الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      التحصيل لفوائد كتاب التفصيل الجامع لعلوم التنزيل

                                                                                                                                                                                                                                      المهدوي - أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير :

                                                                                                                                                                                                                                      تقدم ما في قوله : {طه} من التفسير الجامع لحروف التهجي التي في أوائل السور ، وجاء في { طه } زيادة عليه ، من ذلك قول ابن عباس : {طه} : يا رجل ؛ بالنبطية ، وقيل : إنها لغة معروفة في عك ، قال الشاعر : [من البسيط ] .


                                                                                                                                                                                                                                      إن السفاهة طه من شمائلكم لا بارك الله في القوم الملاعين

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر : [من الطويل ]


                                                                                                                                                                                                                                      هتفت بطه في القتال فلم يجب     فخفت عليه أن يكون موائلا

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك قال الحسن : [معنى {طه} : يا رجل ] ، وقاله عكرمة ، وقال : هو بالسريانية كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 293 ] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لي عند ربي عشرة أسماء . . . " ، فذكر أن منها : {طه} و {يس} .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إن معنى {طه} : طأ الأرض ؛ فالهاء والألف ضمير الأرض ؛ والمعنى : طأ الأرض برجليك في صلاتك ، فالألف فيها بدل من همزة .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي : أن بعض القراء قرأ : {طه} ؛ فالهاء على هذا يجوز أن تكون ضمير المكان ؛ والمعنى : طأ المكان ؛ وأبدلت الهمزة ألفا قبل الأمر ، ثم حذفت للأمر ، أو يكون الأصل : (طأ ) ؛ بمعنى : طأ الأرض ، ثم أبدلت الهمزة هاء ؛ كما قالوا : (إياك ، وهياك ) ، أو يكون أبدل من الهمزة الألف ، ثم حذفت الألف ؛ لدلالة الفتحة عليها ، وجيء بهاء السكت ، وإذا كانت الهاء كناية عن المكان ؛ فالقول في إسكانها كالقول في إسكان {يؤده} [آل عمران : 75 ] ، و {نؤته} [آل عمران : 145 ] ، وهو مذكور في باب هاء الكناية .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قال : إن ما بعد {ألم} وشبهها من حروف التهجي خبر عنها ؛ لم يسغ له ذلك في {طه} ؛ لأن ما بعدها نفي .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن جعل معنى {طه} : يا رجل ؛ لم يقف على {طه} ؛ لأن النداء تنبيه على ما بعده ، ومن جعلها افتتاحا ، أو على وجه من الوجوه المذكورة في [ ص: 294 ] (البقرة ) ؛ وقف عليها ، إلا في قول من جعلها قسما ؛ فإنه لا يقف عليها ؛ لأن قوله : ما أنـزلنا عليك القرآن لتشقى جواب القسم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ما أنـزلنا عليك القرآن لتشقى {إلا تذكرة لمن يخشى : قال مجاهد ، وقتادة : هذا في الصلاة ، قيل له ذلك ؛ لما كان يلقاه من التعب في قيام الليل .

                                                                                                                                                                                                                                      الضحاك : كانوا يقومون حتى تنشق أقدامهم ، فقال المشركون : ما أنزل هذا القرآن إلا للشقاء ، فنزلت الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : تنـزيلا ممن خلق الأرض أي : نزله تنزيلا .

                                                                                                                                                                                                                                      [وتقدم القول في معنى استواء الرحمن عز وجل على العرش ، وأنه تعالى مستو على عرشه بغير حد ، ولا تكييف ، كما يكون استواء المخلوقين .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي : أن رجلا سأل مالكا رحمه الله عن ذلك ، فقال : الاستواء منه غير مجهول ، والكيف منه غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وإني أخاف أن تكون ضالا ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : وما تحت الثرى : قال محمد بن كعب : يعني : الأرض السابعة .

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس : الأرض على نون ، ونون على البحر ، والبحر على صخرة خضراء ، وهي التي قال الله فيها : فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض [لقمان : 16 ] ، والصخرة على قرن ثور ، والثور على الثرى ، ولا يعلم ما تحت الثرى [ ص: 295 ] إلا الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وهب بن منبه : على وجه الأرض سبعة أبحر ، والأرضون سبع ، وبين كل أرضين بحر ، فالبحر الأسفل مطبق على شفير جهنم ، ولولا عظمه ، وكثرة مائه ، وبرده ؛ لأحرقت جهنم كل ما عليها ، قال : وجهنم على متن الريح ، ومتن الريح على حجاب من ظلمة ، لا يعلم غلظه إلا الله عز وجل ، وذلك الحجاب على الثرى ، وإلى الثرى انتهى علم الخلائق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى : قال ابن عباس : {السر} : ما حدث به الإنسان غيره في خفاء ، و {أخفى} منه : ما أضمر في نفسه مما لم يحدث به غيره .

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة ، وغيره : {السر} : ما أضمره الإنسان في نفسه ، و {أخفى} منه : ما لم يكن ، ولا أضمره أحد .

                                                                                                                                                                                                                                      ابن زيد : {السر} : سر الخلائق ، و {أخفى} منه : سره عز وجل ، وأنكر ذلك الطبري .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إن الذي هو أخفى : ما ليس في سر الإنسان ، وسيكون في نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 296 ] وقوله : فإنه يعلم السر وأخفى : محمول على معنى ما تقدم ؛ كأنه قال : ما حاجتك إلى الجهر بالقول والله يعلم السر وأخفى منه ؟ ! وقوله : الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لله تسعة وتسعون اسما ، من أحصاها دخل الجنة " ، وقد ذكرتها في "الكبير " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا الآية :

                                                                                                                                                                                                                                      هذا حين قضى الأجل ، وسار بأهله ، فرأى النار ، فيما روي ، وهي في شجرة من العليق ، فقصدها ، فتأخرت عنه ، فرجع ، وأوجس في نفسه خيفة ، ثم دنت منه ، وكلمه الله عز وجل من الشجرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : إني آنست نارا أي : وجدتها ، وعلمت مكانها .

                                                                                                                                                                                                                                      لعلي آتيكم منها بقبس : (القبس ) : ما أخذ في طرف قصبة أو فتيلة .

                                                                                                                                                                                                                                      أو أجد على النار هدى يعني : من يدله على الطريق ، وكان قد ضل عنها ، عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : إنك بالواد المقدس طوى : قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما : {طوى} : اسم الوادي ، وعنه أيضا : قيل له : {طوى} ؛ لأن موسى طواه بالليل ؛ إذ مر به ، فارتفع إلى أعلى الوادي ، فهو مصدر عمل فيه ما ليس من لفظه ؛ كأنه قال : إنك بالوادي الذي طويته طوى ؛ أي : تجاوزته ، فطويته بسيرك .

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن : معناه : أنه قدس مرتين ، فهو مصدر من (طويته طوى ) أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 297 ] وقوله : إن الساعة آتية أكاد أخفيها : قال ابن عباس : المعنى : أكاد أخفيها في نفسي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد ، وابن جبير : أكاد أخفيها من نفسي ، وهذا محمول على أنه جاء على ما جرت به عادة العرب في كلامها من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال : (كدت أخفيه من نفسي ) ، والله تعالى لا يخفى عليه شيء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : معنى قول من قال : (أكاد أخفيها من نفسي ) ؛ أي : من قبلي ، ومن عندي .

                                                                                                                                                                                                                                      ابن زيد : {أكاد} بمعنى : أريد ؛ فالمعنى : أريد سترها ؛ لتجزى كل نفس بما تسعى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إن تمام الكلام {أكاد} ؛ والمعنى : أكاد آتي بها ، ثم ابتدأ : {أخفيها} ؛ أي : ولكني أخفيها ؛ لتجزى كل نفس بما تسعى ، ودل {آتية} على (آتي ) .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو عبيدة : (أخفى ) و (خفى ) بمعنى : أظهر ، وهو من الأضداد .

                                                                                                                                                                                                                                      أبو علي : هذا من باب السلب ، وليس من الأضداد ، ومعنى {أخفيها} : أزيل عنها خفاءها ؛ وهو سترها ؛ كخفاء القربة ، ونحوها ، وإذا زال عنها سترها ؛ ظهرت .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 298 ] وحكى أبو حاتم عن الأخفش : أن {أكاد} زائدة ، قال : ومثله : إذا أخرج يده لم يكد يراها [النور : 40 ] ، وروي معناه أيضا عن ابن جبير .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : {فتردى} ؛ معناه : فتهلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وما تلك بيمينك يا موسى : هذا سؤال يراد به التنبيه على المعجزة .

                                                                                                                                                                                                                                      الفراء : {تلك} بمعنى : (هذه ) .

                                                                                                                                                                                                                                      الزجاج : هي موصولة ؛ والمعنى : وما التي بيدك يا موسى ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      ويروى : أن عصا موسى هي التي هبط بها آدم من الجنة ، وأنها من ورق آس ، من أحد الخطوط المستطيلة في وسط الورقة ، وأن طولها اثنا عشر ذراعا بذراعموسى عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وأهش بها على غنمي أي : أضرب بها الشجر ؛ لتسقط الورق ؛ والمعنى : أهش بها الورق على غنمي ، قال الضحاك ، وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ولي فيها مآرب أخرى أي : حوائج ، عن مجاهد ، وغيره ، واحدتها : (مأربة ) ؛ بضم الراء وفتحها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : قال ألقها يا موسى : أمره عز وجل أن يلقيها ؛ ليريه آيتها ، فيأنس بها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : سنعيدها سيرتها الأولى أي هيئتها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 299 ] وقوله : واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء : قال مجاهد : (جناحه ) : عضده ، وقيل : (الجناح ) ههنا : الجيب ، وقيل : معناه : إلى عندك .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى من غير سوء : من غير برص ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما ، وروي : أنها خرجت نورية مخالفة للونه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : قال رب اشرح لي صدري أي : اشرحه لطاعتك .

                                                                                                                                                                                                                                      ويسر لي أمري أي : سهله .

                                                                                                                                                                                                                                      واحلل عقدة من لساني يعني : العجمة التي كانت فيه من جمرة النار التي ألقاها في فيه وهو طفل ، إذ أخذ بلحية فرعون ، فنتفها ، فهم بقتله ، فقالت له امرأته : إنه لا يعقل ، وقربت إليه نارا ، فألهمه الله عز وجل أن أخذ الجمرة منها ، فطرحها في فيه ؛ لتخلصه بذلك من فرعون .

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال : إن الحبسة التي كانت في لسانه أزيلت ؛ بدليل قوله تعالى : قال قد أوتيت سؤلك يا موسى [طه : 36 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : لم تزل كلها ؛ بدلالة قوله حكاية عن فرعون : ولا يكاد يبين [الزخرف : 52 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 300 ] وقوله : واجعل لي وزيرا من أهلي} أي : صاحبا ألجأ إليه ، وهو مشتق من (الوزر ) ؛ وهو الجبل .

                                                                                                                                                                                                                                      اشدد به أزري أي : ظهري ؛ أي : قوتي ، خص الظهر ؛ لأن القوة فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأشركه في أمري أي : في النبوة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : قال قد أوتيت سؤلك أي : طلبتك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : إذ أوحينا إلى أمك أي : ألهمناها ، ألهمت أن جعلته في تابوت ، وطرحته في النيل ، فرآه فرعون ، فأمر بأخذه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : وجدته ابنة فرعون ، وكانت برصاء ، فلما فتحت التابوت ؛ شفيت .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : وجده جوار لامرأة فرعون .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وألقيت عليك محبة مني : قيل : إنه حببه إلى فرعون ، وقيل : إلى امرأة فرعون ، وقيل : إلى كل من رآه .

                                                                                                                                                                                                                                      عكرمة : المعنى : جعلت فيك حسنا وملاحة ، فلا يراك أحد إلا أحبك .

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة : المعنى : جعلت في عينيك ملاحة ، فلا يراك أحد إلا أحبك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ولتصنع على عيني : قال قتادة : أي : ولتغذى على محبتي وإرادتي ؛ [ ص: 301 ] والمعنى : ولتصنع على عيني فعلت ذلك بك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : اللام متعلقة بما بعدها من قوله : إذ تمشي أختك ؛ على التقديم والتأخير ؛ فـ {إذ} : ظرف للصنع .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إن الواو في {ولتصنع} زائدة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وفتناك فتونا أي : اختبرناك اختبارا ، عن ابن عباس ، وغيره ، قال : و (الفتون ) : إلقاؤه في البحر ، وهم فرعون بقتله ، وقتله النفس ، وخروجه خائفا يترقب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ثم جئت على قدر يا موسى أي : قدر النبوة والرسالة ، عن قتادة ؛ أي : على قدر من الرسالة والتكليم .

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد : على قدر : على وعد ، وحقيقة المعنى : جئت في الوقت الذي أردنا إرسالك فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      ويروى : أنه لبث في أهل مدين أتم الأجلين ؛ وهو عشر سنين .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية