الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              267 (باب منه)

                                                                                                                              وقال النووي: (باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة لربهم سبحانه وتعالى).

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 17 - 25ج 3 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن أبي هريرة أن ناسا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر قالوا: لا، يا رسول الله. قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب، قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس "الشمس" ويتبع من كان يعبد القمر "القمر" ويتبع من كان يعبد الطواغيت "الطواغيت" وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة [ ص: 343 ] غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم المؤمن بقي بعمله ومنهم المجازى حتى ينجى، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا، ممن أراد الله تعالى أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار، وقد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ الله تعالى من القضاء بين العباد ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار، وهو آخر أهل الجنة دخولا الجنة، فيقول: أي رب اصرف وجهي عن النار؛ فإنه قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها فيدعو الله ما شاء الله أن يدعوه ثم يقول الله تبارك وتعالى: هل عسيت إن فعلت [ ص: 344 ] ذلك بك أن تسأل غيره فيقول: لا أسألك غيره، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء الله، فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل على الجنة ورآها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، قدمني إلى باب الجنة. فيقول الله له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك لا تسألني غير الذي أعطيتك، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك! فيقول: أي رب، ويدعو الله حتى يقول له: فهل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزتك، فيعطي ربه ما شاء الله من عهود ومواثيق فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا قام على باب الجنة انفهقت له الجنة، فرأى ما فيها من الخير والسرور فيسكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول: أي رب أدخلني الجنة، فيقول الله تبارك وتعالى له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت؟! ويلك يا ابن آدم ما أغدرك! فيقول: أي رب لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله تبارك وتعالى منه، فإذا ضحك الله منه قال: ادخل الجنة، فإذا دخلها قال الله له: تمنه، فيسأل ربه ويتمنى، حتى إن الله ليذكره من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى: ذلك لك ومثله معه قال عطاء بن يزيد وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة : لا يرد عليه من حديثه شيئا، حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله قال لذلك الرجل ومثله معه قال أبو سعيد وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة ، قال أبو هريرة ما حفظت إلا قوله ذلك لك ومثله معه [ ص: 345 ] قال أبو سعيد أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ذلك لك وعشرة أمثاله، قال أبو هريرة وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا الجنة.

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن "ناسا" قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله!" هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضارون في "رؤية" القمر ليلة البدر؟)

                                                                                                                              وفي الرواية الأخرى "هل تضامون"، وروي "تضارون" بتشديد الراء وتخفيفها، والتاء مضمومة فيهما.

                                                                                                                              ومعنى المشددة: هل تضارون غيركم في حالة الرؤية بزحمة أو مخالفة، أو غيرها، لخفائه كما تفعلون أول ليلة من الشهر؟

                                                                                                                              ومعنى المخفف: هل يلحقكم في رؤيته ضير؟ وهو "الضرر"... وروي "تضامون" أيضا مشددا ومخففا.

                                                                                                                              ومعنى المشدد: تتضامون وتتلطفون في التوصل إلى رؤيته.

                                                                                                                              [ ص: 346 ] ومعنى المخفف: هل يلحقكم ضيم: وهو "المشقة والتعب".

                                                                                                                              وفي رواية للبخاري: "لا تضامون أو لا تضارون": على الشك.

                                                                                                                              ومعناه: لا يشتبه عليكم وترتابون فيه، فيعارض بعضكم بعضا في رؤيته، والله أعلم.

                                                                                                                              قالوا: لا يا رسول الله! قال: "هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟" قالوا: لا "يا رسول الله"، قال: "فإنكم ترونه كذلك".

                                                                                                                              وهذا تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح، وزوال الشك، والمشقة، والاختلاف.

                                                                                                                              ومذهب أهل السنة المطهرة بأجمعهم: أن رؤية الله تعالى ممكنة غير مستحيلة؛ عقلا. وأجمعوا على وقوعها في الآخرة، وأن المؤمنين يرونه سبحانه، دون الكافرين.

                                                                                                                              وأنكرها المعتزلة، والخوارج، والروافض، وبعض المرجئة، وقالوا: لا يراه أحد من خلقه، وأنها مستحيلة عقلا.

                                                                                                                              وهذا جهل عظيم منهم. فإن أدلة الكتاب العزيز، وحجج السنة المطهرة المتواترة، وإجماع الصحابة فمن بعدهم؛ من سلف الأمة وأئمتها؛ قد تظاهرت على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين. ورواها نحو من عشرين صحابيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وآيات القرآن فيها مشهورة.

                                                                                                                              [ ص: 347 ] واعتراضات المبتدعة عليها؛ لها أجوبة معروفة في كتب القوم، ودواوين الإسلام، وكذلك باقي شبههم. وهي مستقصاة في كتب التفسير، ومؤلفات الإمامين الحافظين: شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وابن القيم؛ قدس سرهما.

                                                                                                                              وليس بنا ضرورة إلى ذكرها هنا، فقد قضينا "الوطر" عنها في بعض مؤلفاتنا.

                                                                                                                              وأما رؤيته سبحانه في الدنيا فإنها ممكنة عقلا، غير واقعة شرعا؛ أي: في اليقظة. وأما في النوم، فواقعة أيضا كما حكينا ذلك في "رياض المرتاض"، "والتقصار". عن جماعة من الصلحاء الأبرار، والأئمة الكبار، اللهم شرفنا بها رحمة منك.

                                                                                                                              قال النووي: يراه المؤمنون؛ لا في جهة، كما يعلمونه لا في جهة.

                                                                                                                              وأقول: هذا الذي قاله؛ سلك فيه مسلك المتكلمة.

                                                                                                                              ومذهب أهل الحق في ذلك وما ضاهاه: إمراره على ظاهره من غير تأويل ولا تعطيل؛ وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة قوله صلى الله عليه وسلم وللجارية "أين الله؟"، وفي أخرى: "الإشارة بالإصبع إلى السماء" والأخبار في ذلك كثيرة جدا. وكذلك آيات الكتاب العزيز تدل عليه دلالة واضحة، وتفيد "الفوق، والعلو، والاستواء على العرش، والكون في السماء، فأين هذا من ذاك؟! رحم الله امرءا أنصف، ولم يتأول ولم يتعسف.

                                                                                                                              "يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس "الشمس"، ويتبع من كان يعبد القمر [ ص: 348 ] "القمر"، ويتبع من كان يعبد الطواغيت "الطواغيت".

                                                                                                                              جمع "طاغوت" وهو كل ما عبد من دون الله. قاله الليث، وأبو عبيدة، والكسائي، وجماهير أهل اللغة.

                                                                                                                              وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي وغيرهم: هو "الشيطان". وقيل: هو "الأصنام".

                                                                                                                              والأول أولى.

                                                                                                                              وهو يشمل عابدي قبور الأنبياء، والصلحاء، ومؤثري تقليد المجتهدين والعلماء، ومتخذي الأهواء، وسائر أهل الشرك والبدع بلا شك ولا امتراء.

                                                                                                                              قال الواحدي: "الطاغوت" يكون واحدا، وجمعا، ويذكر، ويؤنث؛ ومثله من الأسماء "الفلك"، قال تعالى:

                                                                                                                              يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به .

                                                                                                                              فهذا في الواحد، والمذكر.

                                                                                                                              وقال: في الجمع: والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم .

                                                                                                                              وقال في المؤنث: والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها .

                                                                                                                              واشتقاقه من "طغى".

                                                                                                                              [ ص: 349 ] (وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها).

                                                                                                                              وإنما بقوا في زمرة المؤمنين؛ لأنهم كانوا في الدنيا متسترين بهم، فيتسترون بهم أيضا في الآخرة، وسلكوا مسلكهم، ودخلوا في جملتهم، واتبعوهم ومشوا في نورهم، حتى ضرب بينهم بسور له باب. باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، وذهب عنهم نور المؤمنين.

                                                                                                                              قال بعض أهل العلم: هؤلاء هم المطرودون عن الحوض، الذين يقال لهم "سحقا سحقا"، والله أعلم.

                                                                                                                              (فيأتيهم الله "تبارك وتعالى" في صورة غير صورته التي يعرفون؛ فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك. هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه. فيأتيهم الله "تعالى"، في صورته التي يعرفون. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه".

                                                                                                                              وفي هذا إثبات الصورة، والمجيء، والإتيان.

                                                                                                                              ولأهل العلم في هذا الحديث وما في معناه من أحاديث الصفات والآيات قولان:

                                                                                                                              أحدهما "حق"، والآخر "خطأ".

                                                                                                                              أما الحق: فهو مذهب معظم السلف، أو كلهم: أنه لا يتكلم في [ ص: 350 ] معناها.

                                                                                                                              بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها ونجريها على ظاهرها، ونمرها على ما جاءت، ونعتقدها اعتقادا يليق بجلال الله وعظمته؛ قائلين "بأن الله ليس كمثله شيء".

                                                                                                                              وهذا القول أيضا، هو مذهب جماعة من المتكلمين. واختاره جماعة من محققيهم؛ وهو "أسلم" وعليه درج سلف هذه الأمة وأئمتها.

                                                                                                                              ومن أحسن الكتب وأجمعها في هذا الباب؛ كتاب "الجوائز والصلات" للسيد الصالح أبي الخير الطيب القنوجي فسح الله في مدته.

                                                                                                                              قال الشيخ محمد بن محسن العطاس في: "تنزيه الذات والصفات، عن درن الإلحاد والشبهات"، في بيان إتيان الرب ومجيئه: قال تعالى:

                                                                                                                              هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام .

                                                                                                                              وقال: وجاء ربك . وقال: أو يأتي ربك .

                                                                                                                              قال: والقول في الصفات: أنا نؤمن بها، ونعقل وجودها، ونعلمها في الجملة من غير تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، ولا تعطيل؛ ونقول كما قال السلف: آمنا بالله على مراد الله "ليس كمثله شيء".

                                                                                                                              ثم ذكر كل صفة من الصفات؛ كالاستواء، والعلو، والوجه، واليد، واليمين، والكف، والإصبع، والشمال، والقدم، والرجل، [ ص: 351 ] والنزول، والكلام، والقول، والرؤية، وكشف الساق، والفوق، والنفس، والعين، والحقو، على حدة.

                                                                                                                              واستشهد لها من الآيات، والأحاديث، وقوى مذهب السلف في ذلك، ورد التأويل لها ما أوله المتكلمون، وذهب إليه من الخلف الذاهبون.

                                                                                                                              وأما "الخطأ"، فهو مذهب معظم المتكلمين؛ يعني: أنها تتأول على ما يليق بها على حسب مواقعها، كقولهم في هذا الحديث، وأمثاله: إن "الإتيان" عبارة عن رؤيتهم إياه، "والمجيء" هنا: مجاز عنها أو يأتيهم بعض ملائكته.

                                                                                                                              قال عياض: وهو أشبه عندي بالحديث. مع أنه أشبه عند أهل الحق بالخطأ من الصواب.

                                                                                                                              وبالجملة: هذا آخر امتحان المؤمنين.

                                                                                                                              فإذا قال لهم: "أنا ربكم"، وردوا عليه ما ينكرونه، ويعلمون أنه ليس ربهم، "يستعيذون بالله منه": فيتجلى الله لهم على الصورة التي يعلمونها ويعرفونه بها.

                                                                                                                              وإنما عرفوه بصفاته هذه. وإن لم تكن تقدمت لهم رؤية له؛ سبحانه وتعالى، فيعلمون أنه ربهم، فيقولون "أنت ربنا".

                                                                                                                              قال الخطابي: يحتمل أن تكون هذه الاستعاذة، من المنافقين خاصة.

                                                                                                                              وأنكره عياض، وقال: لا يستقيم الكلام به.

                                                                                                                              قال النووي: وهذا الذي قاله القاضي: هو الصواب. ولفظ الحديث [ ص: 352 ] مصرح به، أو ظاهر فيه، وقال: معنى "يتبعونه" يتبعون أمره إياهم، بذهابهم إلى الجنة. أو يتبعون ملائكته الذين يذهبون بهم إلى الجنة، انتهى.

                                                                                                                              "وفيه" أيضا نوع من تأويل لا تلجئ إليه ضرورة.

                                                                                                                              (ويضرب الصراط بين ظهري جهنم): أي يمد الصراط عليها.

                                                                                                                              "وفيه" إثبات الصراط، ومذهب أهل الحق "إثباته" وقد أجمع السلف على إثباته.

                                                                                                                              وهو جسر على متن جهنم، يمر عليه الناس كلهم. فالمؤمنون ينجون على حسب حالهم؛ أي: منازلهم. والآخرون يسقطون فيها.

                                                                                                                              وفي رواية أبي سعيد الخدري "أنه أدق من الشعر وأحد من السيف، والله أعلم.

                                                                                                                              "فأكون أنا وأمتي أول من يجيز" بضم الياء وكسر الجيم، والزاي آخره.

                                                                                                                              يقال: "أجزت الوادي، وجزته لغتان بمعنى واحد.

                                                                                                                              قال الأصمعي: "أجزته": قطعته. "وجزته": مشيت فيه.

                                                                                                                              فالمعنى: أكون أول من يمضي عليه ويقطعه.

                                                                                                                              "ولا يتكلم يومئذ"، أي: في حال الإجازة؛ "إلا الرسل" لشدة الأهوال.

                                                                                                                              وإلا ففي القيامة مواطن؛ يتكلم الناس فيها، وتجادل كل نفس عن نفسها، ويسأل بعضهم بعضا، ويتلاومون، ويخاصم التابعون المتبوعين.

                                                                                                                              "ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم" هذا من كمال شفقتهم وتمام رحمتهم للخلق.

                                                                                                                              [ ص: 353 ] "وفيه" أن الدعوات تكون بحسب المواطن، فيدعى في كل موطن ما يليق به، والله أعلم.

                                                                                                                              "وفي جهنم كلاليب": جمع "كلوب" بفتح الكاف، وضم اللام المشددة؛ وهو "حديدة، معطوفة الرأس"، يعلق فيها اللحم، وترسل في "التنور"..

                                                                                                                              قال "صاحب المطالع": هي خشبة في رأسها عقافة حديد. وقد تكون حديدا كلها، ويقال لها أيضا "كلاب".

                                                                                                                              "مثل شوك السعدان" بفتح السين، وإسكان العين، وهو نبت له شوكة عظيمة؛ مثل "الحسك" من كل جانب.

                                                                                                                              "هل رأيتم السعدان؟" قالوا: نعم يا رسول الله! قال: "فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم "ما قدر" عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم".

                                                                                                                              بفتح الطاء، ويجوز كسرها. يقال "خطف" بكسر الطاء وفتحها، والكسر أفصح. أي: تخطفهم بسبب أعمالهم، أو على قدر أعمالهم.

                                                                                                                              "فمنهم المؤمن بقي بعمله".

                                                                                                                              وفي "المؤمن" ثلاثة أوجه.

                                                                                                                              أحدها هذا، والثاني "الموثق"، والثالث "الموبق". قال القاضي: هذا أصحها.

                                                                                                                              [ ص: 354 ] وكذا قال صاحب "المطالع": هذا الثالث هو الصواب.

                                                                                                                              "ويقي": من الوقاية.

                                                                                                                              أو هو "بالباء" الموحدة.

                                                                                                                              قال النووي: والموجود في معظم الأصول ببلادنا، هذا الثاني.

                                                                                                                              "ومنهم المجازى حتى ينجى" من "المجازاة".

                                                                                                                              ورواه بعضهم "المخردل"، وبعضهم "المجردل".

                                                                                                                              والأول معنى "المقطع" يقال: خردلت اللحم. أي: قطعته. وقيل:

                                                                                                                              "خردلت" معنى "صرعت"، ويقال بالذال المعجمة.

                                                                                                                              "والجردلة" الإشراف على الهلاك، والسقوط.

                                                                                                                              "حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا. ممن أراد "الله تعالى" أن يرحمه ممن يقول: لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار، يعرفونهم بأثر السجود. تأكل النار من ابن آدم إلا "أثر السجود" حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود.

                                                                                                                              ظاهر هذا، أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة، التي يسجد الإنسان عليها. وهي "الجبهة، واليدان، والركبتان، والقدمان، وهكذا قاله بعض أهل العلم.

                                                                                                                              [ ص: 355 ] وأنكره عياض، وقال: المراد "الجبهة"، خاصة.

                                                                                                                              قال النووي: والمختار "الأول".

                                                                                                                              وذكر "مسلم" بعد هذا مرفوعا "أن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات الوجوه، وهؤلاء القوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار، بأنه لا يسلم منهم من النار إلا تلك؛ وأما غيرهم فيسلم جميع أعضاء السجود منهم؛ عملا بعموم هذا الحديث. فهذا الحديث عام، وذلك خاص؛ فيعمل بالعام إلا ما خص والله أعلم.

                                                                                                                              (فيخرجون من النار "وقد" امتحشوا) أي: "احترقوا" وهو بفتح التاء والحاء؛ كذا ضبطه عياض، والخطابي، والهروي، وروي "بضم التاء وكسر الحاء".

                                                                                                                              "فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون منه". أي بسببه "كما تنبت الحبة في حميل السيل".

                                                                                                                              "الحبة" بكسر الحاء. هي بزر البقول، والعشب، تنبت في البراري وجوانب السيول. وجمعها "حبب، بكسر الحاء وفتح الباء.

                                                                                                                              "وحميل" بفتح الحاء وكسر الميم؛ هو ما جاء به "السيل" من طين أو غثاء، أي "محموله".

                                                                                                                              والمراد: التشبيه في سرعة النبات وحسنه، وطراوته.

                                                                                                                              [ ص: 356 ] (ثم يفرغ الله "تعالى" ) من القضاء بين العباد، ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار، وهو آخر أهل الجنة دخولا "الجنة". فيقول: "أي رب! اصرف وجهي عن النار. فإنه قد قشبني ريحها" أي "سمني، وآذاني، وأهلكني" كذا قاله الجماهير من أهل اللغة، الغريب.

                                                                                                                              وقال الداودي: معناه "غير جلدي، وصورتي"، "وأحرقني ذكاؤها" بالمد وفتح المعجمة؛ أي لهبها واشتعالها، وشدة وهجها؛ كذا في جميع الروايات. والأشهر في اللغة "ذكاها" مقصورا.

                                                                                                                              وذكر جماعات: أن المد والقصر "لغتان"؛ يقال: ذكت النار، تذكو ذكا؛ إذا اشتعلت، "وأذكيتها"، والله أعلم.

                                                                                                                              (فيدعو الله ما شاء الله أن "يدعوه"، ثم يقول الله تبارك وتعالى "هل عسيت" بفتح التاء على الخطاب. ويقال: بفتح السين وكسرها، "لغتان"، والفتح هو الأفصح الأشهر في اللغة.

                                                                                                                              قال ابن السكيت: ولا ينطق في "عسيت" بمستقبل.

                                                                                                                              (إن فعلت ذلك بك، أن تسأل غيره؟ فيقول: لا أسألك غيره، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء الله، فيصرف "الله" وجهه عن النار [ ص: 357 ] فإذا أقبل على الجنة ورآها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب! قدمني إلى باب الجنة. فيقول الله له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك لا تسألني غير الذي أعطيتك؟ ويلك يا ابن آدم ما أغدرك!! فيقول: أي رب! ويدعو الله، حتى يقول له: فهل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزتك. فيعطي ربه ما شاء الله من عهود ومواثيق. فيقدمه إلى باب الجنة.

                                                                                                                              فإذا قام على "باب الجنة" انفهقت له الجنة) بفتح الفاء والهاء والقاف؛ أي انفتحت واتسعت "فرأى ما فيها من الخير" بالخاء والياء.

                                                                                                                              هذا هو الصحيح المعروف في الروايات والأصول.

                                                                                                                              وروي "الحبر" بفتح الحاء وإسكان الياء. ومعناه "السرور".

                                                                                                                              قال صاحب "المطالع": كلاهما صحيح. قال: والثاني أظهر.

                                                                                                                              "والسرور" ورواية البخاري "الحبرة والسرور" والحبرة: المسرة. (فيسكت ما شاء الله أن يسكت: ثم يقول: أي رب أدخلني الجنة: فيقول الله "تبارك وتعالى" له: "أليس" قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت؟ ويلك يا ابن آدم ما أغدرك! فيقول: أي رب! لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال يدعو الله، حتى يضحك الله "تبارك [ ص: 358 ] وتعالى، منه.

                                                                                                                              "وفيه" إثبات صفة الضحك له سبحانه، وهي ثابتة بأدلة أخرى أيضا، مذكورة في كتاب "الجوائز والصلات".

                                                                                                                              "فإذا ضحك الله" تعالى منه. قال: ادخل الجنة. فإذا دخلها؛ قال الله له: تمنه. فيسأل ربه، ويتمنى؛ حتى إن الله تعالى "ليذكره من كذا وكذا) أي: يقول له: تمن من الشيء الفلاني، ومن الشيء الآخر؛ يسمي له أجناس ما يتمنى؛ وهذا من عظيم رحمته، وكريم رأفته، وعموم لطفه، وشمول منه سبحانه وتعالى.

                                                                                                                              "حتى إذا انقطعت به الأماني. قال الله تعالى: "ذلك لك ومثله معه".

                                                                                                                              قال عطاء بن يزيد: وأبو سعيد المحذري مع أبي هريرة لا يرد عليه من حديثه شيئا، حتى إذا حدث أبو هريرة: أن الله قال لذلك الرجل: ومثله معه، قال أبو سعيد: "وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة".

                                                                                                                              قال أبو هريرة: (ما حفظت إلا قوله "ذلك لك ومثله معه"). قال أبو سعيد: أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه قوله: "ذلك لك وعشرة أمثاله".

                                                                                                                              قال أهل العلم: وجه الجمع بينهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم أولا ما في حديث [ ص: 359 ] أبي هريرة، ثم تكرم الله تعالى، فزاد ما في رواية أبي سعيد، فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمعه أبو هريرة.

                                                                                                                              (قال أبو هريرة: "وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا الجنة" ).

                                                                                                                              وفي حديث أنس: وسيأتي آخر من يدخل الجنة، رجل يمشي مرة ويكبو مرة، وتسفعه النار". الحديث.




                                                                                                                              الخدمات العلمية