الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              4212 2- باب ما جاء في خضاب السواد

                                                              517 \ 4048 - عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يكون [ ص: 72 ] قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة .

                                                              وأخرجه النسائي .

                                                              في إسناده "عبد الكريم " ولم ينسبه أبو داود ولا النسائي، فذكر بعضهم ، أنه عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية، وهو لا يحتج بحديثه.

                                                              وذكر بعضهم أنه عبد الكريم بن مالك الجزري أبو سعيد، وهو من الثقات، اتفقا على الاحتجاج به. وهذا هو الصواب، فإنه قد نسبه بعض الرواة في هذا الحديث وقال: "عن عبد الكريم الجزري". وابن أبي المخارق من أهل البصرة نزل مكة، وأيضا فإن الذي روى عن عبد الكريم هذا الحديث هو عبيد الله بن عمرو الرقي، وهو مشهور بالرواية عن عبد الكريم الجزري، وهو أيضا من أهل الجزيرة.

                                                              وقد تقدم حديث جابر في "صحيح مسلم" وقوله: "واجتنبوا السواد".

                                                              وقد اختلف السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم في الخضاب، فرأى بعضهم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، بصبغ الشعر ندب، وأن تغييره أولى من تركه، وممن كان يخضب: أبو بكر وعمر والحسن والحسين وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم، يخضبون بالحناء والكتم.

                                                              [ ص: 73 ] [وروي] عن عمر رضي الله عنه أنه كان يخضب بالحناء بحتا. وكان ابن عمر وابن عباس، وعبد الله بن بسر، والمغيرة بن شعبة، رضي الله عنهم يصفرون لحاهم .

                                                              وقال الإمام أحمد: إني لأرى الشيخ مخضوبا فأفرح به. وذكر رجلا لم يخضب وأنه يستحيي فقال: سبحان الله سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم!

                                                              قال المروذي: قلت يحكى عن بشر بن الحارث أنه قال: قال لي ابن داود: خضبت؟ قلت: أنا لا أفرغ لغسلها فكيف أتفرغ لخضابها؟ فقال أحمد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: غيروا الشيب، وأبو بكر وعمر خضبا والمهاجرون; هؤلاء لم يتفرغوا لغسلها والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالخضاب؟! فمن لم يكن على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم فليس من الدين في شيء; وحديث أبي ذر، وحديث أبي هريرة، وحديث أبي رمثة، وحديث أم سلمة.

                                                              وذهب آخرون إلى أن ترك الشعر أبيض أفضل، وقالوا: توفي النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنفقته ورأسه الشيب ولم يغيره بشيء، ولو كان تغييره أفضل لكان قد آثر الأفضل.

                                                              قال ابن جرير : وممن كان لا يخضب علي وأبي بن كعب وجماعة من الصحابة والتابعين.

                                                              قال: والصواب عندنا أن الآثار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير الشيب [ ص: 74 ] وبالنهي عن تغييره، كلها صحاح، وليس فيها شيء يبطل ما خالفه، لكن بعضها عام وبعضها خاص; فالمراد بأحاديث التغيير الخصوص، مثل ما كان شيب أبي قحافة، فأما الشمط ففيه النهي عن التغيير.

                                                              واختلاف السلف بحسب اختلاف أحوالهم، ولا يصح أن يقال: إن أحدها ناسخ للآخر لعدم دليل النسخ. هذا كلامه.

                                                              وقال آخرون: ذلك دليل على اختلاف حالين، أحدهما: عادة البلد، والثاني: اختلاف الناس، فرب شيبة هي أجمل منها مصبوغة، ومنه ما يستشنع، فالصبغ فيه أولى.

                                                              وفي الخضاب فائدتان، أحدهما: تنظيف الشعر مما تعلق به من الغبار ونحوه، والثاني: مخالفة أهل الكتاب .

                                                              التالي السابق




                                                              قال ابن القيم رحمه الله: والصواب أن الأحاديث في هذا الباب لا اختلاف بينها بوجه، فإن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من تغيير الشيب أمران: أحدهما: نتفه،والثاني: خضابه بالسواد، كما تقدم والذي أذن فيه صبغه وتغييره بغير السواد، كالحناء والصفرة، وهو الذي عمله الصحابة رضي الله عنهم.

                                                              قال الحكم بن عمرو الغفاري : دخلت أنا وأخي رافع على عمر بن [ ص: 75 ] الخطاب، وأنا مخضوب بالحناء، وأخي مخضوب بالصفرة، فقال عمر: هذا خضاب الإسلام، وقال لأخي: هذا خضاب الإيمان .

                                                              وأما الخضاب بالسواد: فكرهه جماعة من أهل العلم، وهو الصواب بلا ريب لما تقدم- وقيل للإمام أحمد: تكره الخضاب بالسواد ؟ قال: أي والله! وهذه المسألة من المسائل التي حلف عليها، وقد جمعها أبو الحسن-، ولأنه يتضمن التلبيس، بخلاف الصفرة.

                                                              ورخص فيه آخرون، منهم أصحاب أبي حنيفة، وروي ذلك، عن الحسن والحسين وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن جعفر وعقبة بن عامر، [ ص: 76 ] وفي ثبوته عنهم نظر، ولو ثبت فلا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنته أحق بالاتباع، ولو خالفها من خالفها.

                                                              ورخص فيه آخرون للمرأة تتزين به لبعلها، دون الرجل. وهذا قول إسحاق بن راهويه، وكأنه رأى أن النهي إنما في حق الرجال، وقد جوز للمرأة من خضاب اليدين والرجلين ما لم يجوز للرجل، والله أعلم.




                                                              الخدمات العلمية