أن الليث أمره بإطاعة الأم لأن لها ثلثي البر كما حكى الباجي أن امرأة كان لها حق على زوجها فأفتى بعض الفقهاء ابنها بأن يتوكل لها على أبيه فكان يحاكمه ويخاصمه في المجالس تغليبا لجانب الأم ومنعه بعضهم من ذلك قال : لأنه عقوق للأب والحديث الصحيح إنما دل على أن بره أقل من بر الأم لا أن الأب يعق وذلك الحديث هو أن { رجلا جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك قال ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أبوك ثم الأقرب فالأقرب } وسيأتي الكلام في هذا الحديث بعد المسائل فترقب .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الثالثة ) قال : في الموازية إذا منعه أبواه من الحج لا يحج إلا بإذنهما إلا الفريضة فنص على وجوب طاعتهما في النافلة وقال : في المجموعة يوافقهما في حجة الفريضة العام والعامين أي بناء على القول [ ص: 162 ] بالتراخي وقال الأصحاب : لا يعصيهما في الخروج للغزو وإلا أن يتعين بمفاجأة العدو أو ينذره فيؤخر السنة والسنتين فإن أذنا له وإلا خرج .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الرابعة ) قال : الغزالي في الإحياء : أكثر العلماء على أن طاعة الوالدين واجبة في الشبهات دون الحرام لأن ترك الشبهة مندوب وترك طاعتهما حرام والحرام أي تركه مقدم على المندوب أي فعله فيجب عليه أن يأكل معهما إن كرها انفراده عنهما أي وإن كان أكله معهما شبهة لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بعد قوله تعالى { وبالوالدين إحسانا } يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب فلا يغلظ لهما في الجواب ولا يحد النظر إليهما ولا يرفع صوته عليهما بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللا لهما ا هـ ولا يسافر في مباح ولا نافلة إلا بإذنهما ولا يبادر لحج الإسلام ولا يخرج لطلب العلم إلا بإذنهما إلا علما هو فرض عليه متعين ولم يكن في بلده من يعلمه لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وروي في البخاري قال الحسن : إذا منعته أمه عن صلاة العشاء في الجماعة شفقة عليه فليعصها قال الشيخ أبو بكر الطرطوشي في كتاب بر الوالدين لا طاعة لهما في ترك سنة راتبة كحضور الجماعات وترك ركعتي الفجر والوتر ونحو ذلك إذا سألاه ترك ذلك على الدوام بخلاف ما لو دعياه لأول وقت الصلاة وجبت طاعتهما وإن فاتته فضيلة أول الوقت .




الخدمات العلمية