الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق التاسع والخمسون بين قاعدة عدم علة الإذن أو التحريم وبين عدم علة غيرهما من العلل )

اعلم أن عدم كل واحدة من هاتين العلتين علة للحكم الآخر بخلاف غيرهما من العلل فعدم علة الإذن علة التحريم وعدم علة التحريم علة الإذن .

وأما عدم علة الوجوب فلا يلزم منه شيء فقد يكون غير الواجب محرما وقد يكون مباحا أو مندوبا أو مكروها ، وكذلك عدم علة الندب أو الكراهة قد يكون الفعل بعد ذلك واجبا أو محرما أو مباحا أو متى عدمت علة الإذن تعين التحريم ومتى عدمت علة التحريم تعين الإذن ويتضح ذلك بذكر ثلاث مسائل .

( المسألة الأولى ) علة النجاسة الاستقذار فمتى كانت العين ليست بمستقذرة فحكم الله تعالى في تلك العين عدم النجاسة وأن تكون طاهرة فعلة الطهارة عدم علة النجاسة فهذا هو شأن هذا المقام إلا أن يحدث معارض من جهة أخرى يعارضنا عند عدم العلة كما في الخمر ، فإن الخمر ليست بمستقذرة وإنما قضي بتنجيسها ؛ لأنها مطلوبة الإبعاد والقول بتنجيسها يفضي إلى إبعادها وما يفضي إلى المطلوب مطلوب فتنجيسها مطلوب فتكون نجسة فهذه علة أخرى غير الاستقذار وجدت عند عدمه فقامت مقامه وإلا فالحكم ما ذكر عند عدم المعارض وأكثر الفقهاء يمكنه أن يعلل النجاسة وإذا سألته عن علة الطهارة لا يعلمها وهي عدم علة النجاسة وإذا سئل أيضا أكثر الفقهاء عن النجاسة إلى أي الأحكام الخمسة ترجع ربما عسر عليه ذلك وظن أنها حكم آخر من أحكام الوضع أو غيرها وليس كذلك بل هي ترجع إلى أحد الأحكام الخمسة وهو التحريم وكذلك [ ص: 35 ] إذا قيل لهم ما الطهارة عسر عليهم ذلك حتى رأيت لبعض الأكابر أن الطهارة عبارة عن استعمال الماء الطهور في العين التي قضي عليها بالطهارة وهذا ليس بصحيح فإن بطون الجبال وتلال الرمال وبطون الأرض طاهرة مع عدم استعمال الماء فيها بل النجاسة ترجع إلى تحريم الملابسة في الصلوات والأغذية لأجل الاستقذار أو التوسل للإبعاد فقولي لأجل الاستقذار احترازا من السموم فإنها تحرم ملابستها في الأغذية ، وكذلك الأغذية والأشربة الموجبة للأسقام والأمراض تحرم ملابستها في الأغذية وليست نجسة وقولي أو التوسل للإبعاد احترازا من الخمر حتى تندرج في الحد ، ولو اقتصرت على قولي تحرم ملابستها في الصلوات لكان ذلك كافيا لكن أردت بذكر الأغذية زيادة البيان والطهارة عبارة عن إباحة الملابسة في الصلوات وبهذا التفسير تندرج بطون الجبال وسائر الأعيان فظهر أن النجاسة ترجع للتحريم والطهارة ترجع للإباحة وأن عدم علة التنجيس علة الطهارة وأن عدم علة التحريم علة الإباحة .

( المسألة الثانية ) تحريم الخمر معلل بالإسكار فمتى زال الإسكار زال التحريم وثبت الإذن وجاز أكلها وشربها وعلة إباحة شرب العصير مسالمته للعقل وسلامته عن المفاسد فعدم هذه المسالمة والسلامة علة لتحريمه فظهر أيضا في هذه المسألة أن عدم التحريم علة الإذن وعدم علة الإذن علة التحريم .

( المسألة الثالثة ) الحدث له معنيان أحدهما الأسباب الموجبة للوضوء فلذلك يقال أحدث إذا خرج منه خارج وثانيهما أنه المنع المرتب على هذا السبب وهو المراد بقول العلماء ينوي رفع الحدث بفعله أي ينوي ارتفاع المنع المرتب على ذلك السبب المتقدم ولا يمكن في نيته رفع الحدث إلا بهذا فإن تلك الأسباب الموجبة للوضوء يستحيل رفعها ؛ لأنها صارت واقعة داخلة في الوجود ولا يمكن لعاقل أن يقول إنه يرفع تلك الأعيان المستقذرة من غيرها بوضوء بل الذي ينوي برفعه هذا المنع المرتب على تلك الأسباب ، والمنع وإن كان أيضا وقع وصار من جملة الواقعات والواقعات يستحيل رفعها غير أن المقصود برفعه منع استمراره كما أن عقد النكاح يمنع استمرار منع الوطء في الأجنبية كذلك هاهنا وأكثر الفقهاء لا يعرف معنى الحدث أيضا وهو يرجع إلى تحريم ملابسة الصلاة حتى يتطهر وإذا كان الحدث عبارة عن التحريم ، فإذا تطهر الإنسان وصار يباح له الإقدام على العبادة فالإباحة في هذه الحالة مضافة إلى عدم سبب يقتضي وجوب استعمال الماء في الطهارة فعلة هذه الإباحة عدم علة التحريم التي هي علة الحدث الذي هو المنع فذلك الخارج مثلا هو علة التحريم وعدمه علة الإباحة بعد التطهر واستعمال الماء سبب ارتفاع ذلك المنع وحصول [ ص: 36 ] هذه الإباحة فحصل أيضا في هذا المثال أن علة الإباحة عدم علة التحريم وعدم سبب الإباحة علة التحريم فتأمل ذلك فإن قلت لم لا يكون الوضوء مثلا هو سبب الإباحة وعدمه هو علة التحريم ولا حاجة إلى اعتبار تلك الفضلات المستقذرة وغيرها من الملامسة ونحوها قلت لا خفاء أن الوضوء موجب للإباحة في الإقدام على الصلوات وما هو مشترط فيه الوضوء ونقول على هذا التقدير الطهارة سبب للإباحة المستمرة حتى يطرأ الحدث والحدث سبب المنع المستمر حتى تطرأ الطهارة ويحصل المقصود فإن عدم الطهارة بالكلية سبب المنع وعدم الحدث بالكلية سبب الإباحة فإن قلت فمن لم يحدث قط يلزمك أن تباح له الصلاة وإن لم يتطهر ؛ لأن سبب الإباحة موجود في حقه وهو عدم الحدث قلت التزمه مع أنه فرض محال فإن الإنسان لا بد له أن تخرج منه فضلات غذائه بعد الولادة وعند الولادة فإذا فرض وقوع هذا المحال وهو عدم خروج شيء منه ألبتة لا مانع لي من التزام الإباحة في حقه لا بنص ولا إجماع ولا قياس .

وكذلك أقول في الجنابة والحيض والنفاس في سبب المنع المستمر حتى تطرأ الطهارة والطهارة سبب الإباحة المستمرة حتى تطرأ هذه الأحداث وعدم هذه الأحداث سبب الإباحة من هذا الوجه فلولا اشتراط صاحب الشرع الوضوء لأبحنا الصلاة لمن عدمت في حقه هذه الأحداث الكبار وصح لنا حينئذ في الحدث الأكبر والأصغر والطهارة الكبرى والصغرى أن عدم سبب الإباحة سبب المنع وعدم سبب المنع سبب الإباحة واطردت القاعدة وهذا الخلاف سبب الوجوب وعلته فإن سبب وجوب إراقة دم المرتد ردته فإذا فقدت الردة كان دمه حراما وسبب وجوب النفقة الزوجية أو القرابة ، فإذا عدم ذلك لا تحرم النفقة بل يندب إليها في الأجانب وسبب وجوب القراءة في الصلاة حضور محلها الذي هو القيام فإذا ركع وسجد وعدم القيام كرهت القراءة فلما كان عدم سبب الوجوب لا يستلزم من ذلك حكما معينا فارق بذلك ما تقدم من علة الإباحة والمنع فهذا هو الفرق بين هاتين القاعدتين .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

وما قال في الفرق التاسع والخمسين والفرق الستين والحادي والستين صحيح والله تعالى أعلم



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق التاسع والخمسون بين قاعدة عدم علة الإذن أو التحريم وبين عدم علة غيرهما من العلل )

وذلك أنه متى عدمت علة الإذن تعين التحريم ومتى عدمت علة التحريم تعين الإذن فعدم كل واحدة من هاتين العلتين علة للحكم الآخر أي عدم علة الإذن علة التحريم وعدم علة التحريم علة الإذن .

وأما عدم علة كل من الوجوب أو الندب أو الكراهة فلا يلزم منه شيء فإن غير الواجب قد يكون محرما أو مباحا أو مندوبا أو مكروها وغير المندوب كذلك قد يكون واجبا أو محرما أو مباحا أو مكروها وغير المكروه كذلك قد يكون واجبا أو محرما أو مباحا أو مندوبا ويتضح ذلك بذكر أربع مسائل الثلاثة الأول توضح اطراد القاعدة الأولى والرابعة توضح عدم اطراد القاعدة الثانية .

( المسألة الأولى ) النجاسة ترجع إلى تحريم الملابسة في الصلوات والأغذية للاستقذار أو التوسل للإبعاد فقيد للاستقذار إلخ مخرج لما تحرم ملابسته في الأغذية لا لأجل ذلك بل لكونه مضرا كالسموم والأغذية والأشربة الموجبة للأسقام والأمراض فلا تكون نجسة ومدخل للخمر ونحوها مما قضي بتنجيسه لا لاستقذاره بل لأن القول بتنجيسه يفضي إلى إبعاد وإبعاده مطلوب شرعا فالقول بتنجيسه يفضي إلى مطلوب شرعا وما يفضي إلى المطلوب مطلوب فتنجسه مطلوب فيكون نجسا للتوسل للإبعاد لا للاستقذار وزيادة ، والأغذية لا للاحتراز بل لزيادة البيان ولولا ذلك لكان قولنا تحريم الملابسة في الصلوات كافيا والطهارة ترجع إلى إباحة الملابسة في الصلوات لعدم علة النجاسة [ ص: 46 ] التي هي الاستقذار فمتى كانت العين ليست بمستقذرة فحكم الله فيها عدم النجاسة وأن تكون طاهرة ما لم تكن مطلوبة الإبعاد كالخمر وإلا قضى بتنجيسها مع عدم الاستقذار لقيام علة التوسل إلى الإبعاد مقام الاستقذار فظهر أن كلا من الطهارة والنجاسة لا يخرج عن أحكام التكليف الخمسة بل النجاسة ترجع للتحريم والطهارة ترجع للإباحة وأن عدم علة التنجيس علة الطهارة وأن عدم علة التحريم علة الإباحة .

( المسألة الثانية ) علة تحريم الخمر الإسكار فمتى زال الإسكار بنحو تخليله أو تحجيره زال التحريم وثبت الإذن بجواز أكلها وشربها وعلة إباحة شرب العصير مسالمته للعقل وسلامته عن المفاسد فعدم هذه المسالمة والسلامة علة لتحريم العصير فظهر أيضا أن عدم علة التحريم علة الإذن وعدم علة الإذن علة التحريم .

( المسألة الثالثة ) الحدث كما يطلق على الأسباب الموجبة للوضوء فيقال أحدث إذا خرج منه خارج كذلك يطلق على المنع المرتب على هذا السبب وعليه قول العلماء ينوي رفع الحدث بفعله أي ينوي ارتفاع المنع المرتب على ذلك السبب المتقدم لا أنه ينوي ارتفاع أعيان تلك الأسباب المستقذرة بوضوئه ؛ لأنها صارت واقعة داخلة في الوجود والواقعات يستحيل رفعها والمنع وإن كان أيضا وقع وصار من جملة الواقعات إلا أن المراد برفعه منع استمراره ألا ترى أن عقد النكاح إنما يمنع استمرار منع الوطء في الأجنبية لا نفس الوطء ولا منعه فالحدث عبارة عن المنع المستمر من ملابسة الصلاة ونحوها فهو أيضا يرجع إلى تحريم الملابسة المذكورة حتى يتطهر فيباح له الإقدام على العبادة .

فالإباحة في هذه الحالة مضافة إلى عدم سبب يقتضي وجوب استعمال الماء في الطهارة فالسبب الذي هو الخارج المعتاد من المخرج المعتاد على سبيل الصحة والاعتياد مثلا هو علة الحدث الذي هو التحريم وعدمه علة الإباحة بعد التطهر ، واستعمال الماء سبب ارتفاع ذلك التحريم والمنع وحصول هذه الإباحة فحصل في هذا المثال أيضا أن علة الإباحة عدم علة التحريم وعدم سبب الإباحة علة التحريم نعم على تقدير أن الوضوء هو الموجب للإباحة في الإقدام على الصلوات ونحوها مما اشترط فيه الوضوء وتقول إن الطهارة سبب للإباحة المستمرة حتى [ ص: 47 ] يطرأ الحدث والحدث بمعنى الأسباب الموجبة للوضوء سبب المنع المستمر حتى تطرأ الطهارة ويحصل المقصود فيكون عدم الطهارة بالكلية بسبب المنع وعدم الحدث بالكلية سبب الإباحة فإذا فرض وقوع عدم خروج شيء من الإنسان ألبتة فلا مانع لا بنص ولا بإجماع ولا بقياس من التزامنا الإباحة في حقه .

قلت : ومما يقرب هذا الفرض ما حكاه السبكي في طبقاته من حديث رحمة بنت إبراهيم عن الحاكم عن أبي زكريا يحيى بن محمد العنبري عن أبي العباس عيسى بن محمد بن عيسى الطهماني المروزي أنه ورد في سنة ثمان وثلاثين ومائتين مدينة من مدائن خوارزم تدعى هزارنيف وهي في غربي وادي جيحون ومنها إلى المدينة العظمى مسافة نصف يوم قال وأخبرت أن بها امرأة من نساء الشهداء رأت رؤيا كأنها أطعمت في منامها شيئا فهي لا تأكل شيئا ولا تشرب منذ عهد أبي العباس بن طاهر والي خراسان وكان توفي قبل ذلك بثمان سنين رحمه الله تعالى .

ثم مررت بتلك المدينة سنة اثنين وأربعين ومائتين فرأيتها وحدثتني بحديثها فلم أستقص عليها لحداثة سني ثم إني عدت إلى خوارزم في آخر سنة اثنين وخمسين ومائتين فرأيتها باقية ووجدت حديثها شائعا مستفيضا وهذه المدينة على مدرجة القوافل وكان الكثير ممن ينزلها إذا بلغهم قصتها أحبوا أن ينظروا إليها فلا يسألون عنها رجلا ولا امرأة ولا غلاما إلا عرفها ودل عليها فلما وافيت الناحية طلبتها فوجدتها غائبة على عدة فراسخ فمضيت في أثرها من قرية إلى أخرى فأدركتها بين قريتين تمشي مشية قوية وإذا هي امرأة نصف جيدة القامة ظاهرة الدم متوردة الخدين زكية الفؤاد فسايرتني وأنا راكب فعرضت عليها مركبا فلم تركبه وأقبلت تمشي معي بقوة وحضر مجلسي قوم من التجار والدهاقين وفيهم فقيه يسمى محمد بن حمدويه الحارثي وقد كتب عنه موسى بن هارون البزار بمكة ، وكهل له عبارة ورواية للحديث ، وشاب حسن يسمى عبد الله بن عبد الرحمن وكان يحلق أصحاب المظالم بناحيته فسألتهم عنها فأحسنوا الثناء عليها وقالوا عنها خيرا وقالوا إن أمرها ظاهر عندنا فليس فينا من يختلف فيها قال المسمى عبد الله بن عبد الرحمن أنا أسمع حديثها منذ أيام الحداثة ونشأت والناس يتفاوضون في خبرها وقد فرغت بالي لها وشغلت [ ص: 48 ] نفسي بالاستقصاء عليها فلم أر إلا سترا و عفافا ولم أعثر منها على كذب في دعواها ولا حيلة في التلبيس ، وذكر أن من كان يلي خوارزم من العمال كانوا فيما خلا يشخصونها ويحضرونها الشهر والشهرين والأكثر في بيت يغلقونه عليها ويوكلون عليها من يراعيها فلا يرونها تأكل ولا تشرب ولا يجدون لها أثر بول ولا غائط فيبرونها ويكسونها ويخلون سبيلها ، فلما تواطأ أهل الناحية على تصديقها قصصتها عن حديثها وسألتها عن اسمها وشأنها كله فذكرت أن اسمها رحمة بنت إبراهيم وأنه كان لها زوج نجار فقير معيشته من عمل يده يأتيه رزقه يوما ويوما لا فضل في كسبه عن قوت أهله وأنها ولدت منه عدة أولاد وجاء الأقطع ملك الترك إلى القرية وكان كافرا عاتيا كثير العداوة للمسلمين في زهاء ثلاثة آلاف فارس وعاث وأفسد وقتل ومثل وعجزت عنه خيول خوارزم ، فلما بلغ خبره أبا العباس عبد الله بن طاهر أنهض إليهم أربعة من القواد وشحن البلد بالعساكر والأسلحة ورتبهم في أرباع البلد كل في ربع فحموا الحريم بإذن الله تعالى .

ثم إن وادي جيحون وهو الذي في أعلى نهر بلخ جمد لما اشتد البرد قالت المرأة فعبر الكافر في خيله إلى باب الحصن وقد تحصن الناس وضموا أمتعتهم فحضر أهل الناحية وأرادوا الخروج فمنعهم العامل عن الخروج إلا في عساكر السلطان فشد طائفة من شبان الناس وأحداثهم فتقاربوا من السور بما أطاقوا حمله من السلاح وحملوا على الكفرة فتهارج الكفرة واستحروهم من بين الأبنية والحيطان فلما أصحروا أكثر الترك عليهم وانقطع ما بينهم وبين الحصن وبعدت المؤنة عنهم فحاربوا كأشد حرب وثبتوا حتى تقطعت الأوتار والقسي وأدركهم التعب ومسهم الجوع والعطش وقتل عامتهم وأثخن الباقون بالجراحات ، ولما جن عليهم الليل تحاجز الفريقان قالت المرأة ورفعت النار على المناظر ساعة عبور الكافر فاتصلت بالجرجانية وهي مدينة عظيمة في قاصية خوارزم وكان ميكال مولى طاهر مرابطا بها في عسكر فخف في الطلب وركض إلى هزارنيف في يوم وليلة أربعين فرسخا بفراسخ خوارزم وفيها فضل كثير على فراسخ خراسان وعن للترك الفراغ من أمر أولئك النفر فبينما هم كذلك إذ ارتفعت [ ص: 49 ] لهم الأعلام السود سمعوا أصوات الطبول فأفرجوا عن القوم ووافى ميكال موضع المعركة فوارى القتلى وحمل الجرحى .

قالت المرأة وأدخل الحصن ذلك اليوم زهاء أربعمائة جنازة فلم يبق دار إلا حمل إليها قتيل وعمت المصيبة وارتجت الناحية بالبكاء قالت : ووضع زوجي بين يدي قتيلا فأدركني من الجزع والهلع عليه ما يدرك المرأة الشابة على الزوج أبي الأولاد وكانت لنا عيال قالت فاجتمع النساء من قراباتي والجيران يساعدنني على البكاء وجاء الصبيان وهم أطفال لا يعقلون من الأمور شيئا يطلبون الخبز وليس عندي ما أعطيهم فضقت صدرا بأمري .

ثم إني سمعت أذان المغرب ففزعت إلى الصلاة فصليت ما قضى لي ربي ثم سجدت أدعو وأتضرع إلى الله تعالى وأسأله الصبر وأن يجبر يتم صبياني قالت : فذهب بي النوم في سجودي فرأيت في منامي كأني في أرض خشناء ذات حجارة وأنا أطلب زوجي فناداني رجل إلى أين أيتها الحرة قلت أطلب زوجي فقال : خذي ذات اليمين فرفع لي أرض سهلة طيبة الري ظاهرة العشب وإذا قصور وأبنية لا أحفظ أن أصفها ولم أر مثلها وإذا أنهار تجري على وجه الأرض غير أخاديد ليست لها حافات فانتهيت إلى قوم جلوس حلقا حلقا عليهم ثياب خضر قد علاهم النور فإذا هم الذين قتلوا في المعركة يأكلون على موائد بين أيديهم فجعلت أتصفح وجوههم لألقى زوجي فناداني يا رحمة يا رحمة فيممت الصوت فإذا أنا به في مثل حال من رأيت من الشهداء وجهه مثل القمر ليلة البدر وهو يأكل مع رفقة له قتلوا يومئذ معه فقال لأصحابه إن هذه البائسة جائعة منذ اليوم أفتأذنوا لي أن أناولها شيئا تأكله فأذنوا لي فناولني كسرة خبز قالت وأنا أعلم حينئذ أنه خبز ولكن لا أدري كيف هو أشد بياضا من الثلج واللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد فأكلته فلما استقر في جوفي قال اذهبي كفاك الله مؤنة الطعام والشراب ما حييت في الدنيا فانتبهت من نومي شبعى ريانة لا أحتاج إلى طعام ولا شراب وما ذقتهما منذ ذلك اليوم إلى يومي هذا ولا شيئا يأكله الناس .

قال أبو العباس : وكانت تحضرنا وكنا نأكل فتأخذ على أنفها تزعم أنها تتأذى من رائحة الطعام فسألتها تتغذي بشيء أو تشربي شيئا غير الماء فقالت لا فسألتها هل يخرج منها [ ص: 50 ] ريح أو أذى كما يخرج من الناس ؟ فقالت : لا عهد لي بالأذى منذ ذلك الزمان قلت : والحيض ؟ أظنها قالت : انقطع بانقطاع الطعام قلت : فهل تحتاجين حاجة النساء إلى الرجال ؟ قالت : أما تستحي مني تسألني عن مثل هذا قلت : إني لعلي أحدث الناس عنك ولا بد أن أستقصي قالت : لا أحتاج ، قلت : فتنامين ؟ قالت : نعم أطيب نوم قلت : فما ترين في منامك ؟ قالت : مثل ما ترون قلت : فتجدين لفقد الطعام وهنا في نفسك ؟ قالت : ما أحسست بالجوع منذ طعمت ذلك الطعام وكانت تقبل الصدقة فقلت : ما تصنعين بها ؟ قالت : أكتسي وأكسو ولدي قلت فهل تجدين البرد وتتأذين بالحر ؟ قالت : نعم قلت : يدركك اللغوب والإعياء إذا مشيت ؟ قالت : نعم ألست من البشر ؟ قلت : فتتوضئين للصلاة ؟ قالت : نعم ، قلت : لم ؟ قالت : أمرني بذلك الفقهاء ، فقلت : إنهم أفتوها على حديث لا وضوء إلا من حدث أو نوم وذكرت لي أن بطنها لاصق بظهرها وأمرت امرأة من نسائنا فنظرت فإذا بطنها كما وصفت وإذا قد اتخذت كيسا مصمتا بالقطن وشدته على بطنها كي لا يقصف ظهرها إذا مشت .

ثم لم أزل أختلف إلى هزارنيف ، بين السنتين والثلاث فتحضرني فأعيد مسألتها فلا تزيد ولا تنقص وعرضت كلامها على عبد الله بن عبد الرحمن الفقيه فقال : أنا أسمع هذا الكلام منذ نشأت فلا أجد من يدفعه أو يزعم أنها تأكل أو تشرب أو تتغوط ا هـ . المراد هذا والجنابة والحيض والنفاس مثل الحدث الأصغر في سبب المنع المستمر حتى تطرأ الطهارة والطهارة سبب الإباحة من هذا الوجه فلولا اشتراط صاحب الشرع الوضوء لأبحنا الصلاة لمن عدمت في حقه هذه الأحداث الكبار وصح لنا حينئذ في الحدث الأكبر والأصغر والطهارة الكبرى والصغرى أن عدم سبب الإباحة سبب المنع وعدم سبب المنع سبب الإباحة واطردت القاعدة الأولى .

( المسألة الرابعة ) الردة والعياذ بالله تعالى علة وسبب لوجوب إراقة دم المرتد فإذا فقدت الردة كان دمه حراما والزوجية والقرابة علة وسبب لوجوب النفقة على الزوجة والقريب فإذا عدمت الزوجية والقرابة لا تحرم والنفقة بل يندب إليها في الأجانب وحضور محل القراءة في الصلاة الذي هو القيام علة وسبب لوجوب القراءة في الصلاة فإذا ركع وسجد وعدم القيام كرهت القراءة فلم يستلزم عدم سبب الوجوب وعلته كما [ ص: 51 ] رأيت حكما معينا كما استلزم عدم سبب المنع وعلته الإباحة وعدم سبب الإباحة وعلتها المنع في المسائل قبل واتضح الفرق بين القاعدتين والله أعلم .




الخدمات العلمية