الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        فرع: شروط صحة وقف السكران عند القائلين بصحتها:

        يشترط لصحة وقف السكران - عند القائلين بصحتها - توفر الشروط الآتية:

        الشرط الأول: أن يكون غير معذور في سكره، كأن يشرب الخمر ونحوها طائعا مختارا غير مضطر ولا مكره.

        أما إن كان معذورا بسكره كسكر المكره بإكراه ملجئ، وسكر المضطر، وسكر من شرب دواء فسكر به.

        فالسكران في هذه الحالات معذور شرعا لا يقام عليه الحد، ولأجل هذا تلغى جميع أقواله التي نطق بها حال السكر، ولا يترتب عليها أي حكم شرعي فلا ينفذ وقفه، ويعد السكران في هذه الحالة كالنائم والمغمى عليه في أحكام التصرفات; لقيام عذره وانتفاء قصده باتفاق الأئمة الأربعة. [ ص: 290 ]

        الشرط الثاني: أن يكون السكران مميزا أي: معه بقية عقل، أما إذا ذهب عقله جملة، فلا يصح منه نطق; لأنه والحالة هذه كالمجنون.

        جاء في مواهب الجليل: « السكران قسمان: سكران لا يعرف الأرض من السماء، ولا الرجل من المرأة، فلا خلاف أنه كالمجنون في جميع أحواله وأقواله... »، وتقدم في أول هذه المسألة بيان ضابط السكران الذي يؤاخذ بسكره.

        جاء في "الأشباه والنظائر" للسيوطي: « الشارب له ثلاثة أحوال:

        أولها: هزة ونشاط يأخذه إذا دبت فيه ولم تستولي عليه بعد، ولا يزال العقل في هذه الحالة، فهذا ينفذ طلاقه وتصرفاته; لبقاء عقله.

        الثانية: نهاية السكر: وهو أن يصير طافحا ويسقط كالمغشي عليه لا يكاد يتكلم ولا يتحرك، فلا ينفذ طلاقه ولا غيره; لأنه لا عقل له.

        الثالثة: حالة متوسطة: وهو أن تختلط أحواله، ولا تنتظم أقواله وأفعاله، ويبقى تمييز وفهم وكلام، فهذه الثالثة سكر وفيها القولان ».

        الشرط الثالث: أن يكون الشراب المسكر مطربا.

        وأما السكران بشرب دواء غير مطرب كشارب البنج وما في معناه، فلا يصح وقفه حتى ولو قصد بتناوله السكر. [ ص: 291 ]

        وهذا الشرط وجه عند الشافعية.

        وعللوا: بأن الشراب المطرب يدعو النفس إلى تناوله، فغلظ حكمه زجرا عنه بوقوع الطلاق ونحوه، كما غلظ بالحد.

        أما غير الطرب فالنفس منه نافرة، ولذلك لم يغلظ بالحد، فلم يغلظ بوقوع الطلاق ونفاذ العقود كالوقف وغيره.

        الأمر السادس: وقف الغضبان:

        تحرير محل النزاع:

        اتفق الفقهاء رحمهم الله على أن وقف من زال عقله لشدة غضبه لا يقع، كما اتفقوا على وقوع وقف من لم يؤثر غضبه على قصده وشعوره.

        واختلفوا في وقف من اشتد غضبه ولم يملك نفسه، وندم على فعله مع بقاء عقله، هل يقع أم لا؟ على قولين: [ ص: 292 ]

        القول الأول: أنه لا يصح وقفه.

        وهو قول ابن عابدين من الحنفية، ورواية عند الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم.

        القول الثاني: أنه يصح وقفه.

        وهو المذهب عند الحنفية، وقول المالكية، والشافعية والمذهب عند الحنابلة.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: استدل القائلون بأن وقف الغضبان لا يصح بما يلي:

        1 - قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم وجه الدلالة: أن اللغو في اليمين هو أن يحلف الرجل وهو غضبان، فإذا كانت يمين الغضبان لا تنعقد، فكذلك وقفه. [ ص: 293 ]

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: أن القول بأن اللغو في اليمين أن يحلف الرجل وهو غضبان محل خلاف، فمنهم من يرى انعقاد يمين الغضبان، وعلى أثره وقفه.

        ويمكن أن يجاب: بأنه مع التسليم بالخلاف إلا أن هذا في الغضب المتفق على نفاذه.

        الوجه الثاني: أن هذا قياس مع الفارق; إذ إنه مع التسليم بأن اللغو في اليمين هو أن يحلف الرجل وهو غضبان، إلا أنه رفع المؤاخذة عنه; لأن يمينه صادرة من غير قصد، بخلاف وقف الغضبان، فإنه متعمد الوقف قاصد له.

        وأجيب: بعدم التسليم بالفارق; إذ إن الوقف في الغضب الذي يذهل عقله ويفقد به إرادته يترتب عليه عدم قصده; إذ لو كان قاصدا لما تم على فعله.

        2 - قوله تعالى: ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون .

        وجه الدلالة: أن الشر في هذه الآية هو قول الرجل لولده وماله إذا غضب عليه: « اللهم لا تبارك فيه والعنه »، فتجاوز الله عن الغضبان في هذه الآية دليل على عدم مؤاخذته على أقواله، ومنها وقفه. [ ص: 294 ]

        ونوقش: بعدم التسليم بمعنى الآية، وهو أن المراد به دعاء الرجل على ولده في حالة الغضب.

        والدليل على ذلك: أنه قد يجاب الدعاء وهو في هذه الحالة.

        (61 ) لما رواه مسلم من طريق عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم...، وفيه: عن جابر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ...لا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، ولا تدعوا على خدمكم، لا توافقوا من الله ساعة لا يسأل فيها شيئا إلا أعطاه »، ومعلوم أن الإنسان لا يدعو على خواصه إلا في حالة الغضب، فلو كان لا يقع لما ورد التحذير من ذلك.

        وأجيب: بأن هذا خاص في الغضب المتفق على نفاذه.

        3 - قوله تعالى: ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح .

        وجه الدلالة: أن التعبير بـ « سكت » بدلا من سكن فيه دلالة على أن الغضب سلطان، فلا إرادة ولا اختيار للإنسان عند حضوره، فإذا كان هذا حال الغضب فلا يؤاخذ الغضبان في وقفه فالأمر خارج عن إرادته ورضاه.

        ونوقش: بعدم التسليم بأن الغضب سلطان تنعدم معه الإرادة والاختيار; [ ص: 295 ] إذ لو كان الأمر كذلك لعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بترك الغضب ووصيته بعدمه من التكليف بما لا يطاق، وهذا منتف في شرع الله عز وجل.

        وأجيب من وجهين:

        الوجه الأول: عدم التسليم بأن تفسير الغضب بأنه سلطان يناقض نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغضب لما فيه من التكليف بما لا يطاق; إذ إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الغضب دفع لهذا السلطان وما يخلفه من حسرة وندامة، فنهيه صلى الله عليه وسلم قبل الغضب لا بعد تملكه على صاحبه.

        الوجه الثاني: لو سلم جدلا بأن القول بأنه سلطان يناقض نهي النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن هذا خاص بالغضب المتفق على نفاذه.

        4 - قوله تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم .

        وجه الدلالة: أن الغضب من نزغ الشيطان، فإنه يلجئه إلى ما لا يريده ولا يختاره، والدليل على ذلك:

        (62 ) ما رواه البخاري ومسلم من طريق عدي بن ثابت، عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ».

        فإذا كان الحال كذلك فيلزم عدم مؤاخذة العبد فيما يصدر منه حال غضبه، كالطلاق والظهار والوقف; لأنه في حكم المجبر على ذلك. [ ص: 296 ]

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: أن القول بعدم وقوع الوقف بحجة أنه من الشيطان يقتضي إسقاط الحدود والأحكام عن أصحابها; لأن إتيانها بنزغ من الشيطان، وهذا لا يقره شرع ولا عقل.

        ويمكن أن يجاب: بأنه مع التسليم بهذا المقتضى إلا أن تحقق هذا فيما لو أطلق القول بهذا في جميع الأحكام، فالقول به محصور في بعض المواضع.

