الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 449 ] المطلب الثاني: إذا مات الموهوب له بعد القبول، وقبل القبض

        إذا قبل الموهوب له الهبة ثبت له حق في قبضها، فإذا قبضها لزمت الهبة اتفاقا كما سبق، فلو مات قبل القبض، فهل يبطل العقد بموته، فلا يكون للورثة حق القبض، أو لا يبطل العقد بموته، فيقوم الوارث مقامه في القبض؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

        القول الأول: أن العقد لا يبطل بموت الموهوب له قبل القبض - بعد القبول - ويقوم الوارث مقامه في القبض.

        ذهب إلى ذلك المالكية، والشافعية في أصح القولين، وهو قول مخرج عند الحنابلة، وذهب إليه الظاهرية.

        القول الثاني: أن العقد يبطل بموت الموهوب له قبل القبض - بعد القبول - فلا يكون للوارث حق القبض.

        [ ص: 450 ] ذهب إلى ذلك الحنفية، والشافعية في أحد القولين، وبه قال الحنابلة.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        1 - استدل المالكية لذلك: بأن الهبة تلزم بمجرد الإيجاب والقبول من غير قبض، وإنما القبض شرط في نفوذها وتمامها في الجملة - كما سبق تحريره قريبا - ، وحيث كانت عقدا لازما، فإنها لا تبطل بالموت كالبيع، وتقدمت الأدلة على لزوم عقد الهبة بالإيجاب والقبول.

        2 - استدل من ذهب إلى هذا القول من الشافعية والحنابلة: بأن الهبة وإن لم تلزم إلا بالقبض إلا أنها لا تبطل بالموت قبله; لأنها عقد مآل إلى اللزوم فلم يبطل بالموت، كالبيع بشرط الخيار.

        3 - أما الظاهرية: فإن الهبة عندهم تتم باللفظ، ولا معنى لحيازتها ولا لقبضها أصلا، فإذا مات الموهوب له ورثها الوارث كسائر الأملاك.

        [ ص: 451 ] أدلة القول الثاني:

        1 - أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فإذا مات الموهوب له قبل القبض بطلت الهبة.

        وذلك: أنها عقد جائز فبطلت بالموت كالوكالة والشركة.

        نوقش هذا الدليل: بأن الهبة وإن لم تلزم إلا بالقبض، إلا أن مآلها إلى اللزوم، فلم تبطل بالموت، كالبيع بشرط الخيار، بخلاف الوكالة والشركة; فإنها لا تؤول إلى اللزوم.

        2 - أن الهبة لا تملك إلا بالقبض، فكان القبض فيها كالقبول في البيع من حيث إن الملك يثبت به، وكما أن موت من أوجب له البيع قبل القبول يبطل البيع فكذلك الهبة.

        ويناقش هذا الدليل: بأنه قياس مع الفارق; ذلك أن القبول في البيع ركن من أركان العقد، فلا ينعقد البيع إلا به، بخلاف القبض في الهبة فإنه شرط الملك ولزوم العقد، وليس ركنا من أركان الهبة; بدليل أن عقد الهبة ينعقد بالإيجاب والقبول كغيره من العقود.

        وهذا الاستدلال ينتقض على الحنابلة بموت الواهب، فإن مقتضى هذا الاستدلال أن الهبة تبطل بموت الواهب أيضا قبل القبض، وهم لا يقولون [ ص: 452 ] به، فيلزمهم على مقتضى هذا الاستدلال: التسوية بين موت الواهب والموهوب له - والله أعلم - .

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم بالصواب - أن الهبة لا تبطل بموت الموهوب له بعد القبول; لقوة أدلة هذا القول ووجاهته، وضعف أدلة القول الآخر بما ورد عليها من المناقشة، ولأن الأصل صحة العقد.

        فعلى قول الجمهور يقوم الوارث مقام مورثه في القبض.

        وعلى رأي المالكية في الجملة، والظاهرية: العقد لازم بالعقد، ويجب على الواهب تسليم الهبة لورثة الموهوب له.

        [ ص: 453 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية