الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4059 باب: في السحر، وسحر اليهود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم

                                                                                                                              وقال النووي: (باب السحر)

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص174-178 ج14، المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عائشة؛ قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يهودي، من يهود بني زريق، يقال له: "لبيد بن الأعصم". قالت: حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخيل إليه: أنه يفعل الشيء، وما يفعله. حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم دعا. ثم دعا. ثم قال: "يا عائشة! أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟ جاءني رجلان؛ فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي. فقال الذي عند رأسي، للذي عند رجلي -أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي-: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: من طبه؟ قال: "لبيد بن الأعصم". قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة. قال: وجف طلعة ذكر. قال فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان".

                                                                                                                              [ ص: 275 ] قالت: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أناس من أصحابه. ثم قال: يا عائشة! والله! لكأن ماءها نقاعة الحناء. ولكأن نخلها رءوس الشياطين".

                                                                                                                              قالت: فقلت: يا رسول الله! أفلا أحرقته؟ قال: "لا أما أنا فقد عافاني الله. وكرهت: أن أثير على الناس شرا. فأمرت بها؛ فدفنت"
                                                                                                                              ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن عائشة) رضي الله عنها، (قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم: يهودي، من يهود بني زريق) ؛ بتقديم الزاي. (يقال له: "لبيد بن الأعصم". حتى كان رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: يخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما يفعله) . قال المازري: مذهب أهل السنة، وجمهور علماء الأمة: إثبات "السحر"، وأن له حقيقة، كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة. خلافا لمن أنكر ذلك، ونفى حقيقته، وأضاف ما يقع منه، إلى خيالات باطلة لا حقائق لها. وقد ذكره الله في كتابه. وذكر أنه مما يتعلم. وذكر ما فيه، إشارة إلى أنه مما يكفر به. وأنه يفرق بين المرء وزوجه. وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له. وأن الحديث أيضا: مصرح بإثباته. وأنه أشياء دفنت، وأخرجت. وهذا كله يبطل ما قالوه. فإحالة كونه من الحقائق؛ محال. ولا يستنكر في العقل: أن الله سبحانه وتعالى يخرق العادة، عند النطق بكلام ملفق، أو تركيب [ ص: 276 ] أجسام، أو المزج بين قوى، على ترتيب لا يعرفه: إلا الساحر. وإذا شاهد الإنسان بعض الأجسام؛ منها: قاتلة كالسموم، ومنها: مسقمة كالأدوية الحادة. ومنها: مضرة كالأدوية المضادة للمرض: لم يستبعد عقله أن ينفرد الساحر بعلم قوى قتالة. أو كلام مهلك. أو مؤد إلى التفرقة. قال: وقد أنكر بعض المبتدعة: هذا الحديث؛ بسبب آخر، فزعم: أنه يحط منصب النبوة، ويشكك فيها. وأن تجويزه: يمنع الثقة بالشرع. وهذا الذي ادعاه هؤلاء المبتدعة: باطل. لأن الدلائل القطعية، قد قامت على صدقه، وصحته، وعصمته: فيما يتعلق بالتبليغ، والمعجزة شاهدة بذلك. وتجويز ما قام الدليل بخلافه: باطل. فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا، التي لم يبعث بسببها، ولا كان مفضلا من أجلها، وهو مما يعرض للبشر: فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا، ما لا حقيقة له. وقد قيل: إنه إنما كان يتخيل إليه أنه وطئ زوجاته، وليس بواطئ. وقد يتخيل الإنسان مثل هذا في المنام. فلا يبعد تخيله في اليقظة. ولا حقيقة له. وقيل: إنه يخيل إليه أنه فعله، وما فعله. ولكن لا يعتقد صحة ما يتخيله. فتكون اعتقاداته على السداد.

                                                                                                                              قال عياض: وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة: أن السحر [ ص: 277 ] إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على عقله وقلبه واعتقاده. ويكون معنى قوله في الحديث: "حتى يظن أنه يأتي أهله، ولا يأتيهن". ويروى: "يخيل إليه"؛ أي: يظهر له من نشاطه، ومتقدم عادته: القدرة عليهن. فإذا دنا منهن: أخذته أخذة السحر، فلم يأتهن، ولم يتمكن من ذلك. كما يعتري المسحور. وكل ما جاء في الروايات؛ من أنه: يخيل إليه فعل شيء لم يفعله ونحوه، فمحمول على التخيل بالبصر، لا لخلل تطرق إلى العقل. وليس في ذلك ما يدخل لبسا على الرسالة، ولا طعنا لأهل الضلالة. والله أعلم.

                                                                                                                              قال المازري: واختلف الناس في القدر، الذي يقع به السحر، ولهم فيه اضطراب، فقال بعضهم: لا يزيد تأثيره على قدر التفرقة بين المرء وزوجه؛ لأن الله تعالى إنما ذكر ذلك، تعظيما لما يكون عنده، وتهويلا به في حقنا. فلو وقع به أعظم منه: لذكره؛ لأن المثل لا يضرب عند المبالغة، إلا بأعلى أحوال المذكور. قال: ومذهب الأشعرية: أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك. قال: وهذا هو الصحيح عقلا. لأنه لا فاعل إلا الله تعالى، وما يقع من ذلك، فهو عادة أجراها الله تعالى. ولا تفترق الأفعال في ذلك. وليس بعضها بأولى من بعض. ولو ورد الشرع بقصوره عن مرتبة؛ لوجب المصير إليه. ولكن لا يوجد شرع قاطع، يوجب الاقتصار على ما قاله القائل الأول. وذكر التفرقة بين الزوجين في الآية؛ ليس بنص في منع [ ص: 278 ] الزيادة. وإنما النظر في: أنه ظاهر أم لا. قال: فإن قيل: إذا جوز الأشعرية خرق العادة على يد الساحر؛ فبماذا يتميز عن النبي؟ فالجواب: أن العادة تنخرق على يد النبي، والولي، والساحر؛ لكن النبي يتحدى بها الخلق، ويستعجزهم عن مثلها، ويخبر عن الله تعالى بخرق العادة بها لتصديقه. فلو كان كاذبا: لم تنخرق العادة على يديه. ولو خرقها الله على يد كاذب؛ لخرقها على يد المعارضين للأنبياء.

                                                                                                                              وأما الولي، والساحر؛ فلا يتحديان الخلق، ولا يستدلان على نبوة. ولو ادعيا شيئا من ذلك؛ لم تنخرق العادة لهما. وأما الفرق بين الولي والساحر، فمن وجهين؛

                                                                                                                              أحدهما "وهو المشهور": إجماع المسلمين على أن السحر: لا يظهر إلا على فاسق، والكرامة لا تظهر على فاسق، وإنما تظهر على ولي. وبهذا جزم إمام الحرمين، وأبو سعيد المتولي، وغيرهما.

                                                                                                                              والثاني: أن السحر قد يكون ناشئا بفعل القوى، وبمزجها، ومعاناة وعلاج. والكرامة لا تفتقر إلى ذلك. وفي كثير من الأوقات؛ يقع ذلك اتفاقا من غير أن يستدعيه، أو يشعر به. والله أعلم.

                                                                                                                              (حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة؛ دعا رسول الله، صلى [ ص: 279 ] الله عليه) وآله (وسلم، ثم دعا) . فيه: دليل لاستحباب الدعاء؛ عند حصول الأمور المكروهات. وتكريره، وحسن الالتجاء إلى الله تعالى.

                                                                                                                              (ثم قال: "يا عائشة! أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟ جاءني رجلان؛ فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي. فقال الذي عند رأسي، للذي عند رجلي - أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي-: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب") . أي: مسحور. يقال: "طب الرجل" إذا سحر. فكنوا بالطب عن السحر، كما كنوا بالسليم عن اللديغ. قال ابن الأنباري: "الطب" من الأضداد. يقال لعلاج الداء: طب. وللسحر: طب. وهو من أعظم الأدواء. ورجل طبيب أي: حاذق. سمي "طبيبا": لحذقه، وفطنته.

                                                                                                                              (قال: "من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أي شيء؟ قال: في مشط، ومشاطة") . "المشط": فيه لغات؛ ضم الميم، وإسكان الشين وضمها. وكسر الميم، وسكون الشين. "وممشط". ويقال: "مشطأ" بالهمز، وتركه. "ومشطاء" [ ص: 280 ] ممدود. "وممكد". "ومرجل". "وقيلم" بفتح القاف. حكاهن أبو عمرو الزاهد. "والمشاطة" بضم الميم. وهي: الشعر الذي يسقط من الرأس أو اللحية، عند تسريحه.

                                                                                                                              وفي البخاري؛ من رواية ابن عيينة: "مشاقة" بالقاف، بدل "مشاطة". وهي: المشاطة أيضا. وقيل: مشاقة الكتان.

                                                                                                                              (وجب طلعة) . هكذا في أكثر نسخ بلاد النووي: بالجيم، والموحدة. وفي بعضها: "جف" بالجيم والفاء. وهما بمعنى. وهو: وعاء طلع النخل. وهو: الغشاء الذي يكون عليه. ويطلق على الذكر والأنثى. فلهذا قيده في الحديث بقوله: "طلعة (ذكر) ". وهو بإضافة طلعة إلى ذكر.

                                                                                                                              (قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان) . هكذا هو في جميع نسخ مسلم. وكذا وقع في بعض روايات البخاري. وصوبه أبو عبيد البكري. وفي معظمها: "ذروان" بفتح الذال وسكون الراء. قال النووي: وكلاهما صحيح. والأول أجود وأصح. وادعى ابن قتيبة: أنه الصواب. وهو قول الأصمعي. وهي: بئر بالمدينة، في بستان "بني زريق".

                                                                                                                              [ ص: 281 ] (قالت: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في أناس من أصحابه. ثم قال: يا عائشة! والله! لكأن ماءها نقاعة الحناء) . بضم النون: الماء الذي يقع فيه الحناء. "والحناء" ممدود، بكسر الحاء. (وكأن نخلها رؤوس الشياطين) : في التناهي في كراهيتها، وقبح منظرها. وقيل: "الشياطين": حيات عرفاء، قبيحة المنظر، هائلة جدا.

                                                                                                                              (قالت: فقلت: يا رسول الله! أفلا أحرقته؟ قال: لا) . وفي الرواية الثانية: "قلت: يا رسول الله! فأخرجه". قال النووي: كلاهما صحيح. فطلبت: أنه يخرجه، ثم يحرقه. والمراد: إخراج السحر.

                                                                                                                              أما أنا؛ فقد عافاني الله. وكرهت: أن أثير على الناس شرا) . يعني: أخبر أن الله تعالى قد عافاه. وأنه يخاف (من إخراجه وإحراقه، وإشاعة هذا) : ضررا وشرا على المسلمين، من تذكر السحر، أو تعلمه، أو شيوعه، والحديث فيه، أو إيذاء فاعله؛ فيحمله ذلك) -أو يحمل بعض أهله ومحبيه، والمعتصبين له من المنافقين وغيرهم-: على سحر الناس وأذاهم، وانتصابهم: لمناكدة [ ص: 282 ] المسلمين بذلك. وهذا من باب ترك مصلحة؛ لخوف مفسدة أعظم منها. وهو من أهم قواعد الإسلام.

                                                                                                                              (فأمرت بها فدفنت) . هذا آخر الحديث والخبر.

                                                                                                                              وأما ما يتعلق بالمسألة؛ فعمل السحر: حرام. وهو من الكبائر بالإجماع. وقد ورد في حديث آخر: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عده من السبع الموبقات".

                                                                                                                              والحاصل: أنه قد يكون كفرا. وقد لا يكون كفرا، بل معصية كبيرة. فإن كان فيه: قول أو فعل يقتضي الكفر؛ كفر. وإلا فلا. وأما تعلمه، وتعليمه: فحرام. فإن تضمن ما يقتضي الكفر؛ كفر. وإلا، فلا. وإذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر؛ عزر واستتيب منه، ولا يقتل. فإن تاب؛ قبلت توبته.

                                                                                                                              وقال مالك: "الساحر" كافر. يقتل بالسحر، ولا يستتاب، ولا تقبل توبته. بل يتحتم قتله. والمسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق. لأن الساحر عنده: كافر. وعند الشافعية: ليس بكافر. وعندهم: تقبل توبة المنافق، والزنديق.

                                                                                                                              قال عياض: وبقول مالك: قال أحمد بن حنبل. وهو مروي عن جماعة من الصحابة، والتابعين. انتهى. وهو الصحيح المختار.

                                                                                                                              [ ص: 283 ] قال النووي: قال أصحابنا: فإذا قتل الساحر بسحره إنسانا، واعترف أنه مات بسحره، وأنه يقتل غالبا: لزمه القصاص. وإن قال: مات به. ولكنه قد يقتل، وقد لا: فلا قصاص، وتجب الدية والكفارة. وتكون الدية في ماله، لا على عاقلته؛ لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجاني. قال: ولا يتصور القتل بالسحر: بالبينة. وإنما يتصور: باعتراف الساحر. والله أعلم.




                                                                                                                              الخدمات العلمية