الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الشرط السابع عشر: أن لا يسقط الأب حقه من الرجوع.

        صورة ذلك: أن يهب الولد لولده هبة، ويلتزم أنه لن يعود فيها، فهل التزامه ذلك يمنع عليه الرجوع فيها، أو لا يفيته عليه متى ما أراد أن يرجع رجع؟

        اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

        القول الأول: أنه يمتنع عليه الرجوع.

        وهو قول للحنفية، وهو القول الراجح في مذهب المالكية، وبه قال الحنابلة في قول، واختاره شيخ الإسلام. [ ص: 160 ]

        وحجته:

        1- الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالوعد; ومن تلك الأدلة:

        أ- قوله تعالى: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم .

        ب- قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود .

        ج- قوله تعالى: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا .

        (260) د- ما رواه البخاري ومسلم من طريق نافع، عن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان".

        وجه الاستدلال منها: أن الشارع الحكيم أمر بالوفاء بالوعد، والتزام إسقاط الرجوع من طرف الأب في الهبة وعد، فإذا رجع عنه كان إخلالا بالوعد الذي قطعه على نفسه، وهو أمر لا يجوز كما هو مقتضى الكتاب والسنة.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن الوعد في منزلة الهبة قبل قبضها، والهبة قبل قبضها يصح الرجوع فيها، فكذلك ما كان في منزلتها.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: أن الأصل المقيس عليه غير مسلم، فالهبة تلزم بمجرد العقد كما سبق تقريره. [ ص: 161 ]

        الوجه الثاني: لا يلزم المالكية; لأنهم يرون أن الهبة تلزم بمجرد العقد كما سبق، فترجع المسألة إلى بناء الخلاف على الخلاف الذي لا يثمر حجة على الخصم.

        2- حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج".

        دل الحديث على أن الشروط يجب الوفاء بها، وأحقها بالوفاء الشروط في النكاح، والأب قد شرط على نفسه عدم الرجوع.

        3- وقال البخاري: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم".

        4- أن إسقاط الرجوع حق للوالد، ومن ملك حقا ملك أن يسقطه كإسقاط الولي حقه من ولاية النكاح عمن هو عليه.

        القول الثاني: أن ذلك لا يمنع الرجوع.

        وهذا هو المذهب عند الحنفية، وقول للمالكية، وبه قال الشافعية، وهو قول للحنابلة. [ ص: 162 ]

        وحجته:

        1- أن رجوع الوالد فيما وهب لولده حق ثبت له بالشرع، فلم يسقط بإسقاطه كما لو أسقط الولي حقه من ولاية النكاح.

        ونوقش: بأن هذا قياس مع الفارق; إذ حق الرجوع حق للأب فيملك إسقاطه، وحق ولاية النكاح حق لله من جهة وحق للمرأة من جهة أخرى، فلم يملك الولي إسقاطه.

        2- أنه حق ثبت بالشرع، فلا يملك إسقاطه كالميراث، والوقف، والاستحقاق.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: أن هذا قياس على أمر مختلف فيه، والقياس على المختلف فيه لا يثمر حجة عند من لا يرى الحكم في الأصل.

        الوجه الثاني: أنه يسلم أنه حق ثبت بالشرع، كذلك إسقاط حق الرجوع ثبت بالشرع.

        3- أن الواهب قد تعلق حقه بالعين فيدوم بدوام بقائها في ولاية الموهوب له.

        ونوقش هذا الاستدلال: بعدم التسليم، فإن الهبة قد انتقلت إلى ملك الموهوب له.

        الترجيح:

        يترجح -والله أعلم بالصواب- ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من أن [ ص: 163 ] إسقاط الرجوع في الهبة من طرف الأب في هبته لولده يفيت عليه الرجوع فيها; وذلك لأن الرجوع حق محض للوالد، ومن ملك حقا ملك إسقاطه، ولأن الإسقاط عدة، والعدة مأمور بالوفاء بها.

        إلا إذا تعين الرجوع طريقا لتلافي الجور في عطيته الأولاد، فإنه لا يسقط رجوعه بإسقاطه، لحديث النعمان.

        وأما ما علل به أصحاب القول الثاني فقد أجيب عنه بما يكفي. والله أعلم.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية