الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              3310 [ ص: 58 ] باب : في ترك الأسارى والمن عليهم

                                                                                                                              وقال النووي : (باب ربط الأسير وحبسه ، وجواز المن عليه) .

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 87 - 89 ج 12 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [ عن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة يقول بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد. فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ماذا عندك يا ثمامة؟" فقال: عندي يا محمد خير. إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر. وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد. فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك. إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم. وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك. إن تنعم تنعم على شاكر. وإن تقتل تقتل ذا دم. وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله يا محمد! والله! ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك [ ص: 59 ] أحب الوجوه كلها إلي والله! ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي.

                                                                                                                              وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة. فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر. فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا. ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا والله! لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم]
                                                                                                                              .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي هريرة) رضي الله عنه ; (قال : بعث رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم خيلا قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة) هي قبيلة كبيرة مشهورة ، ينزلون اليمامة بين مكة واليمن .

                                                                                                                              (يقال له ثمامة) بضم المثلثة (بن أثال) بضم الهمزة ، ومثلثة خفيفة . وهو مصروف . وهو ابن النعمان بن مسيلمة الحنفي . وهو من فضلاء الصحابة (سيد أهل اليمامة ، فربطوه بسارية من سواري المسجد) .

                                                                                                                              وفي هذا : جواز ربط الأسير وحبسه ، وجواز إدخال الكافر المسجد . ومذهب الشافعي : جوازه بإذن مسلم ، سواء كان الكافر كتابيا أو غيره .

                                                                                                                              وقال قتادة ، ومالك : لا يجوز . وقال أبو حنيفة : يجوز لكتابي دون غيره . وهذا الحديث دليل عليهم .

                                                                                                                              [ ص: 60 ] وأما قوله تعالى : إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام فهو خاص بالحرم . والشافعية تقول : لا يجوز إدخاله الحرم . والله أعلم .

                                                                                                                              (فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم ، فقال له: " ماذا عندك ؟ يا ثمامة! ") يحتمل : أن تكون "ما " استفهامية ، و"ذا " موصولة ، و "عندك " صلة . أي : ما الذي استقر في ظنك أن أفعله بك ؟ فأجاب بأنه ظن خيرا (وقال : عندي يا محمد ! خير) لأنك لست ممن يظلم ، بل ممن يعفو ويحسن.

                                                                                                                              (إن تقتل تقتل ذا دم) بمهملة وتخفيف الميم للأكثر . وللكشميهني : "ذم " بمعجمة ، بعدها ميم مشددة .

                                                                                                                              قال النووي : معنى رواية الأكثر : إن تقتل تقتل صاحب دم ، لدمه موقع يستشفي قاتله بقتله ، ويدرك قاتله به ثأره . أي : لرياسته وعظمته وفضيلته . وحذف هذا لأنهم يفهمونه في عرفهم .

                                                                                                                              ويحتمل : أن يكون المعنى : عليه دم ، وهو مطلوب به ، وهو مستحق عليه ، فلا لوم عليك في قتله .

                                                                                                                              وأما الرواية بالمعجمة ، فمعناها : "ذا ذمة) " . وثبت ذلك في رواية أبي داود . وضعفها عياض بأنه يقلب المعنى . لأنه إذا كان ذا ذمة [ ص: 61 ] يمتنع قتله . قال النووي : ويمكن تصحيحها بأن يحمل على الوجه الأول .

                                                                                                                              أي : تقتل رجلا جليلا، يحتفل قاتله بقتله . بخلاف ما إذا قتل ضعيفا مهينا ، فإنه لا فضيلة في قتله ، ولا يدرك به قاتله ثأره .

                                                                                                                              والمراد بالذمة : الحرمة في قومه . وأوجه الجميع : الثاني لأنه مشاكل لقوله بعد ذلك (وإن تنعم تنعم على شاكر) .

                                                                                                                              وجميع ذلك تفصيل لقوله : ( عندي خير ) وفعل الشرط إذا كرر في الجزاء دل على فخامة الأمر .

                                                                                                                              (وإن كنت تريد المال ، فسل تعط منه ما شئت . فتركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان بعد الغد . فقال : " ما عندك ؟ يا ثمامة ! " قال : ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر . وإن تقتل تقتل ذا دم . وإن كنت تريد المال ، فسل تعط منه ما شئت . فتركه رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم حتى كان من الغد . فقال : " ماذا عندك ؟ يا ثمامة !") كرر ذلك ثلاثة أيام . وهذا من باب تأليف القلوب ، وملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأشراف ، الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير .

                                                                                                                              (فقال : عندي ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر . وإن تقتل تقتل ذا دم . وإن كنت تريد المال ، فسل تعط منه ما شئت) .

                                                                                                                              قدم في اليوم الأول : القتل . وفي اليومين الآخرين : الإنعام .

                                                                                                                              [ ص: 62 ] وفي ذلك نكتة . وهي أنه قدم أول يوم أشق الأمرين عليه . وأشفاهما لصدر خصومه ، وهو القتل . فلما لم يقع ، قدم الإنعام استعطافا . وكأنه رأى في اليوم الأول أمارات الغضب ، دون اليومين الآخرين.

                                                                                                                              (فقال رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم : " أطلقوا ثمامة ") .

                                                                                                                              وفي رواية ابن إسحاق ، قال : " قد عفوت عنك ، يا ثمامة ! وأعتقتك " وزاد أيضا ، أنه لما كان في الأسر ، جمعوا ما كان في أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طعام ولبن ، فلم يقع ذلك من ثمامة موقعه . فلما أسلم جاءوا بالطعام ، فلم يصب منه إلا قليلا فتعجبوا . فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء . وإن المسلم يأكل في معى واحد" .

                                                                                                                              وبالجملة ، ففي إطلاقه دليل على جواز المن على الأسير . وهو مذهب الجمهور . وبه قالت الشافعية .

                                                                                                                              (فانطلق إلى نخل قريب من المسجد) . هكذا هو في البخاري ومسلم وغيرهما : " نخل " بالخاء المعجمة . وتقديره : انطلق إلى نخل فيه ماء .

                                                                                                                              قال بعضهم : صوابه : " نجل " بالجيم ، وهو الماء القليل المنبعث .

                                                                                                                              وقيل : الجاري .

                                                                                                                              قال النووي : بل الصواب الأول . لأن الروايات صحت به ، ولم يرو إلا هكذا . وهو صحيح لا يجوز العدول عنه .

                                                                                                                              (فاغتسل) قالت الشافعية : إذا أراد الكافر الإسلام ، بادر به [ ص: 63 ] ولا يؤخره للاغتسال ولا يحل لأحد أن يأذن له في تأخيره ، بل يبادر به ، ثم يغتسل .

                                                                                                                              قال النووي : ومذهبنا : أن اغتساله واجب ، إن كان عليه جنابة في الشرك ، سواء كان اغتسل منها أم لا. وقيل : إن كان اغتسل أجزأه ، وإلا وجب .

                                                                                                                              وقال بعض المالكية : لا غسل عليه . ويسقط حكم الجنابة بالإسلام ، كما تسقط الذنوب . وضعفوا هذا بالوضوء ، فإنه يلزمه بالإجماع . ولا يقال : يسقط أثر الحدث بالإسلام . هذا كله إذا كان أجنب في الكفر . أما إذا لم يجنب أصلا ، ثم أسلم : فالغسل مستحب له وليس بواجب . هذا مذهب الشافعية ، ومذهب مالك وآخرين . وقال أحمد وآخرون : يلزمه الغسل .

                                                                                                                              (ثم دخل المسجد فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . يا محمد ! والله ! ما كان على الأرض أبغض إلي من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي . والله ! ما كان من دين أبغض إلي من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي . والله ! ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك ، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي) وهذا شأن من أسلم وأخلص . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده ، [ ص: 64 ] وولده ، والناس أجمعين " أو كما قال . وقال تعالى : والذين آمنوا أشد حبا لله .

                                                                                                                              (وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة . فماذا ترى ؟ فبشره صلى الله عليه) وآله (وسلم ، وأمره أن يعتمر) يعني : بشره بما حصل له من الخير العظيم بالإسلام ، وأن الإسلام يهدم ما كان قبله . وأما أمره بالعمرة ، فاستحباب . لأن العمرة مستحبة في كل وقت ، لاسيما من هذا الشريف المطاع ، إذا أسلم وجاء مراغما لأهل مكة ، فطاف وسعى وأظهر إسلامه ، وأغاظهم بذلك .

                                                                                                                              وقال في النيل : بشره بخير الدنيا والآخرة . أو بشره بالجنة .

                                                                                                                              أو محو ذنوبه وتبعاته السابقة . انتهى .

                                                                                                                              (فلما قدم مكة ، قال له قائل : أصبوت ؟ هكذا هو في الأصول : " أصبوت ؟ " وهي لغة . والمشهور : " أصبأت ؟" بالهمزة . وعلى الأول جاء قولهم : " الصباة " . كقاض وقضاة . وهذا اللفظ كانوا يطلقونه على من أسلم . وأصله يقال لمن دخل في دين الصابئة . وهم فرقة معروفة . (فقال : لا . ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) . كأنه قال : لا . ما خرجت من الدين . لأن عبادة الأوثان ليس دينا ، فإذا تركتها أكون قد خرجت من دين . بل استحدثت دين الإسلام .

                                                                                                                              [ ص: 65 ] وقوله : " مع محمد " أي : وافقته على دينه ، فصرنا متصاحبين في الإسلام .

                                                                                                                              وفي رواية ابن هشام : " ولكني اثبعت خير الدين ، دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ".

                                                                                                                              (ولا ، والله !) فيه : حذف . تقديره : والله لا أرجع إلى دينكم .

                                                                                                                              ولا أرفق بكم فأترك الميرة تأتيكم من اليمامة . كما قال :

                                                                                                                              (لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة ، حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم) . زاد ابن هشام : "ثم خرج إلى اليمامة ، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا ، فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " إنك تأمر بصلة الرحم . فكتب إلى ثمامة : أن يخلي فيما بينهم وبين الحمل إليهم ".

                                                                                                                              وفي هذه القصة من الفوائد;

                                                                                                                              ربط الكافر في المسجد ، والمن على الأسير الكافر ، وتعظيم أمر العفو عن المسيء ، لأن ثمامة أقسم أن بغضة القلب انقلبت حبا في ساعة واحدة ، لما أسداه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه من العفو والمن ، بغير مقابل .

                                                                                                                              وفيه : الاغتسال عند الإسلام . وأن الإحسان يزيل البغض ويثبت [ ص: 66 ] الحب ، وأن الكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم ، شرع له أن يستمر في عمل ذلك الخير .

                                                                                                                              وفيه : الملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأسارى ، إن كان في ذلك مصلحة للإسلام ، ولاسيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه .

                                                                                                                              وفيه : بعث السرايا إلى بلاد الكفار ، وأسر من وجد منهم ، والتخيير بعد ذلك في قتله والإبقاء عليه .

                                                                                                                              وقد أشرنا إلى بعض هذه ، في مطاوي فحاوي هذا الحديث ، فتذكر .




                                                                                                                              الخدمات العلمية