الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              3800 باب منه

                                                                                                                              وذكره النووي، في الجزء الرابع، في: (باب جواز استتباعه غيره: إلى دار من يثق برضاه بذلك، ويتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام).

                                                                                                                              [ ص: 510 ] (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 215 - 217 جـ 13، المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن سعيد بن ميناء، قال: سمعت جابر بن عبد الله، يقول: لما حفر الخندق رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا، فانكفأت إلى امرأتي، فقلت لها: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا، فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن، قال: فذبحتها وطحنت، ففرغت إلى فراغي، فقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، قال: فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله، إنا قد ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت في نفر معك، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "يا أهل الخندق، إن جابرا قد صنع لكم سورا فحي هلا بكم"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء"، فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي، فقالت: بك وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت لي، فأخرجت له عجينتنا فبصق فيها وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك، ثم قال: "ادعي خابزة فلتخبز معك، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها" وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجينتنا -أو كما قال الضحاك- لتخبز كما هو].

                                                                                                                              [ ص: 511 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 511 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن جابر بن عبد الله) رضي الله عنهما; (قال: لما حفر الخندق، رأيت برسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم: خمصا) بفتح الخاء والميم. أي: ضامر البطن، من الجوع.

                                                                                                                              (فانكفأت إلى امرأتي) أي: انقلبت ورجعت.

                                                                                                                              ووقع في نسخ: "فانكفيت". وهو خلاف المعروف في اللغة. بل الصواب: "انكفأت" بالهمز. (فقلت لها: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم: خمصا شديدا. فأخرجت لي جرابا): بكسر الجيم وفتحها. والكسر أشهر. وهو: وعاء من جلد معروف، (فيه صاع من شعير. ولنا بهيمة داجن) بضم الباء: تصغير "بهمة" وهي: الصغيرة من أولاد الضأن. قال الجوهري: وتطلق على الذكر والأنثى. كالشاة، والسخلة الصغيرة، من أولاد المعز.

                                                                                                                              "والداجن": ما ألف البيوت. (قال: فذبحتها، وطحنت. ففرغت إلى فراغي. فقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، ومن معه. قال: فجئته، فساررته).

                                                                                                                              [ ص: 512 ] فيه: جواز المساررة بالحاجة، بحضرة الجماعة. وإنما نهي: أن يتناجى اثنان، دون الثالث. (فقلت: يا رسول الله! إنا قد ذبحنا بهيمة لنا. وطحنت صاعا من شعير، كان عندنا. فتعال أنت في نفر معك. فصاح رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم; وقال: يا أهل الخندق! إن جابرا، قد صنع لكم سورا) بضم السين وإسكان الواو، غير مهموز: هو الطعام، الذي يدعى إليه. وقيل: الطعام مطلقا. وهي لفظة فارسية. قال النووي: وقد تظاهرت أحاديث صحيحة بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تكلم بألفاظ غير العربية. فيدل على جوازه. (فحي هلا بكم). بتنوين "هلا". وقيل: بغيره، على وزن "علا". ويقال: "حي هل". معناه: عليك بكذا. أو ادع بكذا. قاله أبو عبيد، وغيره. وقيل: معناه: اعجل به. وقال الهروي: معناه: هات، وعجل به.

                                                                                                                              وقال رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم: "لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم، حتى أجيء". فجئت، وجاء رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم; يقدم الناس) إنما فعل هذا; لأنه صلى الله عليه وآله وسلم: دعاهم، فجاءوا تبعا له. كصاحب الطعام إذا دعا طائفة، يمشي قدامهم. وكان رسول الله، صلى الله [ ص: 513 ] عليه وآله وسلم، في غير هذا الحال، لا يتقدمهم، ولا يمكنهم من وطء عقبيه. وفعله هنا لهذه المصلحة.

                                                                                                                              (حتى جئت امرأتي، فقالت: بك وبك) أي: ذمته، ودعت عليه. وقيل معناه: بك تلحق الفضيحة. وبك يتعلق الذم. وقيل معناه: جرى هذا برأيك، وسوء نظرك، وتسببك.

                                                                                                                              (قلت: قد فعلت الذي قلت لي) معناه: أني أخبرت النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بما عندنا. فهو أعلم بالمصلحة.

                                                                                                                              (فأخرجت له عجينتنا، فبصق)، هكذا هو في أكثر الأصول. وفي بعضها: "بسق" وهي لغة قليلة. والمشهور: بصق وبزق. وحكى جماعة من أهل اللغة: "بسق" لكنها قليلة كما ذكرنا.

                                                                                                                              (فيها وبارك. ثم عمد) بفتح الميم (إلى برمتنا، فبصق فيها وبارك. ثم قال: "ادعي خابزة، فلتخبز معك) هذه اللفظة، وهي "ادعي": وقعت في بعض النسخ هكذا: بعين ثم ياء، وهو الصحيح الظاهر؛ لأنه خطاب للمرأة؛ ولهذا قال: "فلتخبز معك" وفي بعضها: "ادعوني" بواو ونون. وفي بعضها: "ادعني". وهما أيضا صحيحان. وتقديره: اطلبوا، واطلب لي: خابزة.

                                                                                                                              [ ص: 514 ] (واقدحي من برمتكم) أي: اغرفي. "والقدح": المغرفة. يقال: "قدحت المرق، أقدحه) بفتح الدال: غرفته. (ولا تنزلوها -وهم ألف- فأقسم بالله! لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا) أي: شبعوا وانصرفوا. (وإن برمتنا: لتغط كما هي. وإن عجينتنا -أو كما قال الضحاك- ليخبز كما هو).

                                                                                                                              "تغط": بكسر الغين المعجمة، وتشديد الطاء. أي: تغلي، ويسمع غليانها. والضمير في "كما هو": يعود إلى العجين.

                                                                                                                              قال النووي: قد تضمن هذا الحديث: علمين من أعلام النبوة:

                                                                                                                              أحدهما: تكثير الطعام القليل.

                                                                                                                              والثاني: علمه، صلى الله عليه وآله وسلم; بأن هذا الطعام القليل، الذي يكفي في العادة: خمسة أنفس، أو نحوهم: سيكثر، فيكفي ألفا وزيادة. فدعا له ألفا، قبل أن يصل إليه. وقد علم: أنه صاع شعير وبهيمة. والله أعلم.

                                                                                                                              قال : وفيه أنواع من الفوائد، وجمل من القواعد:

                                                                                                                              [ ص: 515 ] منها: الدليل الظاهر، والعلم الباهر; من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد تظاهرت أحاديث آحاد: بمثل هذا، حتى زاد مجموعها على التواتر، وحصل العلم القطعي: بالمعنى الذي اشتركت فيه هذه الآحاد. وهو انخراق العادة: بما أتى به صلى الله عليه وآله وسلم; من تكثير الطعام القليل الكثرة الظاهرة. ونبع الماء وتكثيره، وتسبيح الطعام، وحنين الجذع، وغير ذلك مما هو معروف. وقد جمع ذلك العلماء في كتب "دلائل النبوة" كالدلائل للقفال الشاشي، وصاحبه أبي عبد الله الحليمي، وأبي بكر البيهقي "الإمام الحافظ" وغيرهم بما هو مشهور. وأحسنها: كتاب البيهقي. فلله الحمد، على ما أنعم به على نبينا، صلى الله عليه وآله وسلم; وعلينا، بإكرامه صلى الله عليه وآله وسلم. وبالله التوفيق.




                                                                                                                              الخدمات العلمية