الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الفصل الثاني هبة الزوجات [ ص: 508 ] [ ص: 509 ]

        الفصل الثاني: هبة الزوجات

        يجب على الزوج أن يعدل بين زوجاته في النفقة والكسوة والسكن. وضابط ذلك: أن يعطي كل واحدة قدر حاجتها من ذلك.

        (210 ) لما رواه الترمذي من طريق سليمان بن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه قال: حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ... فقال: "ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا".

        [ ص: 510 ] (216 ) وروى ابن أبي الدنيا: حدثني أبي: حدثني الفضل بن إسحاق، وحدثنا الأشجعي، عن سفيان بن عبيد، عن علي بن ربيعة قال: "كان لعلي امرأتان، فإذا كان يوم هذه اشترى لحما بنصف درهم، وإذا كان في يوم هذه اشترى لحما بنصف درهم".

        لكن إذا قام بالواجب لكل واحدة، فهل له أن يوسع على بعضهن بالنفقة والكسوة والسكن بأن يعطيها أكثر من حقها، أو يخصها بهبة دون الأخريات؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:

        القول الأول: وجوب العدل في الهبة.

        وهو مذهب الحنفية، وهو قول المالكية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، والشوكاني.

        [ ص: 511 ] القول الثاني: عدم وجوب التعديل بين الزوجات في الهبة.

        فللزوج إذا قام بالواجب من النفقة والكسوة والسكنى أن يهب ويوسع على من يشاء في النفقة والكسوة والسكنى، دون البقية.

        وهو قول جمهور أهل العلم من المالكية، والشافعية، والحنابلة.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        (وجوب التعديل ) :

        1 - قوله تعالى: وعاشروهن بالمعروف .

        وليس من المعاشرة بالمعروف أن لا يعدل بينهن في النفقة والكسوة ونحوها; لقدرة الزوج على ذلك.

        2 - قوله تعالى: فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم . وهذا بعد إحلال الأربع بقوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع .

        وجه الدلالة: دلت الآية على أن حل الأربع مشترط فيه القدرة على العدل، و إلا لم يحل التعدد، فدل على وجوب العدل بين الزوجات، وهذا يشمل العدل في النفقة والكسوة ونحوها.

        (217 ) 3 - ما رواه أبو داود الطيالسي: أنبأنا همام، عن قتادة، عن [ ص: 512 ] النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة، وشقه مائل".

        [ ص: 513 ] 4 - ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: أعطاني أبي عطية... وفيه قوله صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع أبي فرد عطيته".

        وجه الدلالة: دل الحديث على وجوب العدل بين الأولاد في الهبة، فكذا الزوجات بجامع لحوق الضرر بكل مع عدم التعديل، بل هو في الزوجات أشد لوجود الغيرة بينهن.

        (218 ) 5 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق سالم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".

        (219 ) 1 - ما رواه الإمام أحمد من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم".

        [ ص: 514 ] [ ص: 515 ] وليس من الخير للمرأة تفضيل ضرتها عليها في الهبة.

        7 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استوصوا بالنساء خيرا".

        [ ص: 516 ] وليس من الاستيصاء بالمرأة تفضيل ضرتها عليها.

        أدلة القول الثاني: (عدم وجوب التعديل ) :

        1 - قوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى .

        ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال: بأن الإحسان الموافق للشرع لا يمنع منه، لكن يمنع منه إذا كان على خلاف المشروع، وأدى إلى العداوة والبغضاء

        2 - ما رواه نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "... لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه".

        فدل هذا الحديث على حل مال المسلم بالإذن والرضا، والزوج إذا وهب إحدى زوجاته دون البقية، فقد أذن بذلك ورضي.

        ويمكن أن يناقش: بما نوقش به الدليل السابق.

        3 - ما رواه أحمد من طريق موسى بن عقبة، عن أبيه، عن أم كلثوم قالت: "لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال لها: إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة، فإن ردت علي فهي لك، قالت: وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت إليه هديته، وأعطى كل امرأة من نسائه أوقية مسك، وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة".

        ففي الحديث تخصيص أم سلمة بالحلة دون بقية نسائه.

        ونوقش من وجهين:

        الأول: ضعف الحديث.

        [ ص: 517 ] الثاني: عدم صراحته على التفضيل; إذ يحتمل أن ما بقي من المسك لا يساوي أوقية، فزاد أم سلمة الحلة; لكي تساوي بقية نسائه، فهو دليل على التعديل في هبة الزوجات.

        4 - حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما لما وهبه أبوه... وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم".

        فقال: - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم - : "فأشهد على هذا غيري"، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتأكيد الهبة دون الرجوع فيها، ولو لم يكن جائزا لكانت الشهادة عليها باطلة من الناس كلهم، وإذا جاز التفضيل في هبة الأولاد، فكذا في هبة الزوجات.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن هذا ليس بأمر; لأن أدنى أحوال الأمر الاستحباب والندب، ولا خلاف في كراهة هذا، وكيف يجوز أن يأمره بتأكيده مع أمره برده وتسميته إياه جورا، وحمل الحديث على هذا حمل لحديث النبي صلى الله عليه وسلم على التناقض والتضاد، ولو أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإشهاد غيره لامتثل بشير أمره ولم يرد، وإنما هو تهديد له على هذا فيفيده ما أفاده النهي عن إتمامه.

        5 - أنه ورد عن الصحابة رضي الله عنهم التفضيل في هبة الأولاد، فمن ذلك:

        ما روت عائشة أنها قالت: "إن أبا بكر نحلها جذاذ عشرين وساقا من ماله بالعالية...".

        [ ص: 518 ] وقال البيهقي: قال الشافعي: "وفضل عمر عاصم بن عمر بشيء أعطاه إياه".

        وما رواه صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف "أن عبد الرحمن بن عوف فضل بني كلثوم بنحل قسمه بين ولده".

        وما رواه نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما "قطع ثلاثة أرؤس، أو أربعة لبعض ولده دون بعض".

        ونوقشت هذه الآثار: بأن منها ما هو ضعيف، وما ثبت فهو محمول على رضا بقية الأولاد، أو أنه موقوف خالف المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم.

        5 - أن الأصل تصرف الإنسان في ماله مطلقا.

        ونوقش: بأن هذا الأصل العام خص منه هبة الزوجات.

        7. أن الإجماع منعقد على أن للرجل أن يهب في صحته جميع ماله للأجانب، فإذا كان ذلك للأجنبي فهو للزوجة أحرى.

        ويمكن أن يناقش من وجهين:

        الأول: زوال المعنى الذي يحصل مع التخصيص، وهو وجود البغضاء، ونحو ذلك.

        الثاني: النص المانع لما نحن فيه.

        [ ص: 519 ] 8 - أن حقهن في النفقة والكسوة والقسم، وقد سوى بينهما، وما زاد على ذلك فهو متطوع فله أن يفعله إلى من شاء.

        ونوقش: قال شيخ الإسلام: "موجب هذه العلة أن له أن يقسم للواحدة ليلة من أربع; لأنه الواجب، ويبيت الباقي عند الأخرى".

        9 - أن التسوية في هذا كله تشق، فلو وجب لم يمكنه القيام به إلا بحرج، فسقط وجوبه كالتسوية في الوطء.

        ونوقش: بوجود الفرق بين الوطء والهبة، فالهبة يملك التسوية بينهن; إذ هي أمر حسي ولا يسلم الحرج في ذلك، وأما الوطء فقد لا يملك التسوية بينهن إلا بحرج ومشقة; لأن مصدره الميل والمحبة، وهذا قد لا يملكه الإنسان.

        الترجيح:

        يترجح - والله أعلم - وجوب التسوية بين الزوجات في الهبة; إذ هي تحت قدرة الزوج، فتلحق بالقسم، ولما في ذلك من المعاشرة بالمعروف التي أمر الله لك بها.

        [ ص: 520 ] [ ص: 521 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية