الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              2433 [ ص: 54 ] باب منه

                                                                                                                              وهو في النووي في الباب المشار إليه.

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص142- 144 ج9 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا شيئا نقرؤه، إلا كتاب الله وهذه الصحيفة، (قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه ): فقد كذب. فيها أسنان الإبل. وأشياء من الجراحات. وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المدينة حرم: ما بين عير إلى ثور. فمن أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا. وذمة المسلمين واحدة. يسعى بها أدناهم. ومن ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه: فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه -يوم القيامة- صرفا ولا عدلا". .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: خطبنا علي بن أبي طالب ) رضي الله عنه ; (فقال: من زعم أن عندنا شيئا نقرؤه، إلا كتاب الله وهذه الصحيفة، - قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه -: فقد كذب ).

                                                                                                                              هذا تصريح عنه "كرم الله وجهه": بإبطال ما تزعمه الرافضة [ ص: 55 ] والشيعة ويخترعونه ; من قولهم: إن عليا "رضي الله عنه"، أوصى إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمور كثيرة، من أسرار العلم وقواعد الدين وكنوز الشريعة، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم خص أهل البيت: ما لم يطلع عليه غيرهم.

                                                                                                                              قال النووي: هذه دعاوى باطلة، واختراعات فاسدة، لا أصل لها. ويكفي في إبطالها: قول علي "رضي الله عنه" هذا.

                                                                                                                              وفيه: دليل على جواز كتابة العلم. وقد سبق بيانه قريبا. انتهى.

                                                                                                                              ومن قبيل هذا الزعم، زعم بعض مشايخ السنة والجماعة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خص جميع الصحابة بعلم الظاهر. وخص عليا "عليه السلام" بعلم الباطن. وهو واصل إلينا منه صدرا بصدر. وهذا العلم الذي عند أهل العلم الظاهر، هو علم السفينة. وذلك علم الفؤاد والسكينة. ونعوذ بالله من قول لا أصل له، ولا دليل دل عليه.

                                                                                                                              (فيها أسنان الإبل. وأشياء من الجراحات. وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم: ما بين عير" ) بفتح العين وإسكان الياء: جبل معروف. قال الزبير: هو بناحية المدينة (إلى ثور ).

                                                                                                                              قال مصعب الزبيري وغيره: ليس بالمدينة عير ولا ثور. قالوا: وإنما "ثور" بمكة.

                                                                                                                              قال عياض: لا معنى لإنكار "عير" بالمدينة، فإنه معروف. وكذا قال جماعة من أهل اللغة.

                                                                                                                              [ ص: 56 ] قال: وأكثر الرواة "في كتاب البخاري"، ذكروا "عيرا". وأما "ثور" ; فمنهم: من كنى عنه بكذا. ومنهم: من ترك مكانه بياضا. لأنهم اعتقدوا ذكر "ثور" هنا خطأ.

                                                                                                                              قال المازري: قال بعض العلماء: "ثور" هنا، وهم من الراوي. وإنما "ثور" بمكة. قال: والصحيح: "إلى أحد".

                                                                                                                              قال القاضي: وكذا قال أبو عبيد: أصل الحديث: "من عير إلى أحد". وكذا قال الحافظ أبو بكر الحازمي، وغيره من الأئمة، أن أصله: "من عير إلى أحد".

                                                                                                                              قال النووي: قلت: ويحتمل أن "ثورا" كان اسما لجبل هناك: إما أحد، وإما غيره، فخفي اسمه. والله أعلم. انتهى.

                                                                                                                              قال ابن قدامة: يحتمل أن يكون المراد: مقدار ما بين عير وثور، إلا أنهما بعينهما.

                                                                                                                              أو سمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجبلين، اللذين بطرفي المدينة: عيرا وثورا، ارتجالا.

                                                                                                                              وقيل: إن حذاء أحد عن يساره جانحا إلى ورائه: جبل صغير، يقال له: "ثور". وقواه المحب الطبري.

                                                                                                                              قال: وإنكار العلماء عنه، لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه. انتهى. ومثله في القاموس.

                                                                                                                              [ ص: 57 ] وقال أبو بكر المراغي: وقد تحققته بالمشاهدة. وهذه فائدة جليلة، أفادت: أن ذكر "ثور" في الحديث الصحيح صحيح صريح.

                                                                                                                              قال النووي: إنه جاء في هذه الرواية: "ما بين عير إلى ثور". وفي أخرى: "إلى أحد".

                                                                                                                              وفي رواية أنس: "اللهم! إني أحرم ما بين جبليها".

                                                                                                                              وفي الأخرى: "ما بين لابتيها". والمراد بهما: الحرتان.

                                                                                                                              وهذه الأحاديث كلها متفقة. فما بين لابتيها: بيان لحد حرمها، من جهتي المشرق والمغرب. وما بين جبليها: بيان لحده، من جهة الجنوب والشمال. انتهى.

                                                                                                                              (فمن أحدث فيها حدثا ).

                                                                                                                              قال "في شرح المنتقى": أي: عمل بخلاف السنة ; كمن ابتدع بها بدعة.

                                                                                                                              (أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله ).

                                                                                                                              أي: اللعنة المستقرة من الله على الكفار. وأضيف إلى الله، على سبيل التخصيص.

                                                                                                                              (والملائكة والناس أجمعين ).

                                                                                                                              [ ص: 58 ] قال عياض: معناه: من أتى فيها إثما، أو آوى من أتاه، وضمه إليه وحماه.

                                                                                                                              قال: ويقال: (أوى وآوى ) بالقصر والمد. في الفعل اللازم والمتعدي جميعا.

                                                                                                                              لكن القصر في اللازم: أشهر وأفصح.

                                                                                                                              والمد، في المتعدي: أشهر وأفصح.

                                                                                                                              قال النووي: وبالأفصح جاء القرآن العزيز في الموضعين ;

                                                                                                                              قال تعالى: قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة . وقال في المتعدي: وآويناهما إلى ربوة .

                                                                                                                              قال عياض: ولم يرو هذا الحرف إلا "محدثا"، بكسر الدال.

                                                                                                                              ثم قال: وقال المازري: روي بوجهين: كسر الدال وفتحها ;

                                                                                                                              قال: فمن فتح، أراد: الإحداث نفسه. ومن كسر، أراد: فاعل الحدث. انتهى.

                                                                                                                              قلت: والحديث ; يدخل فيه كل من أحدث فيها، أو آوى محدثا في القديم، أو يفعل ذلك في الحديث.

                                                                                                                              ومن القدماء: جنود يزيد بن معاوية، لوعيد شديد لمن ارتكب هذا.

                                                                                                                              [ ص: 59 ] قال عياض: واستدلوا بها، على أن ذلك من الكبائر، لأن اللعنة لا تكون إلا في كبيرة.

                                                                                                                              ومعناه: أن الله يلعنه، وكذا يلعنه الملائكة، والناس أجمعون.

                                                                                                                              وهذا مبالغة في إبعاده عن رحمة الله تعالى، فإن اللعن في اللغة: الطرد والإبعاد.

                                                                                                                              قالوا: والمراد باللعن هنا: العذاب الذي يستحقه على ذنبه، والطرد عن الجنة أول الأمر. وليست هي كلعنة الكفار، الذين يبعدون من رحمة الله تعالى كل الإبعاد. انتهى.

                                                                                                                              (لا يقبل الله منه "يوم القيامة": صرفا ولا عدلا ).

                                                                                                                              قال المازري "على ما حكاه القاضي عنه": اختلفوا في تفسيرهما ; فقيل: الصرف: الفريضة. والعدل: النافلة. وبه قال الجمهور. وقال الحسن البصري بعكس ذلك.

                                                                                                                              وقال الأصمعي: الصرف: التوبة. والعدل: الفدية. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

                                                                                                                              وقال يونس: الصرف الاكتساب. والعدل: الفدية.

                                                                                                                              وقال أبو عبيدة: العدل الحيلة. وقيل: المثل.

                                                                                                                              وقيل: الصرف: الدية. والعدل: الزيادة.

                                                                                                                              قال عياض: وقيل: المعنى: لا تقبل فريضته ولا نافلته، قبول رضا ; وإن قبلت قبول جزاء.

                                                                                                                              [ ص: 60 ] وقيل: يكون القبول هنا، بمعنى تكفير الذنب بهما.

                                                                                                                              قال: وقد يكون معنى "الفدية" هنا: أنه لا يجد في القيامة فداء يفتدي به، بخلاف غيره من المذنبين، الذين يتفضل الله "عز وجل" على من يشاء منهم: بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني، كما ثبت في الصحيح.

                                                                                                                              ( وذمة المسلمين واحدة. يسعى بها أدناهم ).

                                                                                                                              المراد بالذمة هنا: الأمان. أي: أن أمان المسلمين للكافر صحيح.

                                                                                                                              فإذا أمنه به أحد منهم، حرم على غيره التعرض له، ما دام في أمان المسلم.

                                                                                                                              وللأمان شروط، معروفة في موضعه.

                                                                                                                              وفيه: دلالة على أن أمان المرأة والعبد صحيح، لأنهما أدنى من الذكور الأحرار. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "يسعى بها أدناهم".

                                                                                                                              (ومن ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه ; فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ).

                                                                                                                              هذا صريح، في غلظ تحريم انتماء الإنسان إلى غير أبيه، أو انتماء العتيق إلى ولاء غير مواليه، لما فيه من كفر النعمة، وتضييع حقوق الإرث والولاء والعقل، وغير ذلك. مع ما فيه من قطيعة الرحم والعقوق.

                                                                                                                              (لا يقبل الله منه "يوم القيامة": صرفا ولا عدلا ).

                                                                                                                              تقدم شرحه قريبا.




                                                                                                                              الخدمات العلمية