الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وأما تفضيل مكة على المدينة ، أو المدينة على مكة فبأمور نعلمها وأمور لا نعلمها فمن المعلوم كون المدينة مهاجر [ ص: 230 ] سيد المرسلين وموطن استقرار الدين وظهور دعوة المؤمنين ومدفن سيد الأولين والآخرين وبها كمل الدين واتضح اليقين وحصل العز والتمكين وكان النقل من أهلها أفضل النقول وأصح المعتمدات ؛ لأن الأبناء فيه ينقلون عن الآباء والأخلاف عن الأسلاف فيخرج النقل عن حيز الظن والتخمين إلى حيز العلم واليقين ومن جهة النصوص بوجوه .

أحدها قوله صلى الله عليه وسلم { المدينة خير من مكة } وهو نص في الباب ويرد عليه أنه ، وإن كان نصا في التفضيل غير أنه مطلق في المتعلق فيحتمل أنها خير من جهة سعة الرزق والمتاجر فما تعين محل النزاع .

وثانيها دعاؤه صلى الله عليه وسلم بمثل ما دعا به إبراهيم صلى الله عليه وسلم لمكة ومثله معه ويرد عليه أنه مطلق في المدعو به فيحمل ما صرح به في الحديث وهو الصاع والمد .

وثالثها قوله صلى الله عليه وسلم { اللهم إنهم أخرجوني من أحب البقاع إلي فأسكني أحب البقاع إليك } وما هو أحب إلى الله يكون أفضل والظاهر استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم وقد أسكنه المدينة فتكون أفضل البقاع وهو المطلوب ويرد عليه أن السياق لا يأبى دخول مكة في المفضل عليه لإياسه صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت فيكون المعنى فأسكني أحب البقاع إليك مما عداها ، وإذا لم تدخل مكة في المفضل عليه احتمل أن تكون أفضل من المدينة فتسقط الحجة مع أنه لم يصح من جهة النقل ولو صح فهو من مجاز وصف المكان بصفة ما يقع فيه كما يقال بلد طيب أي هواها والأرض المقدسة أي قدس من فيها ، أو من دخلها من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ؛ لأنهم مقدسون من الذنوب والخطايا وكذلك الوادي المقدس أي قدس موسى عليه السلام فيه والملائكة الحالون فيه وكذلك وصفه عليه الصلاة والسلام البقعة [ ص: 231 ] بالمحبة وهو وصف لها بما جعله الله تعالى فيها مما يحبه الله تعالى ورسوله وهي إقامته صلى الله عليه وسلم بها ، وإرشاد الخلق إلى الحق وقد اقتضى ذلك التبليغ وتلك القربات فبطل الوصف الموجب للتفضيل على هذا التقدير ، ورابعها قوله صلى الله عليه وسلم { لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة } ويرد عليه سؤالان :

أحدهما أنه يدل على الأفضل لا على الأفضلية

وثانيها أنه مطلق في الزمان فيحمل على زمانه صلى الله عليه وسلم والكون معه لنصرة الدين ويعضده خروج الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاته إلى الكوفة والبصرة والشام وغير ذلك من البلاد

وخامسها قوله صلى الله عليه وسلم { إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها } أي تأوي ويرد عليه أن ذلك عبارة عن إتيان المؤمنين لها بسبب وجوده صلى الله عليه وسلم فيها حال حياته فلا عموم له في الأزمان ولا بقاء لهذه الفضيلة بعده لخروج الصحابة رضي الله عنهم إلى العراق وغيره وهم أهل الإيمان وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فيحمل على زمان يكون الواقع فيه ذلك تحقيقا لصدقه صلى الله عليه وسلم .

وسادسها قوله صلى الله عليه وسلم { إن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد } ويرد عليه أنه مطلق في الأزمان فيحمل على زمانه صلى الله عليه وسلم لخروج الصحابة بعده فيلزم أن يكونوا خبثا وليس كذلك .

وسابعها قوله صلى الله عليه وسلم { ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة } ويرد عليه أنه يدل على فضل ذلك الموضع لا المدينة وأما مكة شرفها الله تعالى ففضلت بوجوه .

أحدها وجوب الحج والعمرة على الخلاف في وجوب العمرة والمدينة يندب لإتيانها ولا يجب .

وثانيها أن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة بعد النبوة أكثر من المدينة فأقام بمكة ( ثلاث عشرة ) سنة وبالمدينة عشرا غير أنه يرد على هذا الوجه أن تلك العشرة كان كماله صلى الله عليه وسلم وكمال الدين فيها أتم وأوفر فلعل ساعة بالمدينة كانت أفضل من سنة بمكة ، أو من جملة الإقامة بها

وثالثها فضلت المدينة بكثرة الطارئين من عباد الله الصالحين وفضلت مكة بالطائفين من [ ص: 232 ] الأنبياء والمرسلين فما من نبي إلا حجها آدم فمن سواه ولو كان لملك داران فأوجب على عباده أن يأتوا إحداهما ووعدهم على ذلك بمغفرة سيئاتهم ورفع درجاتهم دون الأخرى لعلم أنها عنده أفضل .

ورابعها أن التعظيم والاستلام نوع من الاحترام وهما خاصان بالكعبة

وخامسها وجوب استقبالها يدل على تعظيمها

وسادسها تحريم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة يدل على تعظيمها ولم يحصل ذلك لغيرها

وسابعها تحريمها يوم خلق الله السموات والأرض ولم تحرم المدينة إلا في زمانه صلى الله عليه وسلم وذلك دليل فضلها

وثامنها كونها مثوى إبراهيم ، وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام

وتاسعها كونها مولد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم

وعاشرها كونها لا تدخل إلا بإحرام وذلك يدل على تعظيمها

وحادي عشرها قوله تعالى { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا }

وثاني عشرها الاغتسال لدخولها دون المدينة

وثالث عشرها ثناء الله تعالى على البيت الحرام { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين } واعلم أن تفضيل الأزمان والبقاع قسمان : تفضيل دنيوي كتفضيل الربيع على غيره ، وكتفضيل بعض البلدان بالثمار والأنهار وطيب الهواء وموافقة الأهواء ، وديني كتفضيل رمضان على الشهور وعاشوراء على الأيام وكذلك يوم عرفة وأيام البيض وعشر المحرم والخميس والاثنين ونحو ذلك مما ورد الشرع بتفضيله وتعظيمه من الأزمنة والبقاع نحو مكة والمدينة وبيت المقدس وعرفة والمطاف والمسعى ومزدلفة ومنى ومرمى الجمار ، ومن الأقاليم اليمن لقوله صلى الله عليه وسلم { الإيمان يمان والحكمة يمانية } والمغرب لقوله عليه الصلاة والسلام { لا تزال طائفة من أهل المغرب قائمين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك } ومن الأزمنة الثلث الأخير من الليل فضله الله تعالى بإجابة الدعوات ومغفرة الزلات ، وإعطاء السؤال ونيل الآمال ، وأسباب التفضيل كثيرة لا أقدر على إحصائها خشية الإسهاب ، وإنما بعثني على الوصول فيها إلى هذه الغاية ما أنكره بعض فضلاء الشافعية على القاضي عياض رحمهما الله تعالى من قوله إن الأمة أجمعت على أن البقعة التي ضمت أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل البقاع فقال الثواب هو سبب التفضيل والعمل ههنا متعذر فلا ثواب فكيف يصح هذا الإجماع وشنع عليه كثيرا فأردت أن أبين تعدد الأسباب في ذلك فبطل ما قاله من الرد على القاضي وبلغني أيضا عن المأمون بن الرشيد الخليفة أنه قال أسباب التفضيل أربعة وكلها كملت في علي رضي الله عنه فهو أفضل الصحابة وأخذ يرد بذلك على أهل السنة فأردت أيضا أن أبطل ما ادعاه من الحصر ، ومسائل التفضيل كثيرة بين الصحابة وبين الأنبياء والملائكة وهي أشبه بأصول الدين وهذا الكتاب إنما قصدت فيه ما يتعلق بالقواعد الفقهية خاصة فلذلك اقتصرت على تفضيل الصلاة ومكة والمدينة ؛ لأنها من المسائل الفقهية وأحلت ما عداها على موضعه والله الموفق .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( وأما تفضيل مكة على المدينة ، أو المدينة على مكة فبأمور نعلمها وأمور لا نعلمها وذكر أمورا مما تفضل بها المدينة ) قلت : لم يزد على حكاية المذهبين ، وإيراد الحجج عليهما ولم يعين الراجح وفيه نظر وما قاله من أن أسباب التفضيل كثيرة هو كما قال ، وقول من ادعى حصر التفضيل في الثواب غير صحيح كما ذكر ، والله تعالى أعلم .

وما قاله من قصده الاقتصار على ما يتعلق بالقواعد الفقهية إن [ ص: 230 ] أراد أنه لم يذكر إلا ما هو من الفقه فليس ما ذكره كذلك ، وإن أراد أنه ذكر ما هو من الفقه وما يتعلق به بوجه ما فذلك صحيح ، والله أعلم . [ ص: 231 ]



حاشية ابن حسين المكي المالكي

القسم الثالث ما تفضيله بأمور نعلمها وأمور لا نعلمها إلا بالسمع المنقول عن صاحب الشريعة كتفضيل المدينة على مكة في مشهور مذهبنا فمن جهة المعلوم بوجوه ككونها مهاجر سيد المرسلين وموطن استقرار الدين وظهور دعوة المؤمنين ومدفن سيد الأولين والآخرين وبها كمل الدين واتضح اليقين وحصل العز والتمكين وكان النقل عن أهلها أفضل النقول وأصح المعتمدات لأن الأبناء فيه ينقلون عن الآباء والأخلاف عن الأسلاف فيخرج النقل عن حيز الظن والتخمين إلى حيز العلم واليقين ومن جهة النصوص بوجوه .

أحدها قوله صلى الله عليه وسلم المدينة خير من مكة .

وثانيها دعاؤه صلى الله عليه وسلم بمثل ما دعا به إبراهيم صلى الله عليه وسلم لمكة ومثله معه

وثالثها قوله صلى الله عليه وسلم { اللهم إنهم أخرجوني من أحب البقاع إلي فأسكني أحب البقاع إليك } وما هو أحب إلى الله يكون أفضل والظاهر استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم وقد أسكنه المدينة فتكون أفضل البقاع وهو المطلوب .

ورابعها قوله صلى الله عليه وسلم { لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة } .

وخامسها قوله صلى الله عليه وسلم { إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى [ ص: 228 ] جحرها } أي تأوي .

وسادسها قوله صلى الله عليه وسلم { إن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد } .

وسابعها قوله صلى الله عليه وسلم { ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة } وكتفضيل مكة على المدينة في مقابل مشهور مذهبنا فمن جهة المعلوم بوجوه

أحدها وجوب الحج والعمرة على الخلاف في وجوب العمرة ، والإتيان للمدينة لا يجب

وثانيها إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بها ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشرا

وثالثها ما من نبي إلا حجها آدم فمن سواه من الأنبياء والمرسلين ، وإنما كثرة الطارئين للمدينة من عباد الله الصالحين لا من الأنبياء .

ورابعها وجوب استقبالها

وخامسها تحريم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة

وسادسها تحريمها يوم خلق السموات والأرض ولم تحرم المدينة إلا في زمانه صلى الله عليه وسلم

وسابعها كونها مثوى إبراهيم ، وإسماعيل عليهما السلام .

وثامنها كونها مولد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم .

وتاسعها كونها لا تدخل إلا بإحرام وعاشرها الاغتسال لدخولها دون المدينة ومن جهة النصوص بوجوه .

أحدها قوله تعالى { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا }

وثانيها ثناء الله تعالى على البيت الحرام بقوله تعالى { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين }

وثالثها ما رواه ابن ماجه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل الحجر ، ثم وضع شفتيه عليه وبكى طويلا ، ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب يبكي فقال يا عمر ههنا تسكب العبرات } وروى البخاري في صحيحه { أن عمر بن الخطاب جاء إلى الحجر الأسود فقبله ، ثم قال إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك } وروي أن أبيا قال له إنه يضر وينفع فإنه يأتي يوم القيامة وله لسان ذلق يشهد لمن قبله واستلمه وهذه منفعة وقيل إن عليا قال لعمر رضي الله عنهما بل يضر وينفع قال له وكيف ذلك قال إن الله تعالى لما أخذ الميثاق على الذرية كتب كتابا وألقمه هذا الحجر فهو يشهد للمؤمنين بالوفاء وعلى الكافرين بالجحود قال الأمير في مناسكه ، وإنما طلب التكبير عنده إشارة إلى أن تقبيله إنما هو امتثالا لأمر الله تعالى وتعظيما لما أمر الله بتعظيمه واقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم لا كما يصنع المشركون بأصنامهم فإن الله تعالى أكبر من أن يشرك معه غيره وههنا لطيفة وهي أن هذا الحجر مسه فم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قبله وعلى التبرك بذلك تبذل النفوس وأيضا ورد أنه يمين الله في أرضه من اليمن وهو البركة والناس تتعبد بتقبيله كما تقبل أيدي الملوك ا هـ .

ورابعها ما جاء في الحديث { من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه } وهو يقتضي الذنوب كلها والتبعات لأنه يوم الولادة كان كذلك وقد ورد في بعض الأحاديث { أن الله تعالى تجاوز لهم عن الخطيئات وضمن عنهم التبعات } ولو كان لملك داران فأوجب على عباده أن يأتوا إحداهما ووعدهم على ذلك مغفرة سيئاتهم ورفع درجاتهم دون الأخرى لعلم أنها أفضل .

وخامسها قد مر عن الباجي أن حديث حسنات الحرم بمائة ألف إذا ثبت صريحا في أن نفس مكة أفضل من نفس المدينة ، وفي الرهوني عن سيدي أحمد بابا وقد كثر الاحتجاج في كل من الفريقين بما أكثره خصائص وهي إنما تدل على الفضيلة لا الأفضلية لأن [ ص: 229 ] المفضول قد يختص بشيء عن الفاضل ولا يلزم منه تفضيله به فالأذان يفر منه الشيطان دون الصلاة تأمل نعم حديث المدينة خير من مكة نص في تفضيلها إلا أنه ضعيف ا هـ بتصرف .

( المهم الثالث ) أن الأسباب الموجبة للتفضيل قد تتعارض فيكون الأفضل من حاز أكثرها وأفضلها والتفضيل إنما يقع بين المجموعات وقد يختص المفضول ببعض الصفات الفاضلة ولا يقدح ذلك في التفضيل عليه لقوله صلى الله عليه وسلم { أقضاكم علي وأفرضكم زيد وأقرؤكم أبي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل } رضي الله عنهم مع أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الجميع وقد تقدم ذلك وأن الشيطان يفر من الأذان والإقامة ولا يفر من الصلاة مع أنها أفضل منهما وكاختصاص سليمان عليه السلام بالملك العظيم ونوح عليه السلام بإنذار المئين من السنين وآدم صلى الله عليه وسلم بكونه أبا البشر مع تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على الجميع وكاختصاص الجهاد بثواب الشهادة مع أن الصلاة والحج أفضل منه وليس فيهما ذلك وكاختصاص الحج بتكفير الذنوب كبيرها وصغيرها بل والتبعات كما علمت مع أن الصلاة أفضل منه وليس فيها ذلك وكاختصاص مكة بأن العمل فيها أكثر من العمل في المدينة مع أن المدينة في مشهور مذهب مالك أفضل لما رواه أحمد وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في مسجدي } فيحمل الاستثناء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عنه عليه الصلاة والسلام { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام } على ظاهره للزيادة وأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل لأن حديث ابن الزبير منطوق وقع صريحا فلا يعارضه مفهوم حديث أبي هريرة .

وإن كان صحيحا بناء على أن معناه كما قال ابن نافع وأشهب في روايته عن مالك وجماعة من أصحابه إن الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون الألف أي بتسع مائة وعلى غيره بألف محتجين بما روي في مسند الحميدي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه على أنه لا يتم الاحتجاج به لأنه يدل على أن صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة في مسجد المدينة لأنه داخل فيما سواه من غير ذكر استثناء في مبناه وعليه جرى الأصل فيما مر عنه من أن الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم خير من ألف صلاة في غيره ، وفي المسجد الحرام بألف ومائة بل قد مر عن الرهوني عن سيدي أحمد بابا أن حديث { صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة } قال ابن عبد البر : حديث صحيح على شرط الشيخين وهو الحجة عند التنازع وهو صريح أي في : تفضيل مسجد مكة يدفع ما قيل في الحديث الصحيح إلا المسجد الحرام باحتمال أنه أفضل منه بدون ألف ، أو بتأولهما فلذا قال مالك إن أسباب التفضيل لا تنحصر في مزيد المضاعفة [ ص: 230 ]

فالصلوات الخمس بمنى عند التوجه لعرفة أفضل منها بمسجد مكة ، وإن انتفت عنها المضاعفة كما يؤخذ من حاشية شيخنا على توضيح المناسك على أن في حاشية الرهوني على عبق عن سيدي أحمد بابا أن هذا تضعيف نوع من العبادة ولا يلزم منه طرده في جميع أنواعها مع أنه معارض بما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم { اللهم اجعل بالمدينة ضعف ما بمكة من البركة } قال : وأما احتجاج أبي الوليد بن رشد بأن الله سبحانه جعل في مكة قبلة وكعبة الحج وبأنه صلى الله عليه وسلم جعل لها مزية بتحريم الله سبحانه إياها بقوله إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس ، وإنه قد أجمع أهل العلم على وجوب الجزاء على من صاد بحرمها ولم يجمعوا على وجوبه على من صاد بحرم المدينة وبأن جماعة رأوا أن تغلظ الحدود في حرم مكة لحرمته ولا تقام فيه لقوله تعالى { ومن دخله كان آمنا } ولم يقل أحد بذلك في حرم المدينة فجوابه أن المدينة موطن إقامته صلى الله عليه وسلم ومهاجره وموطن ومهاجر أصحابه المجمع على أنهم أفضل هذه الأمة ، ومدفن جسده الشريف بعد موته صلى الله عليه وسلم وهو أشرف من الكعبة ومن جميع المخلوقات .

وقد انعقد الإجماع على أن الروضة المشرفة أفضل بقاع الأرض والسماء فيكون ما قاربها وجاورها أفضل من غيره :

بجيرانها تغلو الديار وترخص

فتأمله بإنصاف ا هـ .

قلت : وفي الحطاب على المختصر عن الشيخ السمهودي في تاريخ المدينة نقل عياض وقبله أبو الوليد والباجي وغيرهما الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة على الكعبة بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أنها أفضل من العرش وصرح التاج الفاكهي بتفضيلها على السموات قال بل الظاهر المتعين جميع الأرض على السموات لحلوله صلى الله عليه وسلم بها وحكاه بعضهم عن الأكثر بخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها لكن قال النووي والجمهور على تفضيل السماء على الأرض أي ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة ا هـ .

فاندفع قول الأصل إن قوله صلى الله عليه وسلم { ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة } إنما يدل على فضل ذلك الموضع لا المدينة ا هـ على أن تحريم الله مكة والإجماع على وجوب جزاء صيدها ورؤية تغلظ الحدود في حرمها وأنها لا تقام فيه مزايا تقتضي الفضيلة لا الأفضلية ، .

وأما الاحتجاج بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشرا فجوابه كما قال الأصل أن تلك العشرة كان كماله صلى الله عليه وسلم وكمال الدين فيها أتم وأوفر فلعل ساعة بالمدينة كانت أفضل من سنة بمكة ، أو من جملة الإقامة بها قال الرهوني .

وأما الاحتجاج بحديث الترمذي وصححه عبد الله بن عدي مرفوعا { والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله } فجوابه كما قال ابن العربي أن معنى قوله لخير أرض الله إما إنه قاله قبل علمه بتفضيل المدينة ، أو خيرها ما عداها ا هـ .

قلت : على أنه قد مر في وجوه تفضيل المدينة قوله صلى الله عليه وسلم { اللهم إنهم أخرجوني من أحب البقاع إلي فأسكني أحب البقاع إليك } وقوله صلى الله عليه وسلم { المدينة خير من مكة } وهو نص في الباب ، وإن قال : الأصل إن الثاني مطلق في المتعلق فيحتمل أنها خير من جهة سعة الرزق والمتاجر وأن سياق الأول يقتضي عدم دخول مكة في المفضل عليه لإياسه صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت فيكون المعنى فأسكني أحب البقاع إليك مما عداها [ ص: 231 ] ويحتمل أن تكون أفضل من المدينة على أنه لم يصح من جهة الفعل ولو صح فهو من مجاز وصف المكان بصفة ما يقع فيه والمعنى فأسكني أحب البقاع إليك بما جعلته فيها مما يحبه الله تعالى ورسوله من إقامته صلى الله عليه وسلم بها ، وإرشاد الخلق إلى الحق كما يقال بلد طيب أي هواها والأرض المقدسة أي قدس من فيها ، أو من دخلها من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لأنهم مقدسون من الذنوب والخطايا والوادي المقدس أي قدس موسى عليه السلام فيه والملائكة الحالون فيه ا هـ .

إذ يكفي كونهما ظاهرين في المطلوب لأن الاحتجاج بمجموع أسباب التفضيل لا بهما فقط حتى يسقطا بمجرد الاحتمال فافهم ، وأما قول أبي الوليد بن رشد ولا حجة في الأحاديث المرغبة في سكنى المدينة على تفضيلها أما دعاؤه صلى الله عليه وسلم بمثل ما دعا به إبراهيم صلى الله عليه وسلم لمكة ومثله معه فلأنه مطلق في المدعو به فيحمل على ما خرج به في الحديث من الصاع والمد ولا يلزم من أن يبارك لهم في مدينتهم وصاعهم ومدهم أن تكون بذلك أفضل من مكة .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم { أمرت بقرية تأكل القرى } فلأنه إنما أخبر أنه أمر بالهجرة إلى قرية تفتح منها البلاد ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم { إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها } وقوله صلى الله عليه وسلم { إن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد } وقوله صلى الله عليه وسلم { لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة } فلحملها على زمانه صلى الله عليه وسلم والكون معه لنصرة الدين قال الأصل ويعضده خروج الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاته إلى الكوفة والبصرة والشام وغير ذلك من البلاد على أن قوله صلى الله عليه وسلم لا يصبر إلخ يدل على الفضل لا على الأفضلية ا هـ فلا يتم في جميعها كما .

قال الرهوني لأنه يقتضي أن الترغيب في سكنى المدينة خاص بحياته صلى الله عليه وسلم مع أن الأحاديث الدالة على أن سكناها خير من غيرها بعد موته صلى الله عليه وسلم ثابتة في البخاري وغيره قال وقوله إن معنى حديث { إن الإيمان ليأرز إلى المدينة } أن الناس ينتابون إليها في حياته صلى الله عليه وسلم للدخول في الإسلام ليس نصا في الحديث ولا ظاهرا منه وقد فهم غيره على خلاف ذلك قال عياض في المشارق قوله { إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها } كذا لأكثرهم بكسر الراء وكذا قيدناه من شيوخنا في هذه الكتب وغيرها وكذا قيده الأصيلي بخطه وزاد في ابن سراج يأرز بالضم وقيده بعضهم عن كتاب القابسي يأرز بالفتح وحكي عنه أنه هكذا سمعه من المروزي ومعناه ينضم ويجتمع وقيل يرجع كما جاء في الحديث الآخر { ليعودن كل إيمان إلى المدينة } ا هـ منها بلفظها ، وفي الصحاح ما نصه وأرز فلان يأرز أرزا وأروزا إذا تضام وتقبض من بخله فهو أروز .

ثم قال وفي الحديث { إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها } أي ينضم إليها فيجتمع بعضه إلى بعض فيها ا هـ منه بلفظه ا هـ .

قلت : وما ذكره الأصل من التعضيد مدفوع بما في الموطإ عن سفيان بن أبي زهير أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { يفتح اليمن فتأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ويفتح الشام إلخ ويفتح العراق إلخ } قال الباجي وقوله صلى الله عليه وسلم والمدينة خير إلخ لهم يريد والله أعلم أن ما يفوتهم من الأجر بالانتقال عنها أعظم وأفضل مما ينالونه من الخصب وسعة العيش حيث ينتقلون إليه من اليمن والشام والعراق ا هـ .

وما في الموطإ أيضا . [ ص: 232 ] وحدثني مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة التفت إليها فبكى ، ثم قال يا مزاحم نخشى أن نكون مما نفت المدينة قال الباجي يريد عمر بن عبد العزيز - والله أعلم - ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها تنفي خبثها فخاف أن يكون ممن نفته المدينة لكونه من الخبث لمخالفة سنة ، أو ضلال عن هدى ومثله من أهل الفضل والدين يخاف على نفسه ا هـ فافهم .

( المهم الرابع ) مسائل التفضيل بين الصحابة والأنبياء والملائكة ، وإن كانت كثيرة إلا أنها ترجع إلى التفضيل بالطاعات وكثرة المثوبات والأحوال السنيات وشرف الرسالات والدرجات العليات فمن كان فيها أتم فهو أفضل قال الشيخ عبد السلام على الجوهرة : وتلخيص ما أشار إليه الناظم أولا وآخرا أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل المخلوقات على العموم ويليه إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، ثم نوح ، ثم بقية الرسل ، ثم الأنبياء غير الرسل ، ثم هم فيما بينهم متفاضلون أيضا عند الله ، ثم أرأس رسل الملائكة ، ثم من يليه منهم ثم بقية رسلهم ، ثم بقيتهم غير الرسل ، ثم هم متفاضلون أيضا فيما بينهم ، ثم قال وقد علم من النظم أن التفضيل إما باعتبار أفراد الصحابة فأبو بكر هو الأفضل ، ثم عمر ثم عثمان ، ثم علي ، وإما باعتبار الأصناف فأفضلهم الخلفاء الأربعة ، ثم الستة الباقية من العشرة ، ثم بقية البدريين ، ثم بقية أصحاب أحد ، ثم بقية أهل بيعة الرضوان بالحديبية وهو في كلام الشمس البرماوي ا هـ وهذه المسائل ، وإن كانت أشبه بأصول الدين إلا أن لها تعلقا بالفقه بوجه ما ، سيما على قول من قال الحكم الشرعي ما أخذ من الكتاب ، أو السنة ، أو الإجماع ولا على طريق الاعتداد لا الاستقلال كأغلب مسائل التوحيد التي يستقل بها العقل وهذا الكتاب المقصود الاقتصار فيه على ما يتعلق بالقواعد الفقهية خاصة ولو بوجه ما والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .




الخدمات العلمية