        الوجه الثاني: أن نسبة العمل للشيطان من باب التنفير من هذا الأمر; لما سيخلفه من آثار الحسرة والندامة، لذلك أرشد الشارع إلى الوسائل المحصنة من الشيطان، دون أن ينفي مؤاخذة العبد على ما تجنيه جوارحه.

        ونوقش: بما نوقش به الوجه الأول.

        5 - حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ».

        وجه الدلالة: في هذا الحديث بيان أن مدار قبول الأعمال وعدمه على النية بشروطها التي من بينها أن تكون صادرة من عاقل مختار، فبناء على ذلك استنبط البخاري رحمه الله من هذا الحديث عدم وقوع طلاق الغضبان وكذا وقفه; لخروج الأمر عن رضاه واختياره. [ ص: 297 ]

        ونوقش: بأن النية لا بد أن تكون من عاقل مختار، وكلا الشرطين في الغضبان، فإن اختياره وعقله باقيان في حالة غضبه، فيلزم إدانته بما يصدر عنه.

        وأجيب: بأنه مع التسليم ببقاء عقله واختياره وقصده، إلا أن شدة غضبه قد أغلق عليه، فيعذر في أقواله.

        6 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ».

        وجه الدلالة: نفي النص صراحة الطلاق والعتق في حال الغضب، وكذا وقفه.

        اعترض عليه من وجوه:

        الوجه الأول: أنه ضعيف.

        الوجه الثاني: أن تفسير « الإغلاق » بمعنى الغضب محل خلاف بين العلماء، فقد فسر بمعنى الإكراه.

        وأجيب: بأنه مع التسليم بالخلاف في معنى «الغلق»، إلا أن هذا لا يمنع من إطلاقه أيضا على الغضب; لتساويهما في علة القهر والضيق والغلبة. [ ص: 298 ]

        الوجه الثالث: مع التسليم بأن معناه « الغضب» إلا أن المقصود به الغضب المتفق على عدم نفوذ أحكامه; لزوال العقل وإغلاقه بإغماء ونحوه.

        وأجيب: بأنه لو سلم جدلا بأنه خاص بالغضب المتفق على عدم نفاذ أحكامه، فإن ذلك لا يمنع من إلحاق الغضب الأدنى منه مرتبة به; وذلك لتساويهما في علة الضيق والغلق وذهول العقل، كالإكراه.

        (64 ) 3 - ما رواه الإمام أحمد من طريق محمد بن الزبير، عن الحسن، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا نذر في غضب، وكفارته كفارة اليمين ». [ ص: 299 ] [ ص: 300 ]

        ونوقش من وجوه:

        الوجه الأول: أن الحديث ضعيف، فلا تقوم به حجة.

        الوجه الثاني: أن عدم انعقاد نذر اللجاج والغضب محل خلاف بين العلماء، فلا يحتج به.

        الوجه الثالث: أن عدم إلزام الغضبان بنذره لعدم قصده النذر، فيكون حكمه حكم اليمين، والدليل على ذلك إلزامه بالكفارة، فلولا مؤاخذته على لفظه لما ألزم بها.

        وأجيب: بأن إيجاب الكفارة لا يقتضي ترتب موجب النذر، فالكفارة لا تستلزم التكليف، والدليل: وجوبها في مال من عفا الشارع عنهم كالصغير، والمجنون، والناسي، والمخطئ، فمن باب أولى إيجابها في النذر; وذلك لدفع الضرر الحاصل من عدم تنفيذ النذر.

        (65 ) 8 - ما رواه البخاري من طريق سعيد بن المسيب، ومسلم من طريق سالم مولى النصريين قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « اللهم إنما محمد بشر، يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته، أو سببته، أو جلدته، فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة ».

        وجه الدلالة: أن تأثير الغضب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم [ ص: 301 ] والمالك للفظه وتصرفه في حالة الرضا والغضب يدل على أن الغضب سلطان، فإذا كان هذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبه من ربه أن لا يؤاخذه، ويكون ما قاله كفارة لأمته، فمن باب أولى غير المعصوم من الغضب; وذلك لأن غضبه قد يلجئه إلى أمور عظام كالطلاق، والوقف، فمن الحكمة عدم مؤاخذته في هذه الحالة; لأنه في حكم المكره.

        ونوقش: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ من ربه العهد أن لا يؤاخذه، وأن يجعلها كفارة لأمته، ولعل الحكمة من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة بأمته للتكفير عنها، بخلاف الواقف في حالة الغضب، فإنه لم يعط وعدا بعدم المؤاخذة، بل الخلاف جار في ذلك.

        ويمكن أن يجاب: بأنه مع التسليم بالحكمة، إلا أن هذا لا يتعارض مع القول بعدم مؤاخذة الغضبان، بل يؤيده; وذلك أن التكفير والتجاوز عمن سبه وشتمه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع إغضابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعظم فعله، ومع ذلك يكفر عنه، فمن باب أولى التجاوز عن غيره، وخاصة أنه غالبا لم يتجرأ على إغضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لغضبه في هذه الحالة.

        (66 ) 9 - وقال البخاري: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: « الطلاق عن وطر، والعتق ما يبتغى به وجه الله ».

        وجه الدلالة: في هذا الأثر دلالة على عدم وقوع طلاق الغضبان; لأنه [ ص: 302 ] اشترط أن يكون الطلاق عن قصد من المطلق وتصور لما يقصده، فإن تخلف أحدهما لم يقع طلاقه، فشدة الغضب تمنعه من التثبت والتروي، وتخرجه من حال اعتداله فتلجئه إلى ما لا يرغبه ولا يرضاه فلا يقع طلاقه; لعدم خالص قصده وأمره، وكذا الوقف.

        10 - قياس الغضبان على السكران والمكره ; لتساويهما في علة عدم القصد والإرادة، حيث إن شدة الغضب تحول بينه وبين إرادته ونيته، فيصدر منه ما لا يريده ولا يقصده حقيقة ، فيسقط عنه حكمه للعلة ذاتها.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: أن القياس على المكره والسكران قياس مع الفارق; إذ الغضبان عقله باق بخلاف السكران، والمكره قد ضيق عليه الغير بخلاف السكران.

        وأجيب: بعدم التسليم بالفارق بينهما; إذ إن كليهما مكره، فالمكره مكره على عقده، والغضبان مكره على قصده وإرادته ليستريح من حرارة الغضب، يدل على ذلك ندمه وحسرته على فعله عند سكون غضبه، بل إنه أولى بعدم وقوع طلاقه وظهاره ووقفه من المكره; لانعدام حقيقة قصده ومراده.

        الوجه الثاني: أن الغضبان كالسكران; إذ إن كليهما حال دون النية.

        11 - أن العبرة بالمقاصد وما تكسبه القلوب وتريده، فالواقف في الغضب الشديد الحامل له التشفي وفض الغيظ وليس الرضا والقصد، بدليل [ ص: 303 ] ندمه بعد ذهاب غضبه.

        12 - أن العوارض النفسية من الأمور المعتبرة في الشرع; لما لها من أثر على تصرفات صاحبها وأقواله، كعارض النسيان، والخطأ، والخوف، والغضب، فيتكلم بما لا يقصد ولا يريد حقيقة أو حكما فيعذر دون غيره; لعدم محض قصده وإرادته ، بل إن الغضبان أولى من غيره في اعتباره هذه العوارض لعده من أبرز الأسباب في تفكك الأسرة، وزوال وحدتها.

        13 - أن ما ثبت بالإجماع لا يزول إلا بالإجماع، فالملك ثابت بالإجماع، فالأصل بقاؤه حتى يثبت ما يرفعه كليا أو جزئيا.

        ونوقش: بأنه مع التسليم بأن ما ثبت بالإجماع لا يزول إلا بالإجماع، إلا أن القول بالصحة، قال به جمهور العلماء رحمهم الله، فإجماع الجمهور يعد إجماعا، ولا يضر مخالفة الأقل من المجتهدين، والدليل على ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لما استخلفوا أبا بكر رضي الله عنه انعقدت خلافته بإجماع الحاضرين، مع غياب عدد من الصحابة رضي الله عنهم، في بعض الأمصار.

        وأجيب: بعدم التسليم بأن إجماع الجمهور يعد إجماعا، فإذا خالف الجمهور واحد من المجتهدين لم ينعقد الإجماع; إذ إن المعتبر في الإجماع قول جميع الفقهاء، فإذا تحقق وإلا انعدم الإجماع. [ ص: 304 ]

        ورد عليه: بعدم التسليم بأن الإجماع قول جميع الفقهاء; إذ إن مخالفة الأقل أو الواحد شذوذ، والشاذ لا حكم له عند وجود من هو أقوى منه.

        وأجيب: بأن الإجماع المعتبر عند الأصوليين هو اتفاق مجتهدي أمة محمد.

        أدلة القول الثاني: (صحة الوقف ) :

        استدل القائلون بصحة وقف الغضبان بما يلي:

        (67 ) 1 - ما رواه مسلم من طريق أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله لهم الحملان إذ هم معه في جيش العسرة (وهي غزوة تبوك ) ، فقلت: يا نبي الله إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: « والله لا أحملكم على شيء »، ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، فرجعت حزينا من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن مخافة أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد في نفسه علي، فرجعت إلى أصحابي، فأخبرتهم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ألبث إلا سويعة، إذ سمعت بلالا ينادي: أي عبد الله بن قيس! فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « خذ هذين القرينين، وهذين القرينين، وهذين القرينين » لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد « فانطلق بهن إلى أصحابك، فقل: إن الله (أو قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يحملكم على هؤلاء فاركبوهن ».

        (68 ) 2 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة؟ فقال: [ ص: 305 ] « عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه » فقال: يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال: « خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب »، قال: يا رسول الله فضالة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، أو احمر وجهه، ثم قال: « ما لك ولها؟! معها حذاؤها، وسقاؤها، حتى يلقاها ربها ».

        (69 ) 3 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن شهاب، عن عروة بن الزبير أنه حدثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج من الحرة، يسقي بها النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اسق يا زبير - فأمره بالمعروف - ثم أرسل إلى جارك »، فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك؟! فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: « اسق ثم احبس، حتى يرجع الماء إلى الجدر، واستوعى له حقه » فقال الزبير: والله إن هذه الآية أنزلت في ذلك:

        [ ص: 306 ] فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم
        .

        (70 ) 4 - قال البخاري: وقال الأعمش: عن تميم، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، فأنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها .

        وجه الدلالة من هذه الأدلة: أن وجود الغضب في هذه الحوادث لم يمنع من اعتبار الأحكام بها، فدل على مؤاخذة الغضبان، فإذا نفذت أحكامه نفذت سائر أقواله، ومنها الوقف.

        ونوقش: بأن الغضب المتحقق في هذه الحوادث هو المتفق عليه بين الفقهاء - رحمهم الله - على نفاذه واعتبار أحكامه.

        (71 ) 5 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كتب أبي وكتبت له إلى عبيد الله بن أبي بكرة وهو قاضي بسجستان أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان ». [ ص: 307 ]

        وجه الدلالة: أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم للقاضي عن الحكم بين الخصمين وهو غضبان دليل على نفاذ حكمه; لذلك ورد النهي خشية أن يخرجه غضبه عن سداد النظر وعدالة القضاء فيقضي بغير الحق، فيهلك ويهلك غيره.

        ونوقش: بأن النهي يقتضي فساد القضاء، فإذا لم يصح قضاؤه في الغضب، فلا اعتبار لحكمه.

        وأجيب: بأن النهي لا يقتضي الفساد مطلقا، فقد ورد النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة، والبيع بعد النداء الثاني من يوم الجمعة مع صحة الصلاة والبيع، فالنهي إما للتحريم أو للكراهة، لتفويت فضيلة أو دفع مضرة، أو للاحتياط; كالنهي عن القضاء حال الغضب، وإلا فالقضاء صحيح، فقد قضى صلى الله عليه وسلم شراج الحرة مع غضبه في تلك الحالة، فدل على نفوذ الأحكام في الغضب.

        ورد عليه: بعدم التسليم بأن النهي لا يقتضي الفساد إلا ما قام الدليل على عدم اقتضائه لذلك; لوجود قرينة تصرفه عن معناه الحقيقي، ففي هذه الحالة يخصص النهي حسب ما اقتضاه الدليل.

        (72 ) 6 - ما رواه البخاري من طريق أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: « لا تغضب » فردد مرارا قال: « لا تغضب » [ ص: 308 ] وجه الدلالة: أن وصية النبي صلى الله عليه وسلم للرجل بعدم الغضب، وتأكيده ذلك، دليل على مؤاخذة الإنسان على نتائج غضبه، وإلا لما أوجز الرسول صلى الله عليه وسلم سؤال السائل بهذه الكلمة دون غيرها.

        يمكن أن يناقش من وجهين:

        الوجه الأول: عدم التسليم بأن النهي عن الغضب دليل على مؤاخذة صاحبه، وإنما لاعتبار الغضب جماع الشر; إذ إنه للأخلاق بمنزلة القلب للجسد، فاستحب التحرز منه.

        الوجه الثاني: لو سلم جدلا بمؤاخذة العبد على غضبه، فإن هذا خاص بالغضب المتفق على مؤاخذة صاحبه عليه.

        3 - عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ...لا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، ولا تدعوا على خدمكم، لا توافقوا من الله ساعة لا يسأل فيها شيئا إلا أعطاه ».

        (74 ) 8 - ما رواه مسلم من طريق أبي المهلب، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت، فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة». قال عمران: «فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد».

        وجه الدلالة من الدليلين: أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعاء في الحديث [ ص: 309 ] الأول، وهجره للناقة الملعونة، دليل على إجابة الدعاء وقت الغضب; إذ إن الدعاء لا يصدر في الغالب إلا في حالة الغضب، فإذا أوخذ الغضبان على دعائه حوسب على طلاقه، ووقفه، ونحو ذلك.

        ونوقش: بعدم التسليم بأن الدعاء لا يصدر إلا في حالة الغضب، وأن هجر النبي صلى الله عليه وسلم دليل إجابة الدعاء; إذ إن الدعاء يندر في حالة الغضب وعدمه، وعلى ذلك هجر النبي صلى الله عليه وسلم الناقة الملعونة من باب التأديب والتربية لصحابته رضي الله عنهم بالترفع عن ما حرم من الأقوال، وخاصة ما عظم منها كاللعن.

        (75 ) 9 - ما رواه الدارقطني من طريق سيف، عن مجاهد قال: جاء رجل من قريش إلى ابن عباس فقال: يا ابن عباس إني طلقت امرأتي ثلاثا وأنا غضبان، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: « لا أستطيع أن أحل لك ما حرم الله عليك، عصيت ربك وحرمت عليك امرأتك ». [ ص: 310 ] [ ص: 311 ]

        وجه الدلالة: أن إمضاء ابن عباس رضي الله عنهما لطلاق الرجل بالرغم من صدوره في حالة الغضب دليل على صحة طلاق الغضبان، وكذا وقفه.

        ونوقش: بأنه مع التسليم بصحة الأثر بلفظه، فإن المراد به الغضب المتفق على وقوعه.

        10 - الإجماع على أنه لم يقل أحد بالتصريح بعدم الوقوع، فالقول بخلافه يعد خرقا للإجماع.

        ونوقش: بأن القول بالإجماع مردود، فالمسألة محل خلاف بين العلماء.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - القول الأول القائل بعدم صحة الوقف في حالة الغضب الشديد الذي يفقد الإنسان سيطرته على نفسه، ولا يستطيع إمساكها مع بقاء عقله; وذلك لقوة دليلهم، ومناقشة دليل القول الثاني، ولأن الأصل براءة الذمة من الواقف، وبقاء الملك .

        الأمر السابع: وقف النائم، والمغمى عليه:

        النائم والمغمى عليه لا يصح وقفهما باتفاق الأئمة الأربعة.

        لما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثة:.. وعن النائم حتى يستيقظ..»، والمغمى عليه ملحق بالنائم. [ ص: 312 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية