الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              2159 باب الهدي في المتعة

                                                                                                                              وقال النووي : ( باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع).

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 208 - 210 ج 8 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث. حدثني أبي ، عن جدي. حدثني عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب، ، عن سالم بن عبد الله؛ أن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج. وأهدى. فساق معه الهدي من ذي الحليفة. وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة. ثم أهل بالحج. وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج. فكان من الناس من أهدى فساق الهدي. ومنهم من لم يهد. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، قال للناس: "من كان منكم أهدى، فإنه لا يحل من شيء حرم منه، حتى يقضي حجه. ومن لم يكن منكم أهدى، فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة. وليقصر. وليحلل. ثم ليهل بالحج وليهد. فمن لم يجد هديا، فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله".

                                                                                                                              [ ص: 306 ] وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة. فاستلم الركن أول شيء. ثم خب ثلاثة أطواف من السبع. ومشى أربعة أطواف. ثم ركع (حين قضى طوافه بالبيت) عند المقام ركعتين. ثم سلم فانصرف. فأتى الصفا، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف. ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض: فطاف بالبيت. ثم حل من كل شيء حرم منه.

                                                                                                                              وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهدى وساق الهدي من الناس
                                                                                                                              ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج. وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة . وبدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة. ثم أهل بالحج . وتمتع الناس مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج) .

                                                                                                                              قال عياض : قوله: (تمتع) ، محمول على (التمتع) اللغوي. وهو القران آخرا.

                                                                                                                              [ ص: 307 ] ومعناه: أحرم أولا بالحج مفردا. ثم أحرم بالعمرة. فصار قارنا في آخر أمره.

                                                                                                                              (والقارن): هو متمتع من حيث المعنى. لأنه ترفه باتحاد الميقات والإحرام والفعل.

                                                                                                                              قال النووي : ويتعين هذا التأويل هنا، للجمع بين الأحاديث في ذلك. ومن روى إفراد حج النبي -صلى الله عليه وسلم -: ( ابن عمر ). وذكره مسلم بعد هذا.

                                                                                                                              قال: وقوله: (بدأ فأهل بالعمرة) : محمول على التلبية في أثناء الإحرام. وليس المراد: أنه أحرم في أول أمره بعمرة. ثم أحرم بحج. لأنه يفضي إلى مخالفة الأحاديث. فوجب تأويل هذا على موافقتها.

                                                                                                                              ويؤيد هذا التأويل قوله: (وتمتع الناس إلخ) . ومعلوم: أن كثيرا منهم أو أكثرهم، أحرموا بالحج أولا مفردا. وإنما فسخوه إلى العمرة آخرا، فصاروا متمتعين.

                                                                                                                              والمعنى: تمتع الناس في آخر الأمر. والله أعلم.

                                                                                                                              (فكان من الناس من أهدى فساق الهدي. ومنهم من لم يهد. فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - مكة ، قال للناس: "من كان منكم أهدى، فإنه لا يحل من شيء حرم منه، حتى يقضي حجه) .

                                                                                                                              وفيه: صريح ترجمة الباب.

                                                                                                                              [ ص: 308 ] (ومن لم يكن منكم أهدى، فليطف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، وليقصر وليحلل) .

                                                                                                                              أي: يفعل الطواف، والسعي، والتقصير. وقد صار حلالا.

                                                                                                                              وهذا دليل على: أن التقصير، والحلق، نسك من مناسك الحج .

                                                                                                                              قال النووي : وهذا هو الصحيح في مذهبنا. وبه قال جماهير العلماء.

                                                                                                                              وقيل: إنه استباحة محظور، وليس بنسك. وهذا ضعيف.

                                                                                                                              وإنما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بالتقصير، ولم يأمر بالحلق (مع أن الحلق أفضل) ، ليبقى له شعر يحلقه في الحج. فإن الحلق في تحلل الحج أفضل منه في تحلل العمرة.

                                                                                                                              (ثم ليهل بالحج) .

                                                                                                                              أي: يحرم به في وقت الخروج إلى عرفات، لا أنه يهل عقب تحلل العمرة. ولهذا أتى (بثم) التي هي للتراخي والمهلة.

                                                                                                                              (وليهد).

                                                                                                                              المراد به: هدي (التمتع). وهو واجب بشروط اتفق الشافعية على أربعة منها. واختلفوا في ثلاثة.

                                                                                                                              أحد الأربعة: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.

                                                                                                                              [ ص: 309 ] الثاني: أن يحج من عامه.

                                                                                                                              الثالث: أن يكون أفقيا، لا من حاضري المسجد الحرام .

                                                                                                                              (وحاضروه: أهل الحرم . ومن كان منه على مسافة، لا تقصر فيها الصلاة).

                                                                                                                              الرابع: أن لا يعود إلى (الميقات) ، لإحرام الحج.

                                                                                                                              وأما (الثلاثة) فأحدها: نية التمتع.

                                                                                                                              والثاني: كون الحج والعمرة في سنة، في شهر واحد.

                                                                                                                              الثالث: كونها عن شخص واحد.

                                                                                                                              والأصح: أن هذه الثلاثة لا تشترط. قاله النووي.

                                                                                                                              وأما قوله -صلى الله عليه وسلم -: (فمن لم يجد هديا، فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله) : فالمراد: لم يجد الهدي هناك، إما لعدم الهدي، وإما لعدم ثمنه، وإما لكونه يباع بأكثر من ثمن المثل، وإما لكونه موجودا لكنه لا يبيعه صاحبه.

                                                                                                                              ففي كل هذه الصور: يكون عادما للهدي. فينتقل إلى الصوم، سواء كان واجدا لثمنه في بلده أم لا.

                                                                                                                              [ ص: 310 ] وهذا موافق لنص كتاب الله تعالى.

                                                                                                                              ويجب صوم هذه الثلاثة، قبل يوم النحر .

                                                                                                                              ويجوز صوم يوم عرفة منها . لكن الأولى، أن يصوم الثلاثة قبله. والأفضل: أن لا يصومها، حتى يحرم بالحج بعد فراغه من العمرة.

                                                                                                                              فإن صامها بعد فراغه من العمرة، وقبل الإحرام بالحج، أجزأه على المذهب الصحيح عند الشافعية .

                                                                                                                              وإن صامها بعد الإحرام بالعمرة، وقبل فراغها، لم يجزه على الصحيح.

                                                                                                                              فإن لم يصمها قبل يوم النحر، وأراد صومها في أيام التشريق، ففي صحته قولان للشافعي ، وأشهرهما في المذهب: أنه لا يجوز. وأصحهما من حيث الدليل: جوازه.

                                                                                                                              قال النووي : هذا تفصيل مذهبنا. ووافقنا أصحاب مالك في أنه: لا يجوز صوم (الثلاثة) ، قبل الفراغ من العمرة .

                                                                                                                              وجوزه: الثوري ، وأبو حنيفة .

                                                                                                                              ولو ترك صيامها حتى مضى العيد والتشريق، لزمه قضاؤها عندنا.

                                                                                                                              وقال أبو حنيفة : يفوت صومها، ويلزمه الهدي، إذا استطاعه.

                                                                                                                              [ ص: 311 ] وأما صوم (السبعة) إذا رجع، ففي المراد بالرجوع خلاف. والصحيح: أنه إذا رجع إلى أهله.

                                                                                                                              قال النووي : وهذا هو الصواب، لهذا الحديث الصحيح الصريح.

                                                                                                                              وقيل غير ذلك.

                                                                                                                              وفي اشتراط التفريق، بين الثلاثة والسبعة (إذا أراد صومها): خلاف.

                                                                                                                              والصحيح: أنه يجب التفريق الواقع في الأداء. وهو أربعة أيام، أو مسافة الطريق بين مكة ووطنه.

                                                                                                                              (وطاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، حين قدم مكة ، فاستلم الركن أول شيء، ثم خب ثلاثة أطواف من السبعة، ومشى أربعة أطواف) .

                                                                                                                              فيه: إثبات طواف القدوم، واستحباب الرمل فيه . وأن الرمل هو الخبب.

                                                                                                                              (ثم ركع "حين قضى طوافه بالبيت عند المقام، ركعتين) .

                                                                                                                              فيه: أنه يصلي ركعتي الطواف. وأنهما يستحبان خلف المقام. وسيأتي بيان ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                              (ثم سلم فانصرف. فأتى الصفا ، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف. ثم لم يحلل من شيء حرم منه، حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر، وأفاض: فطاف بالبيت ، ثم حل من كل شيء حرم منه.

                                                                                                                              [ ص: 312 ] وفعل مثل ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: من أهدى، وساق الهدي، من الناس) .

                                                                                                                              وقد استدل بهذا الحديث، على أن حجه -صلى الله عليه وسلم - كان تمتعا. وتقدم جملة القول في ذلك.

                                                                                                                              قال النووي : وقد اختلفت روايات الصحابة (رضي الله عنهم) ، في صفة حجة النبي -صلى الله عليه وسلم - (حجة الوداع): هل كان قارنا، أم مفردا، أم متمتعا؟ .

                                                                                                                              وقد ذكر البخاري ومسلم رواياتهم كذلك.

                                                                                                                              وطريق الجمع بينها: أنه -صلى الله عليه وسلم - كان أولا مفردا. ثم صار قارنا؛ فمن روى (الإفراد): هو الأصل.

                                                                                                                              ومن روى (القران): اعتمد آخر الأمر.

                                                                                                                              ومن روى (التمتع): أراد التمتع اللغوي. وهو الانتفاع والارتفاق. وقد ارتفق بالقران، كارتفاق المتمتع وزيادة، في الاقتصار على فعل واحد.

                                                                                                                              قال: وبهذا الجمع، تنتظم الأحاديث كلها.

                                                                                                                              وقد جمع بينها أبو محمد بن حزم الظاهري ، في كتاب صنفه في حجة الوداع خاصة. وادعى أنه -صلى الله عليه وسلم - كان قارنا. وتأول باقي الأحاديث.

                                                                                                                              [ ص: 313 ] والصحيح: ما سبق. وقد أوضحت ذلك في: (شرح المهذب)، بأدلته، وجميع طرق الحديث، وكلام العلماء المتعلق بها. انتهى.

                                                                                                                              ثم ساق بعض أدلة ذلك. وقال: ولو لم يكن (الإفراد) أفضل، وعلموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم - حج مفردا: لم يواظبوا عليه. انتهى.

                                                                                                                              وأقول: لا شك في أن الأنظار قد اختلفت، وأن الأقوال قد اضطربت؛ في حجه -صلى الله عليه وسلم - لاختلاف الأحاديث في ذلك.

                                                                                                                              فمن أهل العلم من جمع بين الروايات، كالخطابي . فقال: إن كلا أضاف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - ما أمر به اتساعا. ثم رجح أنه أفرد الحج، كالنووي . وكذا قال عياض . وجمع بنحو ما تقدم عن النووي .

                                                                                                                              قال الحافظ : وهذا الجمع هو المعتمد. وقد سبق إليه قديما: ( ابن المنذر ) وبينه ( ابن حزم ) في: (حجة الوداع) بيانا شافيا. ومهده المحب (الطبري) تمهيدا بالغا، يطول ذكره.

                                                                                                                              قال في (النيل): وجمع شيخ الإسلام ابن تيمية جمعا حسنا. فقال ما حاصله: إن التمتع عند الصحابة يتناول (القران). فتحمل عليه رواية من روى: (أنه حج تمتعا). وكل من روى الإفراد قد روى: أنه حج تمتعا وقرانا. فتعين: الحمل على القران، وأنه أفرد أعمال الحج، ثم فرغ منها، وأتى بالعمرة.

                                                                                                                              ومن أهل العلم، من صار إلى التعارض، فرجح نوعا، وأجاب عن [ ص: 314 ] الأحاديث القاضية ما يخالفه. وهي جوابات طويلة. أكثرها متعسفة.

                                                                                                                              وأورد كل منهم لما اختاره مرجحات، أقواها وأولاها: مرجحات القران. فإنه لا يقاومها شيء، من مرجحات غيره.

                                                                                                                              وذكر صاحب (الهدي): مرجحات، ولكنها مرجحات باعتبار أفضلية القران على التمتع والإفراد. لا باعتبار أنه -صلى الله عليه وسلم - حج قرانا. وهو بحث آخر، قد اختلفت فيه المذاهب اختلافا كثيرا. انتهى.




                                                                                                                              الخدمات العلمية