الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثانية: العقل:

        وفيها أمور:

        الأمر الأول: وقف المجنون حال اختلاله. [ ص: 264 ]

        اتفق الفقهاء - رحمهم الله - على عدم صحة وقف المجنون، ولا عبرة بإجازة الولي لو أجاز ما أصدره المجنون من وقف.

        وهذا بالإجماع; للأدلة الآتية:

        1 - حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل ».

        2 - ما سبق من الأدلة على عدم صحة وقف الصبي والمجنون من باب أولى. [ ص: 265 ]

        3 - أن انتقال الملك متوقف على الرضا، ومعرفة رضا المجنون متعذر لعدم التمييز وانتفاء تعقل المعاني.

        فلا يصح حينئذ وقفه التي يصدرها.

        4 - أن الإنسان يعرف بالعقل ما ينفعه من العقود فيقدم عليه، والمجنون فاقد للعقل، فلا يصح ما يصدره من صيغ تفيد التزامه بعقد من العقود لرجحان جانب الضرر; نظرا إلى سفهه وقلة مبالاته وعدم قصده المصالح.

        وقد يستجر - من يعامله - ماله باحتياله.

        5 - أن الأهلية شرط لجواز التصرف وانعقاده، ولا أهلية بدون عقل وتمييز، والمجنون فاقد لهما.

        6 - ويستدل لعدم الاعتداد بإجازة الولي لما يصدره المجنون من وقف: بأن صدور الصيغة من المجنون تصرف باطل لا يعتد به، وإجازة الولي إنما تلحق التصرفات الموقوفة فتجعلها نافذة، ولا تلحق التصرفات الباطلة، فالباطل في حكم المعدوم.

        الأمر الثاني: وقف المجنون حال إفاقته:

        اختلف الفقهاء - رحمهم الله - فيما يصدره المجنون من وقف حال إفاقته على قولين:

        القول الأول: أن ما يصدره المجنون من وقف في حال إفاقته يعد صحيحا نافذا.

        وبهذا قال جمهور الفقهاء، فقد نصوا على ذلك في مواضع كولاية النكاح، وأسباب الحجر. [ ص: 266 ]

        فهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

        القول الثاني: أن ما يصدره المجنون من وقف حال إفاقته فيه تفصيل:

        فإن كان لإفاقة المجنون وقت معلوم فوقف في ذلك الوقت، فالحكم أنه صحيح نافذ.

        وإن لم يكن لإفاقته وقت معلوم فوقف في حال الإفاقة، فالحكم أنها موقوفة على إجازة الولي.

        وإلى هذا القول ذهب بعض الحنفية.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        استدل القائلون بصحة وقف المجنون حال إفاقته بما يلي:

        1 - أن الأصل صحة الوقف إلا لتخلف شرط، أو وجود مانع، ولم يوجد.

        2 - أن العلة من عدم صحة وقف المجنون زالت بإفاقته، والقاعدة الشرعية: أن كل علة أوجبت حكما اقتضى أن يكون زوال تلك العلة موجبا لزوال ذلك الحكم.

        دليل القول الثاني:

        استدل القائلون بصحة وقف المجنون ونفاذه إن كان لإفاقته وقت معلوم، وبوقفها على إجازة الولي إن لم يكن لها وقت معلوم: [ ص: 267 ]

        أن من كان لإفاقته وقت معلوم فإنه يتحقق من صحوه، ومن لم يكن لإفاقته وقت معلوم لا يتحقق صحوه.

        ويناقش هذا التعليل: بأن العلة من عدم صحة وقف المجنون هي زوال العقل، فإذا أفاق زالت العلة وتحقق شرط صحة الوقف، وارتفع بطلانه، وحينئذ فلا يلتفت إلى كون الإفاقة لها وقت معلوم أو لا.

        الترجيح:

        يظهر لي - والله أعلم بالصواب - رجحان القول بصحة وقف المجنون; لقوة دليل أصحاب هذا القول، وضعف تعليل القائلين بالتفصيل.

        الأمر الثالث: وقف الخرف:

        الخرف: هو فساد العقل من الكبر والهرم.

        يقال: خرف الرجل خرفا - من باب تعب - فهو خرف.

        فإذا رد الإنسان لأرذل العمر، وأصبح لا يعلم من بعد علم شيئا، فلا يصح وقفه.

        ويدل لذلك ما يأتي:

        1 - حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه السابق: « رفع القلم عن ثلاثة... » رواية فيها زيادة: « والخرف » [ ص: 268 ] (51 ) 2 - ما روي عن علي رضي الله عنه في عدم وقوع طلاق المعتوه.

        3 - أن الهرم الخرف كالمجنون; لفقده العقل، فليس أهلا للوقف وإبرام العقود.

        وبهذا يتبين أن الخرف كالمجنون في عدم صحة وقفه التي تفيد التزامه بعقد من العقود.

        الأمر الرابع: وقف المعتوه:

        وفيه فرعان:

        الفرع الأول: تعريف المعتوه:

        العته في اللغة: يطلق على نقص العقل، ويطلق أيضا على فقده.

        وفي اصطلاح الفقهاء:

        انقسم الفقهاء رحمهم الله في تعريف المعتوه إلى طائفتين:

        فطائفة جعلت العته نوعا من الجنون، والطائفة الأخرى فرقت بينه وبين الجنون.

        فقد جاء في "تبيين الحقائق" للحنفية أن المعتوه هو: « من كان قليل الفهم، مختلط الكلام، فاسد التدبير، إلا أنه لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجنون ». [ ص: 269 ]

        وجاء في "الإكليل" للمالكية: « أن المعتوه هو: ضعيف العقل ».

        وقد ذكر صاحب كشاف اصطلاحات الفنون: ما يؤيد هذا التفريق حيث قال: « والفرق بين السفه والعته ظاهر، فإن المعتوه يشابه المجنون في بعض أفعاله وأقواله، بخلاف السفيه فإنه لا يشابه المجنون، لكن تعتريه خفة فيتابع مقتضاها في الأمور من غير روية وفكر في عواقبها ».

        وجاء في "تحرير التنبيه" للشافعية: « المعتوه نوع من المجانين ».

        وجاء في المغني للحنابلة: « المعتوه هو: الزائل العقل بجنون مطبق ».

        وفي الدر النقي: « المعتوه هو المجنون ».

        الفرع الثاني: وقف المعتوه: اختلف الفقهاء - رحمهم الله - في وقف المجنون على قولين:

        القول الأول: أن المعتوه كالمجنون في الأحكام، فلا يصح وقفه، ولا يجوز للولي أن يأذن له في ذلك.

        وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة. [ ص: 270 ]

        القول الثاني: أن المعتوه كالصبي العاقل في تصرفاته; لذا فما يصدره المعتوه من وقف يأخذ حكم وقف الصبي المميز، وقد تقدم حكمه.

        وبهذا قال الحنفية.

        الأدلة:

        الذين يرون بطلان وقف المعتوه يلحقونه بالمجنون، ويطبقون عليه أحكامه، وتقدمت الأدلة قريبا على عدم صحة وقف المجنون.

        أما الذين يرون إلحاق المعتوه بالصبي المميز في التصرفات القولية وهم الحنفية، فإنهم لما رأوا المعتوه - حسب اصطلاحهم - عنده نوع تمييز ألحقوه بالصبي المميز، وقاسوه عليه.

        والذي يظهر لي في المسألة أن المعتوه ينقسم إلى قسمين:

        الأول: معتوه ليس معه إدراك فهذا في حكم المجنون، فلا يصح وقفه.

        الثاني: معتوه معه إدراك، فيأخذ حكم الصبي المميز، وقد تقدم حكم وقفه.

        الأمر الخامس: وقف السكران:

        السكران لا يخلو من حالتين:

        الحال الأولى: أن يكون معذورا بسكره، كمن شرب مسكرا ظنه [ ص: 271 ] عصيرا، أو كان مكرها على شربه، ونحو ذلك، فلا يصح وقفه باتفاق الفقهاء.

        لما يأتي من الأدلة على عدم صحة وقفه إذا كان السكران غير معذور، فالمعذور من باب أولى.

        الحال الثانية: أن لا يكون معذورا بسكره بأن شرب المسكر عالما مختارا.

        إذا وقف السكران غير المعذور بسكره فهل يصح وقفه؟ خلاف بين الفقهاء على أقوال:

        القول الأول: عدم صحة وقف السكران.

        هو قول الكرخي، والطحاوي من الحنفية، وقول للشافعية، ورواية: [ ص: 272 ]

        عند الحنابلة، خرجها الأصحاب على عدم وقوع طلاق السكران، وهو قول الظاهرية، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم.

        القول الثاني: صحة وقف السكران.

        وهذا هو المشهور من مذهب الحنفية، وهو قول شاذ عند المالكية، وهو المذهب عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة، خرجها الأصحاب على وقوع طلاق السكران، وهي المذهب.

        في "تيسير التحرير": « و إن كان طريقه - أي: السكر محرما...فلا يبطل التكليف فيلزم الأحكام، وتصح به عباراته من الطلاق، والعتاق، والبيع، والإقرار، والتزويج، والإقراض... » [ ص: 273 ] القول الثالث: أن وقف السكران صحيح، إلا أن العقد غير لازم وبهذا قال الإمام مالك، وعامة أصحابه.

        القول الرابع: يصح وقف السكران، ولا يصح قبوله الوقف.

        وهذا قول للشافعية.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (عدم صحة وقف السكران ) :

        استدل من قال بعدم صحة هبة السكران بالأدلة الآتية:

        1 - قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون .

        وجه الاستدلال من الآية: أن الله سبحانه وتعالى جعل قول السكران غير معتبر; لأنه لا يعلم ما يقول، وعليه فلا يصح وقفه.

        وأيضا فإن النهي عن قربان الصلاة مع السكر دليل على بطلان عبادته، فترتب على ذلك بطلان سائر عقوده لانعدام مناط التكليف.

        (52 ) 2 - ما رواه مسلم من طريق سليمان بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه قال: جاء ماعز بن مالك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله طهرني...، قال: « مم أطهرك؟ » قال: من الزنى. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أبه جنون؟ » فأخبر أنه ليس [ ص: 274 ] بمجنون، فقال: « أشرب خمرا؟ » فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أزنيت؟ » قال: نعم. فأمر به فرجم.

        وجه الاستدلال من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بشم ريح فم ماعز ليعلم هل هو سكران أم لا؟ فإن كان سكران لم يصح إقراره، وإذا لم يصح إقراره علم أن أقواله باطلة كأقوال المجانين، فلا يصح وقفه.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن درء الحد عن ماعز لوجود الشبهة في إقراره، والحدود تدرأ بالشبهات.

        وأجيب: بأن استنكاه ماعز خشية الشبهة في إقراره دليل على اعتبار العقل الذي هو مناط التكليف.

        (53 ) 3 - ما رواه البخاري من طريق علي بن الحسين أن الحسين بن علي رضي الله عنهما أخبره أن عليا أخبره قال: « كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر،...فإذا شارفي قد جبت أسنمتهما، وبقرت خواصرهما، فقلت: يا رسول الله...عدا حمزة على ناقتي... وها هو في بيت معه شرب، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة، ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد ثمل، فنكص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه وخرجنا معه ». [ ص: 275 ]

        وجه الاستدلال من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ حمزة بما قال، مع أن هذا القول لو قاله غير سكران لكان ردة وكفرا.

        قال ابن حجر - رحمه الله - : « وهو من أقوى أدلة من لم يؤاخذ السكران بما يقع منه في حال سكره من طلاق وغيره ».

        ونوقش هذا الاستدلال من الحديث: بأن الخمر حينئذ كانت مباحة، فبذلك سقط عن حمزة به حكم ما نطق به في تلك الحال.

        وأجيب عنه: بأن الاحتجاج من هذا الحديث إنما هو بعدم مؤاخذة السكران بما يصدر منه، ولا يفترق الحال بين أن يكون الشرب مباحا أو لا.

        4 - حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل ».

        وجه الدلالة: دل الحديث على أن فاقد العقل غير مؤاخذ، فكذا السكران; لانعدام مناط التكليف.

        ونوقش: بأنه قياس مع الفارق; حيث إن انعدام مناط التكليف في المنصوص عليهم قهرا، بخلاف السكران فإنه باختياره وإرادته فيغلظ عليه.

        وأجيب: بأن العبرة انعدام مناط التكليف، لاشتراط القصد في العقود والأقوال المتحقق في العقل من غير تفريق بين مختار وغيره. [ ص: 276 ]

        (54 ) 5 - ما رواه الترمذي من طريق عطاء بن عجلان، عن عكرمة بن خالد المخزومي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل الطلاق جائر إلا طلاق المعتوه، والمغلوب على عقله ».

        والسكران داخل في المغلوب على عقله.

        ونوقش: بضعف الحديث.

        (55 ) 6 - ما رواه أبو داود من طريق محمد بن عبيد، عن أبي صالح ...قال: خرجت مع عدي بن عدي الكندي حتى قدمنا مكة فبعثني إلى صفية بنت شيبة ...قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ». [ ص: 277 ]

        وجه الدلالة: أن المغلق عليه لا يقع طلاقه، وكذا وقفه، والسكران داخل في ذلك لزوال مناط التكليف.

        (56 ) 7 - قال البخاري: وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه « ليس لمجنون ولا سكران طلاق ». [ ص: 278 ]

        قال ابن المنذر: « هذا ثابت عن عثمان، ولا نعرف أحدا من الصحابة خالفه ».

        وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: « وهذا ثابت عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ولم يثبت عن الصحابة خلافه فيما أعلم ».

        (57 ) 8 - قال البخاري: وقال ابن عباس رضي الله عنهما « طلاق السكران والمستكره ليس بجائز ».

        أي: ليس بواقع.

        فهذه الفتوى من الصحابة - رضوان الله عليهم - تدل على أن تلفظ [ ص: 279 ] السكران بصيغة الطلاق لغو لا يترتب عليها حكم، ويقاس على صيغة الطلاق سائر صيغ العقود كالوقف; إذ لا فرق مؤثر في الحكم بينهما.

        9 - أن السكران زائل العقل مفقود الإرادة، وشرط التكليف العقل وهو مفقود، فأشبه المجنون والنائم والمكره.

        واعترض على هذا القياس من وجهين:

        أحدهما: أن مع المكره والمجنون علما ظاهرا يدل على فقد الإرادة هما فيه معذوران، بخلاف السكران.

        الثاني: أن المكره والمجنون والنائم غير مؤاخذين بالإكراه والجنون والنوم، فلم يؤاخذوا بما أحدثوا فيها، كما أن من قطع يد سارق فسرت إلى نفسه لا يؤاخذ بالسراية; لأنه غير مؤاخذ بالقطع، ولو كان متعديا بالقطع لكان مؤاخذا بالسراية، كما كان مؤاخذا بالقطع، بخلاف السكران فإنه لما كان متعديا بالسكر كان مؤاخذا بما حدث فيه.

        وأجيب: بما أجيب به عن المناقشة الواردة على الدليل الرابع.

        10 - أن عبادات السكران كالصلاة لا تصح بالنص والإجماع; لأنه لا يعلم ما يقول كما دل على ذلك القرآن الكريم.

        والقاعدة: أن كل من بطلت عبادته لعدم عقله فبطلان عقوده أولى وأحرى، كالنائم والمجنون ونحوهما، فإنه قد تصح عبادات من لا يصح تصرفه لنقص عقله كالصبي والمحجور عليه لسفه. [ ص: 280 ]

        11 - أن جميع الأقوال والعقود مشروطة بوجود التمييز والعقل، فمن لا تمييز له ولا عقل ليس لكلامه في الشرع اعتبار أصلا.

        (58 ) لما روى البخاري ومسلم من طريق الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ».

        فإذا كان القلب قد زال عقله الذي به يتكلم ويتصرف فكيف يجوز أن يجعل له أمر ونهي أو إثبات وهذا معلوم بالعقل مع تقرير الشارع له.

        12 - أن العقود وغيرها من التصرفات مشروطة بالمقصود.

        (59 ) لما روى البخاري ومسلم من طريق علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنما الأعمال بالنيات ».

        وجه الاستدلال: أن اللفظ وغيره من التصرفات مشروط بالقصد، فكل لفظ من المتكلم لسهو وسبق لسان وعدم عقل لا يترتب عليه حكم.

        أدلة الرأي الثاني: (صحة وقف السكران ) :

        استدلوا بالآية الآتية: [ ص: 281 ]

        1 - قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون .

        وجه الاستدلال من الآية: دلت الآية على أن السكران مكلف من وجهين:

        أحدهما: تسميتهم بالمؤمنين ونداؤهم بالإيمان، ولا ينادى به إلا مكلف.

        والوجه الثاني: نهيهم في حال السكر أن يقربوا الصلاة، ولا ينهى إلا مكلف.

        ونوقش وجه الاستدلال من الآية من وجوه:

        الوجه الأول: بعدم التسليم بأن الخطاب في الآية موجه للسكران حال سكره; لأن من لا عقل له، ولا يفهم الخطاب لا يدري عن الشرع ولا غيره فكيف يؤمر وينهى، بل أدلة الشرع والعقل تنفي أن يخاطب مثل هذا.

        وأجيب: بأن الخطاب إذا لم يكن موجها لسكران حال سكره، فهو موجه له قبل السكر، وهذا يستلزم أن يكون مخاطبا في حال سكره; لأنه لا يقال إذا جننت فلا تفعل كذا، وهذا المعنى فاسد.

        وبذلك تعين أن يكون الخطاب في الآية موجها للسكارى حال سكرهم، فلا يكون السكر منافيا للخطاب.

        ورد هذا الجواب: بأنه مبني على أن معنى الآية: إذا سكرتم فلا تقربوا الصلاة، وهذا المعنى غير صحيح، بل المعنى يكون إذا أردتم الصلاة فلا [ ص: 282 ] تسكروا، فهو نهي لهم أن يسكروا سكرا يفوتون به الصلاة، أو نهي لهم عن الشرب قريب الصلاة.

        الوجه الثاني: أنه يحتمل أن الخطاب موجه لمن يدب فيه أوائل النشوة، وأما حال السكر فلا يخاطب بحال.

        الوجه الثالث: أن تخصيصهم بالخطاب لانفرادهم بالصلاة عن غيرهم من اليهود ونحوهم، فإنهم لا يصلون سكارى ولا صحاة.

        الوجه الرابع: أن الله وصفهم بالإيمان لكمال حكمته مع عباده، وليس من باب التوبيخ والمحاسبة.

        2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه، والمغلوب على عقله » [ضعيف جدا]

        وكذا الوقف.

        ونوقش هذا الاستدلال: بضعف الحديث، ولو صح: فالمعنى في كليهما واحد، وهو تغطية العقل.

        3 - أن الصحابة - رضوان الله عليهم - أجمعوا على تكليف السكران.

