الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( القاعدة التاسعة عشر ) التفضيل بجودة البنية والتركيب وله أمثلة :

أحدها تفضيل الملائكة الكرام صلوات الله عليهم على الجان بسبب جودة أبنيتهم وحسن تركيبهم فإنهم خلقوا من نور [ ص: 225 ] ويسير جبريل عليه السلام من العرش إلى الفرش سبعة آلاف سنة في لحظة واحدة ويحمل مدائن لوط الخمسة من تحت الأرض على جناحه لا يضطرب منها شيء بل يقتلعها من تحتها على هذا الوجه ويصعد بها إلى الجو ثم يقلبها وهذا عظيم .

والملك الواحد من الملائكة يقهر الجمع العظيم من الجان ولذلك سأل سليمان عليه السلام ربه تعالى أن يولي على الجان الملائكة ففعل له ذلك فهم الزاجرون لهم اليوم عند العزائم وغيرها التي يتعاطاها أهل هذا العلم فيقسمون على الملائكة بتلك الأسماء التي تعظمها الملائكة فتفعل في الجان ما يريده المقسم عليهم بتلك الأسماء المعظمة وكانوا قبل زمن سليمان عليه السلام يخالطون الناس في الأسواق ويعبثون بهم عبثا شديدا فلما رتب سليمان هذا الترتيب وسأله من ربه انحازوا إلى الفلوات والخراب من الأرض فقلت أذيتهم والملائكة تراقبهم في ذلك فمن عبث منهم وعثا ردوه ، أو قتلوه كما يفعل ولاة بني آدم مع سفهائهم وما سبب اقتدار الملائكة على الجان إلا فضل أبنيتهم ووفور قوتهم فهم مفضلون على الجان من هذا الوجه مضافا لبقية الوجوه ، وهذه النكتة ينتفع بها كثيرا في النصوص الدالة على تفضيل الملائكة على البشر فإن الصحيح أن البشر أفضل على تفصيل يذكر في موضعه فإذا قصد الجواب عن تلك النصوص حمل ذلك التفضيل والثناء على الأبنية وجودة التركيب إذا كان النص يحتمل ذلك فيندفع أكثر الأسئلة والنقوض عن المستدل على أفضلية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا نزاع أن الملائكة أفضل في أبنيتهم وأن أبنية بني آدم خسيسة [ ص: 226 ] بالنسبة إلى أبنية الملائكة فتحمل آية التفضيل على ذلك .

وثانيها تفضيل الجان على بني آدم في الأبنية وجودة التركيب من جهة أنهم يعيشون الآلاف من السنين فلا يعرض لهم الموت وكذلك لا تعرض لهم الأمراض والأسقام التي تعرض لبني آدم بسبب أن أجسادهم ليست مشتملة على الرطوبات وأجرام الأغذية فلا يحصل العفن ولا آفات الرطوبات التي تعرض لبني آدم فلذلك كثر بقاؤهم وطال ، وأسرع لبني آدم الموت ومما ورد في ذلك قول الشاعر في الجان لما ورد عليه بالليل وهو يقيد النار :

أتوا ناري فقلت منون أنتم فقالوا الجن قلت عموا ظلاما     فقلت إلى الطعام فقال منهم
زعيم يحسد الإنس الطعاما     لقد فضلتم بالأكل عنا
ولكن ذاك يعقبكم سقاما

فصرحوا في شعرهم بما تقدم .

وقال جماعة من العلماء الغزالي رحمه الله في الإحياء وغيره : إنهم يتغذون من الأعيان بروائحها ولذلك جاء في الحديث { أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مر أمتك لا يستجمروا بروث ولا عظم فإنها طعامنا وطعام دوابنا } مع أنا نجد العظم يمر عليه الدهر الطويل لا يتغير منه شيء فدل ذلك على أنهم يتغذون بالرائحة ورأيت في بعض الكتب عن وهب بن منبه أنهم طوائف منهم من يتغذى بالرائحة ومنهم من يتغذى بجرم الغذاء ومنهم طائر لا يأوي في الأرض ومنهم من يأوي في الأرض يرحلون وينزلون في البراري كالأعراب ، وإن أحوالهم مختلفة في ذلك وعلى الجملة فتراكيبهم أعظم وسيرهم في الأرض أيسر فيسيرون المسافة الطويلة في الزمن القصير ولذلك تؤخذ عنهم أخبار الوقائع والحوادث في البلاد البعيدة عنا بسبب سرعة حركتهم وتنقلهم على وجه الأرض واتخذهم سليمان عليه السلام لأعمال تعجز عنها البشر [ ص: 227 ] بسبب فرط قوتهم قال الله تعالى { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب } ولهم قوة التنقل على التصور في كل حيوان أرادوا فتقبل بنيتهم التنقل إلى الحيات والكلاب والبهائم وصور بني آدم وهذا لا يتأتى إلا مع جودة البنية ولطافة التركيب وبنيتنا نحن لا تقبل شيئا من هذا ؛ لأنا خلقنا من تراب شأنه الثبوت والرصافة والدوام على حالة واحدة وخلقوا من نار شأنها التحرك وسرعة الانتقال واللطافة وهذا المعنى هو الذي غر إبليس فأوجب له الكبر على آدم - صلوات الله عليه - وترك أن الله يفضل من يشاء على من يشاء ويحكم ما يريد فجاء بالاعتراض في غير موضعه فهلك .

وثالثها تفضيل الذهب على الفضة بجودة البنية فإن بنية الذهب ملتزة متداخلة ، وبنية الفضة متفشفشة رخوة وسبب ذلك من حيث العادة ما ذكره المتحدثون عن المعادن أن طبخ الذهب طال تحت الأرض بحر الشمس أربعة آلاف سنة ، والفضة لم يحصل لها ذلك فكان بنية الذهب أفضل من بنية الفضة .

( القاعدة العشرون ) التفضيل باختيار الرب تعالى لمن يشاء على من يشاء ولما يشاء على ما يشاء فيفضل أحد المتساويين من كل وجه على الآخر كتفضيل شاة الزكاة على شاة التطوع وتفضيل فاتحة الكتاب داخل صلاة الفرض على الفاتحة خارج الصلاة فإن الواجب أفضل مما ليس بواجب وكذلك تفضيل حج الفرض على تطوعه والأذكار في الصلاة على مثلها خارج الصلاة إذا تقررت هذه القواعد في أسباب التفضيل .

فاعلم أن هذه الأسباب الموجبة للتفضيل قد تتعارض فيكون الأفضل من حاز أكثرها وأفضلها والتفضيل إنما يقع بين المجموعات وقد يختص المفضول ببعض الصفات الفاضلة ولا يقدح ذلك في التفضيل عليه لقوله صلى الله عليه وسلم { أقضاكم علي وأفرضكم زيد وأقرؤكم أبي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل } رضي الله عنهم مع أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الجميع وكاختصاص سليمان عليه السلام بالملك العظيم ونوح عليه السلام [ ص: 228 ] بإنذار المئين من السنين وآدم صلى الله عليه وسلم بكونه أبا البشر مع تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على الجميع فلولا هذه القاعدة وهي تجويز اختصاص المفضول بما ليس للفاضل للزم التناقض واعلم أن تفضيل الملائكة والأنبياء صلوات الله تعالى عليهم أجمعين إنما هو بالطاعات وكثرة المثوبات والأحوال السنيات وشرف الرسالات والدرجات العليات فمن كان فيها أتم فهو أفضل وكذلك التفضيل بين العبادات إنما هو بمجموع ما فيها فقد يختص المفضول بما ليس للفاضل كاختصاص الجهاد بثواب الشهادة والصلاة أفضل منه وليس فيها ذلك والحج أفضل من الغزو ، وكذلك الحج فيه تكفير الذنوب كبيرها وصغيرها وجاء في الحديث { من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه } وهو يقتضي الذنوب كلها والتبعات ؛ لأنه يوم الولادة كان كذلك .

وقد ورد في بعض الأحاديث { أن الله تعالى تجاوز لهم عن الخطيئات وضمن عنهم التبعات } والصلاة ليس فيها ذلك مع أنها أفضل من الحج ، وما ذلك إلا لأنه يجوز أن يختص المفضول بما ليس للفاضل وقد تقدم أن الشيطان يفر من الأذان والإقامة ولا يفر من الصلاة مع أنها أفضل منهما وقد تقدم تفضيله وأنه يخرج على هذه القاعدة ، ثم اعلم أن المفضولات منها ما يطلع على سبب تفضيله ومنها لا يعلم إلا بالسمع المنقول عن صاحب الشريعة كتفضيل مسجده صلى الله عليه وسلم وأن الصلاة فيه خير من ألف صلاة في غيره وفي المسجد الحرام بمائة ألف صلاة وفي بيت المقدس بخمسمائة صلاة وهذه أمور لا تعلم إلا بالسمعيات ومن تفضيل المدينة على مكة عند مالك رحمه الله ومكة على المدينة عند الشافعي رضي الله عنه لا يعلم ذلك إلا بالنصوص وقد ذكرت في مواضعها من الفقه ، وإنما المقصود ههنا تحرير القواعد الكلية والتنبيه عليها أما جزئيات المسائل ففي مواضعها تنبيه يطلع منه على تفضيل الصلاة على سائر العبادات فنقول تقرر أن تصرف العباد على أربعة أقسام

أحدها حق الله تعالى [ ص: 229 ] فقط كالمعارف وكالإيمان بما يجب ويستحيل ويجوز عليه سبحانه وتعالى .

وثانيها حق العباد فقط بمعنى أنهم متمكنون من إسقاطه ، وإلا فكل حق للعبد ففيه حق لله تعالى وهو أمره عز وجل بإيصاله إلى مستحقه كأداء الديون ورد الغصوب والودائع .

وثالثها حق لله تعالى وحق للعباد والغالب مصلحة العباد كالزكوات والصدقات والكفارات وكالأموال المنذورات والضحايا والهدايا والوصايا والأوقاف .

ورابعها حق لله تعالى وحق لرسوله صلى الله عليه وسلم وللعباد كالأذان فحقه تعالى التكبيرات والشهادة بالتوحيد وحق رسوله الشهادة له بالرسالة وحق العباد الإرشاد للأوقات في حق النساء والمنفردين والدعاء للجماعات في حق المقتدين والصلاة مشتملة على حق الله تعالى كالنية والتكبير والتسبيح والتشهد والركوع والسجود وما يصحبها من الحركات والتروك والكف عن الكلام وكثير الأفعال وعلى حقه صلى الله عليه وسلم كالصلاة عليه والتسليم عليه والشهادة له بالرسالة وعلى حق المكلف وهو دعاؤه لنفسه بالهداية والاستقامة على العبادة وغيرها ، والقنوت ودعاؤه في السجود والجلوس لنفسه وقوله السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليم آخر الصلاة على الحاضرين ولهذه الوجوه ونحوها كانت الصلاة أفضل الأعمال بعد الإيمان وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أفضل أعمالكم الصلاة } فهي من المفضلات التي علم سبب تفضيلها

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال : ( القاعدة التاسعة عشر التفضيل بجودة البنية والتركيب وله أمثلة أحدها تفضيل الملائكة الكرام - صلوات الله عليهم - على الجان بسبب جودة أبنيتهم وحسن تركيبهم )

قلت ما قاله في هذه القاعدة غير صحيح ؛ لأنه بنى جميع قوله فيها على نسبة تلك الآثار [ ص: 225 ] التي ذكرها إلى تأثير غير القدرة القديمة على ما ظهر من مساق كلامه والله تعالى أعلم وما قاله بعد ذلك في القاعدة العشرين وما بعده إلى منتهى قوله فهي من المفضلات التي علم تفضيلها صحيح كله [ ص: 226 - 229 ] .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( القاعدة التاسعة عشرة ) التفضيل بجودة البنية والتركيب وله أمثلة .

