الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              2035 [ ص: 255 ] باب الإهلال حين تنبعث الراحلة

                                                                                                                              وقال النووي : ( باب بيان أن الأفضل، أن يحرم حين تنبعث به راحلته، متوجها إلى مكة . لا عقب الركعتين).

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 93 - 94 ج8 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عبيد بن جريج؛ أنه قال لعبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) يا أبا عبد الرحمن! رأيتك تصنع أربعا، لم أر أحدا من أصحابك يصنعها.

                                                                                                                              قال: ما هن يا ابن جريج؟

                                                                                                                              قال: رأيتك لا تمس من الأركان، إلا اليمانيين.

                                                                                                                              ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة، أهل الناس إذا رأوا الهلال، ولم تهلل أنت حتى يكون يوم التروية. فقال عبد الله بن عمر: أما الأركان، فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين. وأما النعال السبتية، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر. ويتوضأ فيها. فأنا أحب أن ألبسها.

                                                                                                                              وأما الصفرة، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها. فأنا أحب أن أصبغ بها.

                                                                                                                              [ ص: 256 ] وأما الإهلال، فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل، حتى تنبعث به راحلته
                                                                                                                              ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن عبيد بن جريج ، أنه قال لعبد الله بن عمر "رضي الله عنهما": يا أبا عبد الرحمن ! رأيتك تصنع أربعا، لم أر أحدا من أصحابك يصنعها) .

                                                                                                                              قال المازري : يحتمل أن مراده: لا يصنعها غيرك مجتمعة، وإن كان يصنع بعضها.

                                                                                                                              (قال: ما هن يا ابن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين) . هما بتخفيف الياء. هذه اللغة الفصيحة المشهورة.

                                                                                                                              وحكى سيبويه وغيره من الأئمة تشديدها في لغة قليلة.

                                                                                                                              والصحيح التخفيف. قالوا: لأن نسبته إلى اليمن ، فحقه أن يقال: اليمني. وهو جائز. فلما قالوا: (اليماني) ، أبدلوا من إحدى ياءي النسب (ألفا). فلو قالوا: (اليماني) بالتشديد، لزم منه الجمع بين البدل والمبدل.

                                                                                                                              والذين شددوها، قالوا: هذه الألف زائدة. وقد تزاد في النسب. [ ص: 257 ] كما قالوا في النسب إلى (صنعا): صنعاني. فزادوا النون الثانية. وإلى (الري): رازي. فزادوا (الزاي). وإلى (الرقبة): رقباني. فزادوا النون.

                                                                                                                              والمراد بالركنين اليمانيين : الركن اليماني. والركن الذي فيه الحجر الأسود.

                                                                                                                              ويقال له: (العراقي). لكونه إلى جهة العراق. وقيل: الذي قبله: (اليماني). لأنه إلى جهة (اليمن).

                                                                                                                              ويقال لهما: (اليمانيان) ، تغليبا لأحد الاسمين. كما قالوا: (الأبوان) للأب والأم. (والقمران) للشمس والقمر. (والعمران) لأبي بكر وعمر (رضي الله عنهما).

                                                                                                                              ونظائره مشهورة. فتارة يغلبون بالفضيلة، (كالأبوين). وتارة بالخفة، (كالعمرين). وتارة بغير ذلك.

                                                                                                                              وقد بسطه النووي ، في (تهذيب الأسماء واللغات). (ورأيتك، تلبس النعال السبتية) . بكسر السين وإسكان الباء الموحدة.

                                                                                                                              وقد أشار ( ابن عمر ) إلى تفسيرها، بقوله الآتي: (التي ليس فيها شعر).

                                                                                                                              وهكذا قال جماهير أهل اللغة، وأهل الغريب، وأهل الحديث: إنها التي لا شعر فيها.

                                                                                                                              [ ص: 258 ] قالوا: وهي مشتقة من (السبت). بفتح السين. وهو الحلق والإزالة. ومنه قولهم: (سبت رأسه). أي: حلقه.

                                                                                                                              قال الهروي : وقيل: سميت بذلك، لأنها انسبتت بالدباغ. أي: لانت. يقال: رطبة منسبتة. أي: (لينة).

                                                                                                                              قال أبو عمرو الشيباني : (السبت): كل جلد مدبوغ.

                                                                                                                              وقال أبو زيد: (السبت) جلود البقر. مدبوغة كانت أو غير مدبوغة.

                                                                                                                              وقيل: هو نوع من الدباغ، يقلع الشعر.

                                                                                                                              وقال ابن وهب: النعال السبتية، كانت سودا لا شعر فيها.

                                                                                                                              قال عياض : وهذا ظاهر كلام ( ابن عمر ) ، في قوله: النعال التي ليس فيها شعر. وهذا لا يخالف ما سبق. فقد تكون سودا مدبوغة بالقرظ، لا شعر فيها. لأن بعض المدبوغات يبقى شعرها. وبعضها لا يبقى.

                                                                                                                              قال: وكانت عادة العرب لباس النعل بشعرها، غير مدبوغة. وكانت المدبوغة تعمل بالطائف وغيره. وإنما كان يلبسها أهل الرفاهية، كما قال شاعرهم:


                                                                                                                              تحذى نعال السبت ليس بتوأم



                                                                                                                              قال عياض : والسين في جميع هذه مكسورة.

                                                                                                                              قال: والأصح عندي: أن يكون اشتقاقها، وإضافتها: إلى [ ص: 259 ] (السبت) الذي هو الجلد المدبوغ. أو إلى (الدباغة). لأن السين مكسورة في نسبتها.

                                                                                                                              ولو كانت من (السبت) الذي هو الحلق، كما قاله الأزهري وغيره، لكانت النسبة: (سبتية)، بفتح السين. ولم يروها أحد في هذا الحديث ولا في غيره، ولا في الشعر، فيما علمت إلا بالكسر. هذا كلام القاضي.

                                                                                                                              (ورأيتك تصبغ بالصفرة) بضم الباء، وفتحها. لغتان مشهورتان، حكاهما الجوهري وغيره.

                                                                                                                              قال المازري : المراد صبغ الشعر. وقيل: صبغ الثوب..

                                                                                                                              قال: والأشبه: أن يكون المراد صبغ الثياب. لأنه أخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم – صبغ . ولم ينقل عنه أنه صبغ شعره.

                                                                                                                              قال عياض : هذا أظهر الوجهين، وإلا فقد جاءت آثار عن ابن عمر ، بين فيها تصفير ابن عمر لحيته . واحتج: (بأن النبي -صلى الله عليه وسلم - كان يصفر لحيته بالورس والزعفران) . رواه أبو داود .

                                                                                                                              وذكر أيضا في حديث آخر احتجاجه: (بأن النبي -صلى الله عليه وسلم -، كان يصبغ بها ثيابه حتى عمامته) .

                                                                                                                              [ ص: 260 ] (ورأيتك إذا كنت بمكة ، أهل الناس إذا رأوا الهلال. ولم تهلل أنت حتى يكون يوم التروية ) بالتاء، وهو: (الثامن من ذي الحجة). سمي بذلك، لأن الناس كانوا يتروون فيه من الماء. أي يحملونه معهم من مكة إلى عرفات ، ليستعملوه في الشرب وغيره.

                                                                                                                              (فقال عبد الله بن عمر : أما الأركان، فإني لم أر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمس إلا اليمانيين) . تقدم الكلام على ذلك.

                                                                                                                              قال أهل العلم: ويقال للركنين الأخيرين، اللذين يليان (الحجر) بكسر الحاء: (الشاميان). فلهذا لم يستلما. واستلم اليمانيان، لبقائهما على قواعد إبراهيم عليه السلام.

                                                                                                                              ثم إن (العراقي) من اليمانيين، اختص بفضيلة أخرى، وهي (الحجر الأسود). فاختص لذلك (مع الاستلام) بتقبيله، ووضع الجبهة عليه. بخلاف (اليماني).

                                                                                                                              قال عياض : وقد اتفق أئمة الأمصار والفقهاء اليوم، على أن الركنين الشاميين لا يستلمان . وإنما كان الخلاف في ذلك في العصر الأول، من بعض الصحابة وبعض التابعين، ثم ذهب.

                                                                                                                              (وأما النعال السبتية، فإني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال، التي ليس فيها شعر. ويتوضأ فيها. فأنا أحب أن ألبسها) .

                                                                                                                              تقدم الكلام في تحقيق (النعال السبتية) قريبا، فراجع.

                                                                                                                              [ ص: 261 ] "وفيه": جواز الوضوء في النعال والصلاة فيها ، كما ثبت في حديث آخر.

                                                                                                                              (وأما "الصفرة"، فإني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها، فأنا أحب أن أصبغ بها) . سبق تفسير ذلك.

                                                                                                                              (وأما الإهلال، فإني لم أر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يهل، حتى تنبعث به راحلته) .

                                                                                                                              قال المازري : أجابه ( ابن عمر ) بضرب من القياس. حيث لم يتمكن من الاستدلال بنفس فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، على المسألة بعينها. فاستدل بما في معناه.

                                                                                                                              ووجه قياسه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم - إنما أحرم عند الشروع في أفعال الحج والذهاب إليه. فأخر ابن عمر (الإحرام) إلى حال شروعه في الحج، وتوجهه إليه. وهو (يوم التروية). فإنهم حينئذ يخرجون من مكة إلى منى .

                                                                                                                              ووافق ( ابن عمر ) على هذا: الشافعي وأصحابه، وبعض أصحاب مالك ، وغيرهم.

                                                                                                                              وقال آخرون: الأفضل: أن يحرم من أول ذي الحجة . ونقله عياض عن أكثر الصحابة والتابعين.

                                                                                                                              والخلاف في الاستحباب. وكل منهما جائز بالإجماع.




                                                                                                                              الخدمات العلمية