الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة السادسة: الشرط السادس: أن تكون الهبة عينا

        (هبة الدين)

        هبة الأعيان جائزة بالاتفاق.

        وأما هبة الديون: فللعلماء تفصيل في ذلك يتعلق في حكم هبة الدين المستقر وغير المستقر لمن هو عليه، ولغير من هو عليه، وفيها أمور: الأمر الأول: تقسيم الدين باعتبار الاستقرار وعدمه:

        ينقسم الدين باعتبار الاستقرار وعدمه إلى قسمين:

        الأول: الدين المستقر: وهو "الدين الذي استقر ملك الدائن له"، "وهو الذي لا يتطرق إليه انفساخ بتلف مقابله، أو فواته بأي سبب كان".

        وعبر بعضهم عنه بأنه "دين مستقر لا يخاف انتقاصه".

        مثاله: قيم المتلفات، وبدل القرض، وعوض الخلع، وثمن المبيع بعد قبض المبيع، وقيمة المغصوب، والأجرة بعد انقضاء المدة، والمهر بعد الدخول، وأروش الجنايات.

        الثاني: الدين غير المستقر: وهو بخلاف الدين المستقر، مثاله: دين الأجرة قبل استيفاء المنفعة، والصداق قبل الدخول، ودين السلم.

        [ ص: 289 ] واعتبر بعض الشافعية أن معنى استقرار ملك الدين: "جواز الحوالة به وعليه، والاستبدال" إلا أنه يرد عليه: أن جواز الحوالة، والاعتياض إنما هو أثر من آثار استقرار الملك، وحكم من أحكامه، وليس هو معنى الاستقرار.

        الأمر الثاني: هبة الدين المستقر لمن هو عليه: صورة ذلك: أن يقرض شخصا مثلا ألف ريال، أو ألف صاع من البر، فيهبها الدائن للمدين.

        وحكم هبة الدين لمن هو عليه: جائزة اتفاقا.

        وهبة الدين لمن هو عليه إسقاط للدين من ذمة المدين، وعند الشافعية: "إذا وهب الدين لمن هو عليه فهو إبراء"، والإبراء يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره; لكونه ليس من قبيل المعاوضات، ولذا لم يكن فيه خيار.

        والدليل على هذا:

        1 - عموم أدلة الهبة.

        2 - أن الهبة خير وقربة، فيؤمر بها.

        [ ص: 290 ] 3 - أن الأصل في المعاملات الحل.

        4 - ما يأتي من الأدلة على مشروعية الإبراء من الديون.

        الأمر الثالث: هبة الدين المستقر لغير من هو عليه:

        مثاله: أن يقول من له دين على آخر: وهبتك ما في ذمة فلان لي:

        اختلف العلماء في حكم هذه الهبة على قولين:

        القول الأول: أن هبة الدين المستقر لغير من هو عليه صحيحة.

        قال به المالكية، وهو وجه للشافعية، وأحمد في رواية.

        وحجته: ما يأتي من الأدلة على صحة هبة الدين غير المستقر لمن هو عليه.

        القول الثاني: أن هبة الدين المستقر لغير من هو عليه لا تصح.

        قال به الحنفية، والحنابلة، والشافعية في الأظهر.

        وحجته: ما يأتي من الأدلة على عدم صحة هبة الدين غير المستقر لغير من هو عليه.

        وتأتي مناقشتها.

        [ ص: 291 ] الترجيح:

        الراجح - فيها يظهر والله أعلم - هو الصحة; لما يأتي من صحة هبة الدين غير المستقر لغير من هو عليه، فكذا هنا.

        الأمر الرابع: هبة الدين غير المستقر لمن هو عليه:

        نص الحنابلة على صحة هبة الدين غير المستقر لمن هو عليه، كما أن القول بصحة ذلك هو قياس قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، حيث يمكن تخريج هذا القول للحنفية، والشافعية من صحة هبة الكتابة، والإبراء منها، كما أنه قياس قول المالكية في صحة هبة المبيع قبل القبض، وصحة بيع الكتابة.

        الأدلة:

        1 - عموم أدلة الهبة السابقة.

        2 - أن الأصل في العقود الصحة، لا سيما وأن الهبة لا يترتب عليها غرر، ولا ظلم، ولا ربا، وهي من الإحسان المأمور به شرعا، وأمر الهبة أوسع من عقود المعاوضات; ولذا أجاز المالكية هبة المجهول، والمعدوم المتوقع الوجود، وكل ما لا يصح بيعه في الشرع من جهة الغرر.

        3 - أن هبة الدين لمن هو عليه إسقاط للدين عن الدائن، ولا تأثير [ ص: 292 ] للاستقرار أو عدمه في إسقاط الدين، والإسقاط يتسامح فيه ما لا يتسامح في المعاوضة; ولذا ذكر الشافعية على أحد الوجهين لهم أن الإبراء إسقاط حق فصح معلوما ومجهولا، كالعتق.

        الأمر الخامس: هبة الدين غير المستقر لغير من هو عليه:

        مثال ذلك: أن يقول الدائن لشخص آخر - غير المدين - : وهبتك ما لي من دين في ذمة زيد مثلا.

        والصورة في هذه المسألة ليس فيها إسقاط للدين حتى تأخذ حكمه، بل فيها عطية من جانب الدائن لطرف ثالث يتبعه انتقال الحق في الدين من الدائن لطرف ثالث، ويترتب عليه حق مطالبة الطرف الثالث المدين بالدين.

        وقد اختلف الفقهاء في حكم هبة الدين المستقر لغير من هو عليه على قولين:

        القول الأول: أن هبة الدين غير المستقر لغير من هو عليه صحيحة.

        وهو قياس قول المالكية في صحة هبة المبيع قبل قبضه، وصحة بيع الكتابة.

        القول الثاني: أن هبة الدين غير المستقر لغير من هو عليه لا تصح.

        وهو مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

        [ ص: 293 ] الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        1. عموم أدلة الهبة، وهي تشمل هبة الدين غير المستقر لغير من هو عليه.

        2 - أن الأصل في العقود الصحة. - كما سبق - ، ويغتفر في الهبة ما لا يغتفر في غيرها من الغرر، والجهالة.

        3 - أن هبة الدين غير المستقر محض إحسان وتبرع، فالإنسان فيها إما غانم، وذلك عند استيفائه للدين، وإما سالم، وذلك عند سقوط الدين.

        أدلة القول الثاني:

        1 - أن الهبة تقتضي وجود معين وهو منتف هنا، فالهبة مختصة بالأعيان القائمة; ولذا لم تصح هبة المجهول.

        ونوقش: بأن قولهم إن الهبة تقتضي وجود معين... غير مسلم، واختصاص الهبة بالأعيان يتطلب دليلا شرعيا، فالدين تمكن هبته، ويكون المراد بذلك إسقاطه من ذمة المدين إن كانت الهبة للمدين، أو هبته لغير المدين، فيكون الموهوب مالكا لما في ذمة المدين، وله حق استيفائه.

        2 - تخلف القدرة على تسليم الدين، كما لو وهبه عبدا آبقا أو غيره، فما في ذمة الشخص الآخر لا يستطاع تسليمه، والقدرة على التسليم شرط لصحة الهبة.

        ونوقش: بأن تخلف القدرة على التسليم على القول بتأثيرها في الديون، فإنما يتجه التعليل بها على الإبطال إذا كان البدل معقودا عليه عقد معاوضة، وأما في الهبة، فإن الموهوب له إما سالم وإما غانم.

        [ ص: 294 ] الترجيح:

        الذي يترجح - والله أعلم - هو القول بالصحة; لقوة أدلة هذا القول، ولأن الهبة عمل خير يحث عليه، ولهذا اغتفر فيها على الصحيح - كما تقدم في شروط صحتها - الجهالة، وعدم القدرة على التسليم.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية