الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فإن قيل . ما تقولون في من سد جوعة مسكين في عشرة أيام ؟ هل يساوي أجره أجر من سد جوعة عشرة مساكين ، مع أن الفرض سد عشر جوعات ، والكل عباد الله ، والفرض الإحسان إليهم ، فأي فرق بين تحصيل هذه المصالح في محل واحد أو في محال متعددة ؟ قلنا لا يستويان لأن الجماعة يمكن أن يكون فيهم ولي لله أو أولياء له فيكون إطعامهم أفضل من تكرير إطعام واحد .

وقد حث الرب سبحانه وتعالى على الإحسان إلى الصالحين بقوله : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } ، ومثل هذا لا يتحقق في واحد بعينه ، ولأنه يرجى من دعاء الجماعة ما لا يرجى من دعاء الواحد ، كما يرجى من دعاء المصلين على الميت إذا بلغوا أربعين ما لا يرجى من دعائهم إذا نقصوا عن ذلك ، كما جاء في الحديث ، ولمثل [ ص: 34 ] هذا أوجب الشافعي رضي الله عنه صرف الزكاة إلى الأصناف ، لما فيه من دفع أنواع من المفاسد وجلب أنواع من المصالح ، فإن دفع الفقر والمسكنة نوع مخالف لدفع الرق عن المكاتبين ، والغرم عن الغارمين ، والغربة والانقطاع عن أبناء السبيل ، وكذلك التأليف على الدين عند من يرى أن سهم المؤلفة باق ، وكذلك إعانة المجاهدين على الجهاد الذي هو تلو الإيمان برب العالمين .

فإن قيل : قد يترتب الشرع على الفعل اليسير مثل ما يترتب على الفعل الخطير ، كما رتب غفران الذنوب على الحج المبرور ، ورتب مثل ذلك على موافقة تأمين المصلي تأمين الملائكة ، ورتب غفران الذنوب على قيام ليلة القدر ، كما رتبه على قيام جميع رمضان ، فالجواب أن هذه الطاعات وإن تساوت في التكفير فلا تساوي بينها في الأجور ; فإن الله سبحانه وتعالى رتب على الحسنات رفع الدرجات وتكفير السيئات ، ولا يلزم من التساوي في تكفير السيئات التساوي في رفع الدرجات ، وكلامنا في جملة ما يترتب على الفعل من جلب المصالح ودرء المفاسد ، وذلك مختلف فيه باختلاف الأعمال . فمن الأعمال ما يكون شريفا بنفسه وفيما رتب عليه من جلب المصالح ودرء المفاسد ، فيكون القليل منه أفضل من الكثير من غيره ، والخفيف منه أفضل من الشاق من غيره ، ولا يكون الثواب على قدر النصب في مثل هذا الباب كما ظن بعض الجهلة ، بل ثوابه على قدر خطره في نفسه ، كالمعارف العلية والأحوال السنية والكلمات المرضية . فرب عبادة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان وعبادة ثقيلة على الإنسان خفيفة في الميزان بدليل أن التوحيد خفيف على الجنان واللسان وهو أفضل ما أعطيه الإنسان ومن به الرحمن ، والتفوه به أفضل كل كلام ، بدليل أنه يوجب الجنان ويدرأ غضب الديان ، وقد صرح عليه السلام [ ص: 35 ] بأنه أفضل الأعمال ، لما { قيل له أي الأعمال أفضل ؟ فقال : إيمان بالله } ، وجعل الجهاد دونه مع أنه أشق منه ، وكذلك معرفة التوحيد أفضل المعارف ، واعتقاده أفضل الاعتقادات ، مع سهولة ذلك وخفته مع تحققه ، وقد كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، وكانت شاقة على غيره ، وليست صلاة غيره مع مشقتها مساوية لصلاته مع خفتها وقرتها ، وكذلك إعطاء الزكاة عن طيب نفس أفضل من إعطائها مع البخل ، ومجاهدة النفس .

وكذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة .

وجعل للذي يقرؤه يتعتع فيه وهو عليه شاق أجرين ، ومما يدل على أن الثواب لا يترتب على قدر النصب في جميع العبادات ما روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا بلى قال : ذكر الله ، قال معاذ بن جبل : ما شيء أنجا من عذاب الله من ذكر الله } ، رواه الترمذي .

ومما يدل على ذلك أيضا ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من قال حين يصبح وحين يمسي : سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه } ، أخرجه مسلم في صحيحه .

وكذلك قوله عليه السلام فيما رواه أبو هريرة أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن ، سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم } ، أخرجاه في الصحيحين . [ ص: 36 ] والحاصل بأن الثواب يترتب على تفاوت الرتب في الشرف ، فإن تساوى العملان من كل وجه كان أكثر الثواب على أكثرهما لقوله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } .

التالي السابق


الخدمات العلمية