الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثانية: شروط صحة الصيغة القولية:

        يشترط لصحة الصيغة القولية للهبة شروط:

        الشرط الأول: تقدم الإيجاب على القبول.

        فإن تقدم القبول على الإيجاب، فاختلف العلماء رحمهم الله في حكم الهبة على قولين:

        القول الأول: صحة تقدم القبول على الإيجاب.

        وهذا مذهب المالكية. وبه قال شيخ الإسلام إذا دل لذلك العرف.

        القول الثاني: عدم صحة تقدم القبول على الإيجاب. وهو المذهب عند الحنابلة.

        [ ص: 84 ] القول الثالث: صحة تقدم القبول على الإيجاب إن كان القبول بلفظ أمر أو ماض مجرد عن الاستفهام.

        وهو مذهب الشافعية، وهو رواية عند الحنابلة.

        الأدلة:

        دليل القول الأول:

        (33 ) 1 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه، وفيه: فقال رجل: زوجنيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "زوجتكها بما معك من القرآن".

        وجه الاستدلال: أن القبول تقدم على الإيجاب، ولم ينقل أن الرجل قال بعد ذلك قبلت، قال ابن حجر رحمه الله: "واستدل به على أن من قال: زوجني فلانة، فقال: زوجتكها بكذا، كفى ذلك، ولا يحتاج إلى قول الزوج قبلت" وكذا الهبة.

        (34 ) 2 - ما رواه أبو داود في المراسيل: حدثنا عبد الله بن الجراح، حدثنا جرير، عن الشيباني، عن الحكم بن عتيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم، أرسل بلالا إلى بيت من الأنصار يخطب إليهم، فقالوا: عبد حبشي !! فقال بلال: لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني أن آتيكم ما أتيتكم، فقالوا: النبي صلى الله عليه وسلم أمرك؟ قال: نعم، قالوا: قد ملكت، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قطعة [ ص: 85 ] من ذهب، فأعطاه إياها فقال: "سق هذا إلى امرأتك"، وقال لأصحابه: "اجمعوا لأخيكم في وليمته" (مرسل ) .

        ولم ينقل أن بلالا رضي الله عنه قال بعد ذلك: قبلت نكاحها، ولو فعل لنقل، فدل ذلك على صحة تقدم القبول على الإيجاب في عقد النكاح، وإذا صح التقدم في عقد النكاح صح فيما سواه من العقود; لعدم الفرق المؤثر بينهما في هذه المسألة.

        3 - أن القبول إذا تقدم أو تأخر حصل به المقصود، وهو الدلالة على الرضا، وحينئذ فلا فرق في الحكم بين تقدمه وتأخره.

        4 - قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وذلك أن الله ذكر البيع والإجارة، والعطية مطلقة في كتابه ليس لها حد في اللغة، ولا الشرع، فيرجع فيها إلى العرف، والمقصود بالخطاب إفهام المعاني، فأي لفظ انعقد به مقصود العقد انعقد به، وعلى هذا قاعدة الناس إذا اشترى أحد لابنه أمة، وقال: خذها لك استمتع بها ونحو ذلك كان هذا تملكا عندهم".

        أدلة القول الثاني: (عدم الصحة ) :

        استدل القائلون بعدم صحة تقدم القبول على الإيجاب بما يلي:

        1 - قياس عقد الهبة على عقد النكاح، فكما لا يصح تقدم القبول على الإيجاب في عقد النكاح، فكذلك لا يصح تقدمه في الهبة.

        ونوقش: بأن جعل النكاح أصلا يقاس عليه لا يصح; لوجود الخلاف في [ ص: 86 ] حكم تقدم القبول على الإيجاب في عقد النكاح، والراجح عند الأصوليين: أن الاتفاق على حكم الأصل المقيس عليه شرط لصحة القياس.

        2 - أن رتبة القبول التأخر فلا يصح تقدمه.

        ونوقش: بأنه دعوى تحتاج إلى دليل; إذ لا يلزم من كون الشيء متأخر الرتبة عدم جواز تقدمه.

        3 - أن القبول جعل يكون للإيجاب، فمتى وجد قبله لم يكن قبولا لعدم معناه، فلم يصح.

        ونوقش: بأن معنى القبول ودلالته على الرضا تحصل سواء تقدم القبول أم تأخر.

        4 - أن القبول لو تأخر عن الإيجاب بلفظ الطلب لم يصح، فإذا تقدم كان أولى كصيغة الاستفهام.

        5 - أن الزوج لو أتى بالصيغة المشروعة متقدمة، فقال: قبلت هذا النكاح، فقال الولي: زوجتك ابنتي لم يصح، فلأن لا يصح إذا أتى بغيرها من الصيغ كصيغة الهبة، أولى.

        ونوقش: بعدم التسليم من وجهين:

        الوجه الأول: أن الدليل دل على صحة تقدم القبول على الإيجاب في النكاح كما سبق.

        الوجه الثاني: بالفرق بين العقود المالية وعقد النكاح، فالعقود المالية [ ص: 87 ] لا يشترط فيها لفظ الإيجاب والقبول، بل تصح بالمعاطاة، ولا يتعين فيها لفظ معين، بل تصح بأي لفظ كان مما يؤدي المعنى بخلاف عقد النكاح.

        دليل القول الثالث: (صحة تقدم القبول على الإيجاب إذا كان بلفظ أمر أو ماض مجرد عن استفهام ) :

        1 - حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وفيه: فقال رجل: زوجنيها، قال صلى الله عليه وسلم: "زوجتكها بما معك من القرآن".

        فالعقد صح بلفظ الطلب.

        2 - أن لفظ الإيجاب وجد من المتعاقدين على وجه تتحصل منه الدلالة على تراضيهما به، فصح كما لو تقدم الإيجاب.

        سبب الخلاف في المسألة:

        ذكر السيوطي رحمه الله أن سبب الخلاف في المسألة يرجع إلى خلاف في مسألة أخرى، وهي: هل الإيجاب والقبول أصلان في العقد، أو الأصل الإيجاب، والقبول فرع؟ إن قلنا بالأول: فيصح تقدم القبول على الإيجاب، وإن قلنا بالثاني: فلا يصح التقدم; لأن الفرع لا يتقدم على أصله.

        الترجيح:

        يترجح - والله أعلم - القول الأول، وأن المرجع في ذلك إلى العرف، والألفاظ لا تعدو أن تكون وسيلة للتعبير عما في النفس، والعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني.

        [ ص: 88 ] قال شيخ الإسلام: "فما عده الناس بيعا، أو هبة، أو إجارة فهو كذلك" .

        وبناء على هذا الترجيح، فلا يكون من شروط صحة الصيغة تقدم الإيجاب على القبول.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية