الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( فائدة ) أطلق جماعة من العلماء القول بأن للأم ثلثي البر لقول النبي عليه السلام لما { قال له رجل : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أبوك } وروي ذلك مرتين وروي ثلاثا فعلى رواية مرتين قالوا : يكون لها ثلث البر وعلى رواية ثلاثة يكون لها ثلاثة أرباع البر لأن الأب جاء في المرة الرابعة وهذا يعتقد أنه سهل وليس بالسهل وذلك أن قول السائل أي الناس أحق إنما سأل عن أعلى الرتب فلما أجيب عنها عرفها الرتبة العالية فأخذ يسأل عن الرتبة التي تليها بصيغة ثم التي للتراخي الدالة على تراخي رتبة الفريق الثاني عن الفريق الأول في البر فقال له صاحب الشرع : أمك فلا يكون هذا الجواب مطابقا حتى تكون هذه الرتبة الثانية أخفض رتبة من الأولى وكذلك الأجوبة التي بعدها بتلك الرتب المجاب بها وكما وجب نقصان الرتبة الثانية عن الأولى وجب أيضا نقصان الرتبة الثالثة عن الثانية عملا بثم الدالة على التراخي والنقصان ثم رتبة الأب تكون أخفض الرتب وأقلها وعلى هذا التقدير لا تكون رتبة الأب مشتملة على ثلث البر إذ لو اشتملت لكانت الرتب مستوية .

وقد تقرر أنها مختلفة وأن الأخيرة أقل مما هو أقل وأنه يجب نقصان كل رتبة فضلا عما قبلها فيتعين نقصان الرتبة الأخيرة بمقادير عديدة عن الرتبة الأولى بعد تعدد الأسئلة والأجوبة فيكون نصيب الأب أقل من الثلث بمقدارين على إحدى الروايتين وثلاث مقادير على رواية الثلاث فيكون نصيب الأب أقل من الثلث وأقل من الربع قطعا فيبطل القول بأنه ثلث البر على إحدى الروايتين وثلاثة أرباع البر على الرواية الأخرى بل أقل بكثير وكما وجب نقصان الأب عن الربع أو الثلث وجب أيضا أن لا يقال : للأم ثلثا البر أو ثلاثة أرباعه لأن الأنصباء المضمومة إليها مختلفة المقادير كما تقدم وإنما يلزم ما قالوا أن لو كانت المقادير مستوية فإن قلت : فهل يتعين ذلك بعد تسليم بطلان المقدار المذكور ؟ قلت : ذلك عسير علي وإنما الذي يتيسر لي إيراد السؤال أما تحرير المقدار فلا أعلم إلا أن ثم اقتضت أصل النقصان مع زيادة في النقصان يحصل بها التراخي بثم أما ما مقدار ذلك الذي به حصل فلا يتعين لي بل جزمت بالتفاوت فقط فإن تيسر الضبط في ذلك فاضبطه .

فإن قلت : ثم حرف عطف تقتضي معطوفا ومعطوفا عليه وليس معنا قبلها أو بعدها إلا كلام فيلزم أن تكون معطوفة على نفسها في الرتبة الأولى والثانية والقاعدة العربية أن الشيء لا يعطف على نفسه قلت أيضا : هذا سؤال مشكل يحتاج إلى نظر وتحرير على القواعد العربية والمقاصد الشرعية ثم إن السائل إنما سأل عن غير الأم والتراخي عنها في الرتبة فكيف أجيب بالأم وكيف يقال : إن التراخي عن الأم في البر هو للأم حتى يحصل الجواب به وهذا أيضا [ ص: 150 ] إشكال آخر والجواب أن نقول : هذا عطف وكلام محمول على المعنى كأن السائل لما قيل له : أحق الناس وأولاهم أمك قال : فلمن أتوجه بالبر بعد ذلك وأشتغل به قيل له أيضا لأمك فقوبل ما فهم منه من الإعراض عن الأم بالأمر بالملازمة إظهارا لتأكيد حقها فقال : إذا توجهت أيضا إليها وفرغت فلمن أتوجه بعد ذلك أيضا فقيل له : أمك فقوبل أيضا ما فهم منه من الإعراض عن الأم بالبر والملازمة إظهارا لتأكيد حقها فصارت الأم معطوفة على نفسها بنسبتين مختلفتين إلى رتبتين متباينتين فهي بقيد الرتبة الدنيا معطوفة على نفسها بقيد الرتبة والشيء الواحد إذا أخذ مع وصفين مختلفين صار شيئين مختلفين كما تقول : زيد ابن وأخ وفقيه وتاجر وغير ذلك والموصوف بهذه الصفات واحد غير أنه لما أخذ مع المختلفات صار مختلفا فهذا السر هو المحسن للعطف وإعادة الأم في الرتب وهذا الحديث كما ترى فيه ما فيه من القلق والإشكال مع أنه في بادئ الرأي في غاية الظهور وكم من شيء يكون ظاهرا في بادئ الرأي فإذا اختبر خرج منه غرائب .

( فصل ) إذا تقررت هذه المسائل وهذه المباحث ظهر لك الفرق بين قاعدة الواجب للأجانب والواجب للوالدين فإن كل ما يجب للأجانب يجب للوالدين وضابط ما يختص به الوالدان دون الأجانب هو اجتناب مطلق الأذى كيف كان إذا لم يكن فيه ضرر على الابن ووجوب طاعتهما في ترك النوافل وتعجيل الفروض الموسعة وترك فروض الكفاية إذا كان ثم من يقوم بها وما عدا ذلك لا تجب طاعتهم فيه وإن ندب إلى طاعتهم وبرهم مطلقا وكذلك الأجانب يندب برهم مطلقا غير أن الندب في الأبوين أقوى في غير القرب والنوافل ولا ندب في طاعة الأجانب في ترك النوافل بل الكراهة من غير تحريم وأما ما يجب لذوي الأرحام من غير الأبوين فلم أظفر فيه بتفصيل كما وجدت تلك المسائل في الأبوين بل أصل الوجوب من حيث الجملة فهذا هو الذي قدرت عليه في هذا الفرق وقد رأيت جمعا عظيما على طول الأيام يعسر عليهم تحرير ذلك .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفائدة الثانية ) قال بعضهم حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام لما { قال له رجل : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك ؟ قال : ثم من قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أبوك } روي ثلاثا وروي مرتين فعلى رواية مرتين يكون لها ثلثا البر وعلى رواية ثلاثة يكون لها ثلاثة أرباعه ا هـ وهو باطل إذ الواجب بناء على اختلاف مقادير الأنصباء المضمومة إليها كما هو مقتضى العطف بثم أن يكون للأم على رواية مرتين أقل من ثلثي البر بكثير كما يجب نقصان الأب عن الثلث وأن يكون لها على رواية ثلاثة أقل من ثلاثة أرباعه بكثير كما يجب نقصان الأب عن الربع وذلك أن قول السائل في المرة الأولى من أحق الناس سؤال عن أعلى الرتب فلما .

أجيب عنها عرف أنها الرتبة العالية وقوله في المرة الثانية من بصيغة ثم الدالة على تراخي رتبة الفريق الثاني عن الفريق الأول في البر فقال له صاحب الشرع : أمك فلا يكون هذا الجواب مطابقا حتى تكون هذه المرتبة الثانية أخفض رتبة من الأولى وكذلك الأجوبة التي بعدها بتلك الرتب المجاب بها فكما وجب نقصان الرتبة الثانية عن الأولى كذلك يجب نقصان الرتبة الثالثة عن الثانية والرابعة عن الثالثة عملا بثم الدالة على التراخي والنقصان فيكون نصيب الأب أقل من الثلث بمقدارين على رواية الأم مرتين وبثلاث مقادير على رواية الثلاث فتفاوت الرتب متحقق جزما إلا أن ضبط مقداره لم يتيسر حتى الآن فإن تيسر لك ضبطه فاضبطه وعطف الأم بثم في المرتبة الثالثة والثانية على الأم نفسها في المرتبة التي قبل وإن خالف في الظاهر القاعدة العربية أن الشيء لا يعطف على نفسه إلا أن الأم بقيد الرتبة الدنيا معطوفة على نفسها بقيد الرتبة العليا والشيء الواحد مع غيره غيره في نفسه فالعطف هنا على حد العطف في قولك زيد ابن وأخ وفقيه وتاجر وغير ذلك .




الخدمات العلمية