أحدها تفضيل الملائكة الكرام صلوات الله عليهم على الجان بسبب ما جعله الله تعالى فيهم من جودة البنية وحسن التركيب فإنهم خلقوا من نور وجعل الله فيهم سرعة السير ووفور القوة بحيث إن جبريل عليه السلام يسير من العرش إلى الفرش سبعة آلاف سنة في لحظة واحدة ويحمل مدائن لوط الخمسة من تحت الأرض على جناحه لا يضطرب منها شيء بل يقلعها من تحتها على هذا الوجه ويصعد بها إلى الجو ، ثم يقلبها وبحيث إن الملك الواحد من الملائكة يقهر الجمع العظيم من الجان ولذلك سأل سليمان عليه السلام ربه تعالى أن يولي على الجان الملائكة ففعل له ذلك فهم الزاجرون لهم اليوم عند العزائم وغيرها التي يتعاطاها أهل العلم فيقسمون على الملائكة بتلك الأسماء التي تعظمها الملائكة فتفعل في الجان ما يريده الله تعالى عند ذلك الإقسام بتلك الأسماء المعظمة وكانوا قبل زمن سليمان عليه السلام يخالطون الناس في الأسواق ويعبثون بهم عبثا شديدا فلما رتب سليمان هذا الترتيب وسأله من ربه انحازوا إلى الفلوات والخراب من الأرض فقلت أذيتهم والملائكة تراقبهم في ذلك فمن عبث منهم وعثا ردوه ، أو قتلوه كما يفعل ولاة بني آدم مع سفهائهم ، وتفضيلهم على الجان من هذا الوجه يضاف لبقية الوجوه وعلى هذه النكتة من التفضيل تحمل النصوص الدالة على تفضيل الملائكة على البشر إذا احتمل النص ذلك ؛ إذ لا نزاع في أن أبنية بني آدم خسيسة بالنسبة إلى أبنية الملائكة فلا تعارض ما هو الصحيح من أن البشر أفضل على تفصيل يذكر في موضعه لأمور .

أحدها أن الملائكة عقل محض والبهائم شهوة محضة والإنسان مركب منهما فكما أن غلبة الشهوة تنزل الإنسان عن البهائم بعذرها بالعدم كما قال تعالى { أولئك كالأنعام بل هم أضل } كذلك غلبة العقل ترفعه عن الملائكة ؛ إذ وجود الشهوات مع قمعها أتم من باب " أفضل العبادة أحمزها بحاء مهملة فزاي أي أشقها " .

الأمر الثاني أن الملائكة مع قدرتهم على التشكل بأشكال مختلفة للطافة أجسامهم النورانية لا يتشكلون في صور بعضهم فلا يتشكل جبريل بصورة ميكائيل ولا العكس بخلاف أولياء البشر فيمكنهم ذلك كما في اليواقيت عن ابن العربي .

الأمر الثالث أن في اليواقيت عن الشيخ الأكبر أن مقام { لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل } الحديث من خصوصيات البشر ، وأما الملائكة فكل طاعاتهم محتمة عليهم فلا يفرغون من توظيف حتى يمكنهم التطوع نعم قال السعد لا قاطع في هذه المقامات كذا يؤخذ من الأمير على عبد السلام على الجوهرة

وثانيها تفضيل [ ص: 225 ] الجان على بني آدم في الأبنية وجودة التركيب من جهة تقديره تعالى أنهم يعيشون الآلاف من السنين فلا يعرض لهم الموت وكذلك لا تعرض لهم الأمراض والأسقام التي تعرض لبني آدم بسبب أن أجسادهم لم يجعلها تعالى مشتملة على الرطوبات وأجرام الأغذية كما جعل أجساد بني آدم مشتملة على ذلك فصار يعرض لها العفن وآفات الرطوبات دون أجساد الجان فلذلك كثر بقاؤهم وطال وأسرع لبني آدم الموت على حسب تقدير العزيز العليم ومما ورد قول الشاعر في الجان لما ورد عليه وهو يقيد النار :

أتوا ناري فقلت منون أنتم فقالوا الجن قلت عموا ظلاما فقلت إلى الطعام فقال منهم
زعيم يحسد الإنس الطعاما لقد فضلتم بالأكل عنا
ولكن ذاك يعقبكم سقاما

فصرحوا في شعرهم بما تقدم .

وقال جماعة من العلماء منهم الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء إنهم يتغذون من الأعيان بروائحها ولذلك جاء في الحديث { أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مر أمتك لا يستجمروا بروث ولا عظم فإنها طعامنا وطعام دوابنا } مع أنا نجد العظم يمر عليه الدهر الطويل لا يتغير منه شيء فدل ذلك على أنهم يتغذون بالرائحة .

قال الأصل ورأيت في بعض الكتب عن وهب بن منبه أنهم طوائف منهم من يتغذى بالرائحة ومنهم من يتغذى بجرم الغذاء ومنهم طائر لا يأوي في الأرض ومنهم من يأوي في الأرض يرحلون وينزلون في البراري كالأعراب ، وإن أحوالهم مختلفة في ذلك وعلى الجملة فتراكيبهم أعظم وسيرهم في الأرض أيسر فيسيرون المسافة الطويلة في الزمن القصير ولذلك تؤخذ عنهم أخبار الوقائع والحوادث في البلاد البعيدة عنا بسبب سرعة حركتهم وتنقلهم على وجه الأرض واتخذهم سليمان عليه السلام لأعمال تعجز عنها البشر بسبب فرط قوتهم قال الله تعالى { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب } ولهم قوة التنقل على التصور في كل حيوان أرادوا فتقبل بنيتهم التنقل إلى الحيات والكلاب والبهائم وصور بني آدم وهذا لا يتأتى إلا مع جودة البنية ولطافة التركيب وبنيتنا نحن لا تقبل شيئا من هذا لأنا خلقنا من تراب شأنه الثبوت والرصافة والدوام على حالة واحدة وخلقوا من نار شأنها التحرك وسرعة الانتقال واللطافة وهذا المعنى هو الذي غر إبليس فأوجب له الكبر على آدم صلوات الله عليه وترك أن الله يفضل من يشاء على من يشاء ويحكم ما يريد فجاء بالاعتراض في غير موضعه فهلك ا هـ .

وفي كتاب مسامرة الأخيار للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي - قدس سره - خبر الحية الطائفة بالبيت عن أبي الطفيل قال كانت امرأة من الجن في الجاهلية تسكن ذا طوى وكان لها ابن ولم يكن لها ولد غيره وكانت تحبه حبا شديدا وكان شريفا في قومه فتزوج وأتى زوجته فلما كان يوم سابعه قال لأمه يا أمه إني أحب أن أطوف بالكعبة سبعا نهارا قالت له أمه : أي بني إني أخاف عليك سفهاء قريش فقال أرجو السلامة فأذنت له فولى في صورة جان فلما أدبر جعلت تعوذه وتقول [ ص: 226 ]

أعيذه بالكعبة المستوره ودعوات ابن أبي محذوره
وما تلا محمد من سوره إني إلى حياته فقيره
، وإنني بعيشه مسروره

فمضى الجان أي وهو في صورة حية نحو الطواف فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين ، ثم أقبل منقلبا حتى إذا كان ببعض دور بني سهم عرض له شاب من بني سهم أحمر أكثف أزرق أحول أعسر فقتله فثارت بمكة غبرة حتى لم تبصر لها الجبال قال أبو الطفيل وبلغنا أنه إنما تثور تلك الغبرة عند موت عظيم من الجن قال فأصبح من بني سهم على فراشهم موتى كثير من قبل الجن فكان فيهم سبعون شيخا أصلع سوى الشباب قال فنهضت بنو سهم وحلفاؤها ومواليها وعبيدها فركبوا الجبال والشعاب بالثنية فما تركوا حية ولا عقربا وخنفساء ولا شيئا من الهوام يدب على وجه الأرض إلا قتلوه فأقاموا بذلك ثلاثا فسمعوا في الليلة الثالثة على أبي قبيس هاتفا يهتف بصوت له جهوري يسمع بين الجبلين يا معشر قريش الله الله فإن لكم أحلاما وعقولا أعذرونا أعذرونا من بني سهم فقد قتلوا منا أضعاف ما قتلنا منهم ادخلوا بيننا وبينهم بصلح نعطهم ويعطونا العهد والميثاق أن لا يعود بعضنا لبعض بسوء أبدا ففعلت ذلك قريش واستوثقوا لبعضهم من بعض فسميت بنو سهم العياطلة قتلة الجن ا هـ .

المراد منه فانظره . وثالثها : تفضيل الذهب على الفضة بجودة البنية فإن بنية الذهب ملتززة متداخلة وبنية الفضة متفشفشة رخوة ، وسبب ذلك كما قيل إن طبخ الذهب طال تحت الأرض بحر الشمس أربعة آلاف سنة ، والفضة لم يحصل لها ذلك فكانت بنية الذهب أفضل من بنية الفضة . القاعدة العشرون : التفضيل باختيار الرب تعالى لمن يشاء على من يشاء ولما يشاء على ما يشاء ؛ بأن يفضل أحد المتساويين من كل وجه على الآخر كتفضيل شاة الزكاة على شاة التطوع ، وتفضيل فاتحة الكتاب داخل صلاة الفرض على الفاتحة خارج الصلاة ، وحج الفرض على تطوعه ، فإن الواجب أفضل مما ليس بواجب ، وكتفضيل الأذكار في الصلاة على مثلها خارج الصلاة ( خاتمة ) نسأل الله حسنها . في مهمات : ( المهم الأول ) أن تفضيل الأزمان والبقاع قسمان : الأول : دنيوي ، كتفضيل الربيع على غيره ، وكتفضيل بعض البلدان بالثمار والأنهار وطيب الهواء وموافقة الأهواء .

والثاني : ديني ، كتفضيل الثلث الأخير من الليل على غيره من الأزمنة بإجابة الدعوات ومغفرة الزلات وإعطاء السؤال ونيل الآمال ، ورمضان على الشهور ، وعاشوراء ويوم عرفة وأيام البيض والجمعة والخميس والاثنين ونحو ذلك مما ورد الشرع بتفضيله وتعظيمه على ما عداه من الأزمنة وكتفضيل مكة والمدينة وبيت المقدس وعرفة والمطاف والمسعى ومزدلفة ومنى ومرمى الجمار ونحو ذلك من البقاع التي ورد الشرع بتفضيلها على غيرها ومن الأقاليم المفضلة شرعا اليمن لقوله صلى الله عليه وسلم { الإيمان يماني والحكمة يمانية } والمغرب لقوله صلى الله عليه وسلم { لا تزال طائفة من أهل المغرب قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك } .

( المهم الثاني ) المفضلات ثلاثة أقسام : الأول [ ص: 227 ] ما يطلع على سبب تفضيله كتفضيل الصلاة بعد الإيمان على سائر العبادات وذلك أنه قد مر أن أقسام تصرف العبادة أربعة : أحدها حق الله تعالى فقط كالمعارف والإيمان بما يجب ويستحيل ويجوز عليه سبحانه وتعالى .

وثانيها حق العباد فقط بمعنى أنهم متمكنون من إسقاطه ، وإلا فكل حق للعبد ففيه حق لله تعالى وهو أمره عز وجل بإيصاله إلى مستحقه كأداء الديون ورد الغصوب والودائع .

وثالثها حق لله تعالى وحق للعباد والغالب مصلحة العباد كالزكوات والصدقات والكفارات والأموال المنذورات والضحايا والهدايا والوصايا والأوقاف .

ورابعها حق لله تعالى وحق لرسوله صلى الله عليه وسلم وللعباد كالأذان فحقه تعالى التكبيرات والشهادة بالتوحيد وحق رسوله الشهادة له بالرسالة ، وحق العباد الإرشاد للأوقات في حق النساء والمنفردين ، والدعاء للجماعات في حق المقتدين ، والصلاة مع كونها من المقاصد قد اشتملت على حق الله تعالى كالنية والتكبير والتسبيح والتشهد والركوع والسجود وما يصحبها من الحركات والتروك والكف عن الكلام وكثير الأفعال وعلى حقه صلى الله عليه وسلم كالصلاة عليه والتسليم عليه والشهادة له بالرسالة وعلى حق المكلف وهو دعاؤه لنفسه في القيام بالهداية والاستقامة على العبادة وغيرها ، والقنوت ، وفي السجود والجلوس لنفسه ، وقوله السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليم آخر الصلاة على الحاضرين فلذا قال صلى الله عليه وسلم { أفضل أعمالكم الصلاة } .

القسم الثاني ما لا يعلم تفضيله إلا بالسمع المنقول عن صاحب الشريعة كتفضيل مسجده صلى الله عليه وسلم وأن الصلاة فيه خير من ألف صلاة في غيره ، وفي المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، وفي بيت المقدس بخمسمائة صلاة فإن هذه أمور لا تعلم إلا بالسمعيات .




الخدمات العلمية