الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فائدة في اختلاف مصالح الأركان والشرائط

كل تصرف جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة فقد شرع الله من الأركان والشرائط ما يحصل تلك المصالح المقصودة الجلب بشرعه ، أو يدرئ المفاسد المقصودة الدرء بوضعه ، فإن اشتركت للتصرفات في مصالح الشرائط والأركان كانت تلك الشرائط والأركان مشروعة في جميعها ، وإن اختص [ ص: 152 ] بعض التصرفات بشيء من الشروط أو الأركان اختص ذلك التصرف بهما .

وقد يشترط في أحد التصرفين ما يكون مفسدا في التصرف الآخر لتقاربهما في جلب مصالحهما ودرء مفاسدهما : فالإيمان شرط في كل عبادة ، والطهارة شرط في كل صلاة وطواف ، وكذلك السترة واستقبال القبلة ، ولا يشترط ذلك في حج ولا صوم ولا زكاة ولا قراءة ولا ذكر الله ولا تعريف ولا سعي ولا اعتكاف ولا رمي ، وكذلك يشترط في بعض التصرفات : كالبيع والإجارة الوجود والقدرة على التسليم وانتفاء الأغرار السهلة الاجتناب ، ولا يشترط ذلك في قراض ولا بيع ولا مساقاة ولا مزارعة ولا جعالة ولا إجارة ولا إرضاع ولا في مياه العيون والآبار والجداول والأنهار التابعة للإجارة على المزارعة وغرس الأشجار ، فإن ذلك لو شرط لفاتت مصالح هذه التصرفات ومقاصدها ولا يخشى ما في فوات هذه المصالح من المفسدة والإضرار ، ولا سيما فيما يتعلق بالرضاع ومياه الآبار والأنهار .

ويشترط في الوكالة أن يكون الموكل مالكا للتصرف الذي يوكل فيه إذ لا يملك الفرع ما لم يملكه الأصل ويستثنى من ذلك إذن المرأة في النكاح وإذن الأعمى في البيع والشراء وإذن المضارب للعامل في التصرف في عروض التجارة التي لا يملكها المالك ولا العامل لمسيس الحاجة إلى ذلك ، فإن ذلك لو منع لفاتت مصالح التزويج والبيع والشراء في حق العميان ، وكذلك أرباح القراض .

ولا شك أن المصالح التي خولفت القواعد لأجلها : منها ما هو ضروري لا بد منه ، ومنها ما تمس إليه الحاجة المتأكدة . [ ص: 153 ] ولو شهد الوصي ليتيم بحق يتصرف فيه الوصي لم تقبل شهادته لجرها إليه جواز التصرف فيما شهد به ، وكذلك لو حكم الحاكم لموكله أو لولده الطفل لم ينفذ حكمه ، ولو حكم للأيتام بحق لنفذ حكمه في محل تصرفه على الأصح لعموم الحاجة إليه ، وكذلك يشترط في الحكم للغائب وعلى الغائب المبالغة في وصفه بحيث يعز وجود مثله ونظيره دفعا للإبهام عن الأحكام ، فإن الإبهام في المحكوم به والمحكوم له والمحكوم عليه مبطل للدعاوى والشهادات والأحكام ، ولو وصف المسلم فيه بما يعز وجوده لبطل السلم لمنافاة عزة الوجود للمقصود من السلم .

وكذلك يشترط الإطلاق في المضاربة لمنافاة التأجيل لمقصودها ، ولا يشترط في النكاح لمنافاته لمقصوده ، ولا يشترط التأقيت في المضاربة ، ويشترط في الإجارة والمساقاة والمزارعة ، ولو شرط في النكاح لأبطله لمنافاته لمقاصد النكاح .

فأحكام الإله كلها مضبوطة بالحكم محالة على الأسباب والشرائط التي شرعها ، كما أن تدبيره وتصرفه في خلقه مشروط بالحكم المبينة المخلوقة مع كونه الفاعل للأسباب على الأسباب والمسببات ، ولو شاء لاقتطع الأسباب عن المسببات ودل بينهما من التلازم ، فكما شرع للتحريم والتحليل والكراهة والندب للإيجاب أسبابا وشروطا ، وكذلك وضع لتدبيره وتصرفه في خلقه أسبابا ، وشروطا فجعل للجوع أسبابا ، وللشبع أسبابا ، وللسقم أسبابا وللموت أسبابا ، والحياة أسبابا ، وللغنى أسبابا ، وللقرب أسبابا ، وللبعد أسبابا ، وللعز أسبابا ، وللذل أسبابا ، وللضحك أسبابا ، وللبكاء أسبابا ، وللنشاط أسبابا ، وللكسل أسبابا ، وللحركات أسبابا ، وللنصح أسبابا ، وللغش أسبابا ، وللصدق أسبابا ، وللسعادة أسبابا ، وللشقاوة أسبابا وللغموم أسبابا ، وللذات أسبابا ، وللآلام أسبابا ، وللصحة أسبابا ، وللخوف أسبابا ، وللغضب أسبابا ، وللأمن أسبابا ، وللراحات أسبابا ، وللنصب [ ص: 154 ] أسبابا ، وللعرفان أسبابا ، وللاعتقادات الصحيحة أسبابا ، وللفاسدة أسبابا ، وللشك أسبابا ، ولليقين أسبابا ، وللظنون أسبابا ، وللأوهام أسبابا .

كل ذلك قد نصبه الإله مع الاستغناء عنه وهو المنفرد بخلق الأسباب ومسبباتها ، فلا يوجد سبب مسببا إذ لا موجود غيره ، ولا مدبر إلا هو ، يحكم بما يشاء ويفعل ما يريد من غير فائدة تعود إليه ، ولا نفع يحصل له ، وهو بعد خلق المخلوقات كما كان قبل أن يخلقها لا يفيده شيء غنى ولا عزا ولا شرفا ، بل هو الآن على ما عليه كان من أوصاف الجلال ، ونعوت الكمال ، والاستغناء عن الأكوان .

التالي السابق


الخدمات العلمية