        (60 ) لما رواه الإمام مالك عن ثور بن زيد الديلي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال له علي رضي الله عنه: « نرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فأرى أن يحد حد المفتري ثمانين ». [ ص: 283 ] [ ص: 284 ]

        وجه الاستدلال: أن الزيادة على الأربعين لافترائه في سكره، ولو كان غير مكلف لما أوجبوا عليه حد المفتري، ولا كان مؤاخذا بافترائه، وفي مؤاخذته به دليل على تكليفه، فإذا ثبت أنه مكلف وجب الاعتداد بأقواله وتصحيحها.

        ونوقش هذا الدليل من وجهين: أحدهما: أن هذا الخبر المنسوب لعلي رضي الله عنه لا يصح ألبتة.

        قال أبو محمد ابن حزم: « هذا خبر مكذوب قد نزه الله عليا، وعبد الرحمن بن عوف عنه; لأنه لا يصح إسناده، ثم عظيم ما فيه من المناقضة; لأن فيه إيجاب الحد على من هذى، والهاذي لا حد عليه ».

        الوجه الثاني: أن الزيادة على الأربعين ليست من أجل الافتراء، ولكن [ ص: 285 ] لما كان الإقدام على السكر - الذي هو مظنة الافتراء - يلحقه بالمقدم على الافتراء أعطي حكم المفتري; إقامة لمظنة الحكمة مقام الحقيقة; لأن الحكمة هنا خفية مستترة; لأنه قد لا يعلم افتراءه، ولا متى يفتري، ولا على من يفتري، كما أن المضطجع يحدث ولا يدري هل هو أحدث أو لا، فقام النوم مقام الحدث.

        وإذا تبين أن الزيادة ليست لأجل الافتراء، فلا يكون السكران مكلفا.

        4 - أن في تصحيح وقف السكران، وإنفاذ عقوده عقوبة له.

        ونوقش هذا الدليل من وجهين:

        أحدهما: أن كون السكران معاقبا أو غير معاقب ليس له تعلق بصحة عقوده وفسادها; فإن العقود ليس من باب العبادات التي يثاب عليها، ولا الجنايات التي يعاقب عليها، بل هي من التصرفات التي يشترك فيها البر والفاجر، والمؤمن والكافر، وهي من لوازم وجود الخلق; فإن العهود والوفاء بها لا تتم مصلحة الآدميين إلا بها، لاحتياج بعض الناس إلى بعض في جلب المنافع ودفع المضار، وإنما تصدر عن العقل، فمن لم يكن له عقل ولا تمييز لم يكن قد عاهد ولا حلف ولا باع ولا نكح ولا طلق ولا أعتق.

        والوجه الثاني: أن الحد الشرعي للسكران كاف لعقوبته، ولا يعهد عن الشريعة العقوبة بتصحيح العقود وإنفاذها، ثم إن الأمر قد يعود بالنفع [ ص: 286 ] للسكران، كما لو اشترى سلعة أثناء سكره، فزاد ثمنها أضعافا مضاعفة بعد العقد.

        5 - أنه لا يعلم زوال عقل السكران إلا بقوله، وهو فاسق مردود الخبر بشربه المسكر، وربما تساكر تصنعا، فلا يقبل قوله في عدم العقل والسكر، ويبقى الحكم على الأصل وهو صحة هبته ونفاذ العقد.

        ونوقش هذا الدليل: بأنه يفيد بطلان صيغ السكران في الباطن وصحتها في الظاهر; لأن السكران لما كان فاسقا سقطت دعواه بزوال عقله، فنفذ العقد لصحة الصيغة.

        ثم إن من لازم هذا الدليل التفريق بين العقود التي ينفرد بها السكران، وبين العقود التي لا ينفرد بها; لأن من حضر صدور الصيغة من السكران قد يشهد بسكره وزوال عقله، وأصحاب هذا الدليل لا يقولون بالفرق.

        6 - أن نفاذ وقف السكران من قبيل ربط الأحكام بالأسباب الذي هو خطاب الوضع.

        ونوقش: بأن من لازمه صحة وقف من سكر مكرها أو جاهلا بأن ما شربه خمر، وصحة وقف المجنون والنائم، والمستدل لا يقول بهذا.

        ثم يقال: وهل ثبت أن صدور الوقف من السكران سبب حتى يربط الحكم به؟ وهل النزاع إلا في هذا؟. [ ص: 287 ]

        7 – أن السكران مؤاخذ بسكره، فوجب أن يكون مؤاخذا بما حدث عن سكره، ومن ذلك صيغه التي يصدرها في البيع والإجارة والطلاق والوقف ونحوها، وهذا مثل سراية الجناية لما كان مؤاخذا بها كان مؤاخذا بسراية الجناية .

        ونوقش هذا الدليل: بأن السكر ليس من فعل السكران، وإنما هو من فعل الله تعالى فيه، فكيف صار منسوبا إليه، ومؤاخذا به؟.

        وأجيب: بأن السكران هو المتسبب بالسكر; حيث إن الشرب من فعله، فصار ما حدث عنه - وإن كان من فعل الله تعالى - منسوبا إلى فعله، كما أن سراية الجناية لما حدثت عن فعله نسبت إليه، وكان مؤاخذا بها، وإن كان من فعل الله تعالى فيه.

        8 - قياس وقف السكران على سائر جناياته كالقتل والقذف ونحوها، فكما يؤاخذ السكران عليها يؤاخذ على عقد الوقف.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: أن هذا قياس مع الفارق; لافتقار الأقوال للعقل، بخلاف الجنايات فإنها مبنية على الفعل المتسبب في إقامة الحد; لمخاطبته في صحوه بعدم السكر المؤدي إلى الجناية التي لا يعذر بفعلها.

        الوجه الثاني: أن المقيس عليه موضع خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من قال بأن أقواله كأفعاله لا يترتب عليها حكم العمد لفقد القصد. [ ص: 288 ]

        9 - القياس على إلزامه الصلاة الواجبة حال سكره، فوجب صحة وقفه.

        ونوقش من وجوه:

        الوجه الأول: أن إلزام السكران بقضاء الصلاة الفائتة حال سكره موضع خلاف بين أهل العلم.

        الوجه الثاني: أن إلزامه بالقضاء حال سكره دليل على عدم صحة صلاته حال سكره مما يدل على عدم تكليفه لتغطية عقله.

        الوجه الثالث: أن إلزامه بالقضاء حال سكره لا يلزم منه صحة وقفه بدليل النائم يجب عليه قضاء الصلاة، ولا يصح وقفه بالإجماع.

        دليل القول الثالث: (صحة وقفه مع عدم لزوم العقد ) :

        استدل القائلون بصحة ما يصدره السكران من وقف مع عدم لزوم العقد:

        أن السكران بسكره يقصر تمييزه في معرفته بالمصالح عن السفيه، والسفيه لا يلزمه العقد، فالسكران من باب أولى; لنقصان عقله بالسكر.

        ونوقش هذا الاستدلال: بالفرق بين السكران والسفيه; إذ السفيه عقله باق بخلاف السكران فعقله مغطى عليه.

        دليل القول الرابع: (صحة وقفه، ولا يصح قبوله الوقف ) :

        أنه يصح وقفه، ولا يصح الوقف عليه تغليظا عليه; لتسببه في إزالة عقله [ ص: 289 ] بمحرم قصدا.

        ونوقش: بأن العقوبة الشرعية تكفي عقابا وتغليظا على السكران، ولم يعهد عن الشريعة العقاب بهذا الجنس من تصحيح قوله في العقود التي عليه كوقفه، وبطلانها في العقود التي له.

        الترجيح:

        الراجح من أقوال العلماء هي هذه المسألة: هو القول الأول القاضي بعدم صحة وقف السكران; لقوة أدلته، وموافقتها لقواعد الشريعة التي تشترط العقل والتمييز لصحة العقود، وترتب آثارها عليها.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية