الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الرابع

        كيفية المحاسبة، والجهات المسؤولة عنه

        وفيه مسألتان:

        المسألة الأولى: أقوال الفقهاء في كيفية محاسبة ناظر الوقف:

        باتفاق الفقهاء في الجملة مشروعية محاسبة ناظر الوقف، لكن اختلفت وجهات نظر الفقهاء في كيفية المحاسبة، ولذلك اختلفت نصوصهم في ذلك :

        قال الحصكفي: "لا تلزم المحاسبة في كل عام، ويكتفي القاضي منه بالإجمال لو معروفا بالأمانة، ولو متهما يجبره على التعيين شيئا فشيئا، ولا يحبسه بل يهدده ولو اتهمه يحلفه .

        قلت : وقدمنا في الشركة أن الشريك والمضارب والوصي والمتولى لا يلزم بالتفصيل، وأن غرض قضاتنا ليس إلا الوصول لسحت المحصول" .

        أما قبول قوله فيما قدمه وفصله، فقالوا: يقبل قوله بلا بينة، أما توجه اليمين عليه، فإن كان أمينا قبل قوله بلا يمين إن وافق الظاهر، وإلا لم يقبل إلا باليمين، ورأى كثير منهم تحليفه. [ ص: 408 ]

        قال ابن عابدين: "لو اتهمه يحلفه - أي : وإن كان أمينا - كالمودع يدعي هلاك الوديعة أو ردها، قيل: إنما يستحلف إذا ادعى عليه شيئا معلوما ، وقيل : يحلف على كل حال".

        ثم إن قبول قول الناظر محمول عند كثير من الحنفية على دعواه الصرف على غير أرباب الوظائف المشروط لهم العمل; إذ هي كالأجرة.

        وأما المالكية:

        قال الصاوي: "إذا ادعى الناظر أنه صرف الغلة صدق إن كان أمينا، ما لم يكن عليه شهود في أصل الوقف فلا يصرف إلا باطلاعهم، ولا يقبل بدونهم، وإذا ادعى أنه صرف على الوقف مالا من عنده صدق من غير يمين إن لم يكن متهما، وإلا فيحلف".

        وأشار بعضهم إلى أن قبول قول الناظر إنما يكون إذا كان الظاهر يوافق قوله، فإن خالفه لم يقبل قوله.

        وأما الشافعية : مطالبة الناظر بالحساب فإن كان الموقوف عليهم معينين ثبتت لهم المطالبة بالحساب، وإن كانوا غير معينين ففي مطالبته بالحساب خلاف عندهم على قولين، أوجههما أنه يطالب بالحساب .

        قال المناوي: "يصدق الناظر بيمينه في إنفاق محتمل فيما يرجع للعمارة وأجرة الصناع ونحوهما، وفي الصرف لجهة عامة كالفقراء بلا يمين فإن اتهمه [ ص: 409 ] القاضي حلفه" إلى أن قال: "وهل للإمام محاسبته إذا كان لجهة عامة وجهان"، قال الأذرعي : "أقربهما نعم، وعليه عمل الحكام، ويحتمل تقييده بظهور ريبة أو تهمة".

        وأما الحنابلة:

        قال الحجاوي: "ولا اعتراض لأهل الوقف على من ولاه الواقف أمر الوقف إذا كان أمينا، ولهم مساءلته عما يحتاجون إلى علمه من أمور وقفهم حتى يستوي علمهم فيه وعلمه ، ولهم مطالبته بانتساخ كتاب الوقف; لتكون نسخة في أيديهم وثيقة".

        فإن ادعى عليه ودفع صرف ريع الوقف في جهات معينة، فقد اختلف أهل العلم هل تلزمه بينة أو لا؟ على أقوال :

        القول الأول : أن الأمين يقبل قوله بيمينه، وغير الأمين لا يقبل قوله إلا ببينة.

        وهو قول الحنفية .

        القول الثاني: أن الوقف إذا كان على معينين فلا يقبل إلا ببينة، وإذا كان على جهة عامة فيصدق بيمينه .

        وهو قول الشافعية.

        القول الثالث: أنه إذا اشترط عليه الإشهاد فلا يقبل قوله إلا ببينة، وإن لم يشترط عليه الإشهاد عند الصرف فيقبل قوله بيمينه . [ ص: 410 ]

        وهو قول المالكية.

        القول الرابع : أن الناظر المتبرع يقبل قوله بيمينه، وغير المتبرع لا يقبل قوله إلا ببينة .

        وهو قول الحنابلة.

        ولذا أفتى بعض المتأخرين بعدم قبول قول الناظر إذا كان مستندا لدفاتره فقط ما لم يكن له بينة عليه، قال في كشاف القناع: "لا يعمل بالدفتر الممضى منه المعروف في زمننا بالمحاسبات في منع مستحق ونحوه إذا كان بمجرد إملاء الناظر والكاتب على ما اعتبر في هذه الأزمنة، وقد أفتى به غير واحد في عصرنا ".

        ولذا فإن الناظر لا يقبل قوله في الصرف على شؤون الوقف، أو المستحقين إلا ببينة أو سند إلا اليسير الذي تجري العادة بالمسامحة فيه ، أو ما يصعب أخذ السند فيه.

        والله تعالى أمر بالإشهاد عند دفع المال للأيتام فقال : فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ، فمن ترك الإشهاد فقد فرط، ولا شك أن المفرط يلزمه الضمان، وهذا في الولي والناظر أولى.

        والخلاصة : أن الناظر أمين - كما سيأتي - يقبل قوله فيما يتعلق بالوقف، إلا مع التهمة أو خالف الظاهر، - والله أعلم - . [ ص: 411 ]

        فرع:

        كيفية إجراء المحاسبة في حاشية الرهوني: "بأن يجلس الناظر والقابض والشهود وتنسخ الحوالة كلها من أول رجوع الناظر إلى آخر المحاسبة، وتقابل وتحقق، ويرفع كل مشاهرة، أو مسانهة أو كراء أو صيف أو خريف، وجميع مستفادات الحبس حتى يصير ذلك كله نقطة واحدة، ثم يقسم على المواضع لكل حقه، ويعتبر كل المرتبات وما قبض ومن تخلص ومن لا، وينظر في المصير، ولا يقبل في ذلك إلا جميع شهود الأحباس، وكذلك جميع الإجارات، ويطلب كل واحد بخطته".

        وقد سلك متأخرو الحنابلة في محاسبة الناظر مسلكا جيدا ودقيقا، حيث أعطوا ولي الأمر الحق في إنشاء ديوان خاص لمحاسبة نظار الأوقاف، يقدم النظار إليه بيانا تفصيليا لواردات الأوقاف وطريقة تصرفهم في تلك الواردات، ووجوه الإنفاق التي سلكوها، ومدى التزامهم بتنفيذ شروط الواقفين.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية