الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثانية: فسخ الموصى إليه الوصية حال موت الموصي:

        صورة ذلك: أن يوصي شخص لآخر بالقيام على أموال أولاده، أو على [ ص: 69 ] تربيتهم بعد وفاته، فإذا مات الموصي فهل يحق للموصى إليه أن يفسخ تلك الوصية؟وفيها أمران:

        الأمر الأول: أن يكون الموصى إليه قبل الوصية بعد موت الموصي.

        إذا مات الموصي، والموصى إليه قبل الوصية بعد ممات الموصي، فاختلف العلماء في فسخ الوصية على قولين:

        القول الأول: أن له فسخ الوصية.

        وبه قال الحنفية، وبعض المالكية، والشافعية، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

        وحجته: ما يأتي في الأمر الثاني من جواز الفسخ.

        القول الثاني: أنه ليس له فسخ الوصية.

        وبه قال المالكية، والحنابلة، في أحد القولين بناء على أن الوصية عندهم تلزم في حق الموصى إليه بالقبول.

        وحجته: ما سيأتي في الأمر الثاني من عدم جواز الفسخ.

        الأمر الثاني: أن يكون الموصى إليه قبل الوصية حال حياة الموصي.

        إذا كان الموصى إليه قبل الوصية في حياة الموصي، فقد اختلف العلماء في هذه الحالة هل له فسخ عقد الوصية بعد موت الموصي أم لا؟ [ ص: 70 ] القول الأول: ليس له الفسخ.

        وهو قول الحنفية، والمالكية، وبه قال أحمد في رواية.

        إلا أن الحنفية قيدوا ذلك بما إذا لم يكن شرط له الموصي حق الفسخ عند عقد الوصية، فإن كان قد شرط له ذلك جاز له أن يرجع عن الوصية.

        وقيده المالكية: بعدم العذر الطارئ، فإن وجد عذر طارئ بعد العقد يمنعه من الاستمرار في أداء مهمته على أكمل وجه كالسفر البعيد، ونحو ذلك، فإن له أن يفسخ عقد الوصية.

        القول الثاني: أن الموصى إليه له فسخ الوصية، لكن إذا ترتب على الفسخ ضرر على الموصى به فليس له الفسخ.

        وهو مذهب الشافعية، والحنابلة.

        القول الثالث: أنه ليس له الفسخ مطلقا.

        وبه قال بعض المالكية، ورواية عن الإمام أحمد.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        1- عموم أدلة الوفاء بالعقد والشرط، كقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [ ص: 71 ]

        2- أن الموصي قد اعتمد على الموصى إليه، فلو صح فسخ الموصى إليه لعقد الوصية لكان في ذلك تغرير بالموصي من جهة الموصى إليه، والتغرير إضرار، والإضرار لا يجوز، فلا يصح الفسخ.

        ونوقش من وجهين:

        الأول: أن هذا يجب أن يقيد بما إذا لم يترتب على الفسخ ضرر بالموصى إليه; لأن الضرر لا يدفع بالضرر، بل يدفع عن كل واحد منهما قدر الإمكان.

        الثاني: أن الموصي لا يقع عليه ضرر قطعا; لأنه قد مات، وإنما يقع الضرر إن وجد على الموصى به؛ فلذلك يجب أن يراعى ضرره لا ضرر الموصي المزعوم.

        ويمكن أن يعلل لما ذهب إليه الحنفية من تقييد مذهبهم بعدم اشتراط الفسخ عند العقد: أن الشرط ينفي الغرر الذي كان مانعا من الفسخ، وإذا انتفى ما بني عليه فلا يفوت الفسخ.

        ويمكن أن يعلل لما ذهب إليه المالكية من تقييد مذهبهم بعدم العذر الطارئ: بأن الهدف من الوصية تحقيق المصالح، فإذا حصلت للموصى إليه أعذار لم تكن حاصلة عند العقد تمنعه من أداء المهمة الموكلة إليه على الوجه المطلوب، فإن الفسخ حينئذ يحق له; لأن بقاء مسؤولية الموصى إليه عن الموصى به لا يكون محققا للمصلحة التي من أجلها شرعت الوصية، بل قد يكون فيه إفساد وإضرار بالموصى به، وقد يكون فيه إضرار بالموصى إليه نفسه ودفع الضرر واجب؛ ولذلك يحق للموصى إليه أن يفسخ الوصية إذا كان يترتب على بقائها ضرر عليه أو على الموصى به.

        [ ص: 72 ] ولعلهم إنما قيدوا الأعذار بالأعذار الطارئة; لأن الأعذار التي كانت موجودة وقت العقد قد اتفق الطرفان ضمنيا على أنها لا تؤثر على أداء الوصي للوصية، فلا تكون مخرجا معتبرا من الوصية; لأن كل واحد من الطرفين قد رضي بما يترتب عليها من ضرر.

        دليل القول الثاني:

        أما كون مجرد موت الموصي لا يفيت الفسخ على الموصى إليه، فلأن الموصى إليه متصرف بالإذن، فكان له عزل نفسه كالوكيل.

        وأما كون الفسخ إذا ترتب عليه حصول ضرر للموصى به لا يمنع الفسخ; لأن الضرر في الشريعة مرفوع.

        قالوا: ويتصور حصول الضرر بالفسخ في حالة ما إذا كان الحاكم جائرا، وكان يغلب على الظن أن الموصي إذا ترك الوصية سيوليها الحاكم لغير عدل، فإن على الموصى إليه أن يصبر ويحتسب، ولا يحق له أن يفسخ الوصية; دفعا للضرر عن المولى عليهم، ويفهم منه أنه إذا زال الضرر كأن يصير الحاكم عادلا، أو يتولى حاكم عادل، فإن الموصى إليه يحق له أن يترك الوصية; لعدم ترتب مفسدة على تركها.

        دليل القول الثالث:

        1- أن قبول الموصى إليه الوصية كهبته لبعض منافعه، وهبته لبعض منافعه لا يصح له الرجوع فيها، فكذلك ها هنا.

        [ ص: 73 ] ونوقش: بأن هذا وعد بالهبة -إن قلنا: هو هبة- ليس هبة فعلية، والوعد غير ملزم.

        2- أن هذه قربة وفعل خير ألزمه نفسه، فلم يكن له الخروج منه بغير عذر كالحج.

        الترجيح:

        يترجح -والله أعلم- أن الأمر معلق بوجود الضرر، فإن كان هناك ضرر على الموصى به فقط بألا يوجد من يقوم بالوصية ونحو ذلك، فلا يجوز الفسخ حينئذ; دفعا للضرر عن المولى عليهم حتى يزول الضرر.

        وإن كان الضرر على الموصى إليه فقط، كأن يعيقه عن طلب المعاش فله الفسخ; دفعا للضرر عنه، ولأن الموصى به لا ضرر عليه.

        وإن كان هناك ضرر على الموصى إليه والموصى به فلعل الأقرب عدم الفسخ; إذ جانب الموصى به أضعف، ويمكن أن يعوض الموصى إليه من مال الموصى به.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية