الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              5328 باب: انقياد الشجر للنبي، صلى الله عليه وآله وسلم

                                                                                                                              وقال النووي: ( باب حديث جابر الطويل، وقصة أبي اليسر).

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 133-147 جـ18، المطبعة المصرية

                                                                                                                              [حدثنا هارون بن معروف، ومحمد بن عباد (وتقاربا في لفظ الحديث) والسياق لهارون - قالا: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن يعقوب بن مجاهد (أبي حزرة) عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار، قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبا اليسر، (صاحب [ ص: 535 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه غلام له، معه ضمامة من صحف، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري، وعلى غلامه بردة ومعافري، فقال له أبي: يا عم إني أرى في وجهك سفعة من غضب، قال: أجل، كان لي على فلان ابن فلان الحرامي مال، فأتيت أهله، فسلمت، فقلت: ثم هو؟ قالوا: لا، فخرج علي ابن له جفر، فقلت له: أين أبوك؟ قال: سمع صوتك فدخل أريكة أمي، فقلت: اخرج إلي، فقد علمت أين أنت، فخرج، فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا، والله أحدثك، ثم لا أكذبك، خشيت والله أن أحدثك فأكذبك، وأن أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت والله معسرا، قال: قلت: آلله! قال: آلله، قلت: آلله! قال: آلله، قلت: آلله! قال: آلله قال: فأتى بصحيفته فمحاها بيده، فقال: إن وجدت قضاء فاقضني، وإلا، أنت في حل، فأشهد بصر عيني هاتين (ووضع إصبعيه على عينيه) وسمع أذني هاتين، ووعاه قلبي هذا (وأشار إلى مناط قلبه) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "من أنظر معسرا أو وضع عنه، أظله الله في ظله" قال: فقلت له أنا: يا عم لو أنك أخذت بردة غلامك، وأعطيته معافريك، وأخذت معافريه وأعطيته بردتك، فكانت عليك حلة وعليه حلة، فمسح رأسي، وقال: اللهم بارك فيه، يا ابن أخي بصر عيني هاتين، وسمع أذني هاتين، ووعاه قلبي هذا [ ص: 536 ] (وأشار إلى مناط قلبه) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون" وكان أن أعطيته من متاع الدنيا أهون علي من أن يأخذ من حسناتي يوم القيامة.

                                                                                                                              ثم مضينا حتى أتينا جابر بن عبد الله في مسجده، وهو يصلي في ثوب واحد مشتملا به، فتخطيت القوم حتى جلست بينه وبين القبلة، فقلت: يرحمك الله أتصلي في ثوب واحد ورداؤك إلى جنبك؟ قال: فقال بيده في صدري هكذا، وفرق بين أصابعه وقوسها: أردت أن يدخل علي الأحمق مثلك، فيراني كيف أصنع، فيصنع مثله.

                                                                                                                              أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا، وفي يده عرجون ابن طاب، فرأى في قبلة المسجد نخامة فحكها بالعرجون، ثم أقبل علينا فقال: "أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟" قال فخشعنا، ثم قال: "أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟" قال: فخشعنا، ثم قال: "أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟" قلنا: لا أينا، يا رسول الله قال: "فإن أحدكم إذا قام يصلي، فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه، فلا يبصقن قبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره، تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا" ثم طوى ثوبه بعضه على بعض، فقال: "أروني عبيرا" فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله، فجاء بخلوق في راحته .

                                                                                                                              [ ص: 537 ] فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله على رأس العرجون، ثم لطخ به على أثر النخامة، فقال جابر: فمن هناك جعلتم الخلوق في مساجدكم.

                                                                                                                              سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط، وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني، وكان الناضح يعتقبه منا الخمسة والستة والسبعة، فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له، فأناخه فركبه، ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدن، فقال له: شأ، لعنك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا اللاعن بعيره؟" قال: أنا، يا رسول الله قال: "انزل عنه، فلا تصحبنا بملعون، لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم".

                                                                                                                              سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كانت عشيشية ودنونا ماء من مياه العرب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رجل يتقدمنا فيمدر الحوض فيشرب ويسقينا؟" قال جابر: فقمت فقلت: هذا رجل، يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي رجل مع جابر؟" فقام جبار بن صخر، فانطلقنا إلى البئر، فنزعنا في الحوض سجلا أو سجلين، ثم مدرناه، ثم نزعنا فيه حتى أفهقناه، فكان أول طالع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أتأذنان؟" قلنا: نعم، يا رسول [ ص: 538 ] الله فأشرع ناقته فشربت، شنق لها فشجت فبالت، ثم عدل بها فأناخها، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحوض فتوضأ منه، ثم قمت فتوضأت من متوضإ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                              فذهب جبار بن صخر يقضي حاجته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي، وكانت علي بردة ذهبت أن أخالف بين طرفيها فلم تبلغ لي، وكانت لها ذباذب فنكستها، ثم خالفت بين طرفيها، ثم تواقصت عليها، ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر فتوضأ، ثم جاء فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدينا جميعا، فدفعنا حتى أقامنا خلفه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقني وأنا لا أشعر، ثم فطنت به، فقال هكذا، بيده - يعني شد وسطك - فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "يا جابر" قلت: لبيك، يا رسول الله قال: "إذا كان واسعا فخالف بين طرفيه، وإذا كان ضيقا فاشدده على حقوك".

                                                                                                                              سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قوت كل رجل منا في كل يوم تمرة، فكان يمصها ثم يصرها في ثوبه، وكنا نختبط بقسينا ونأكل، حتى قرحت أشداقنا، فأقسم أخطئها رجل منا [ ص: 539 ] يوما، فانطلقنا به ننعشه، فشهدنا أنه لم يعطها، فأعطيها فقام فأخذها".

                                                                                                                              سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير شيئا يستتر به، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: "انقادي علي بإذن الله" فانقادت معه كالبعير المخشوش، الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: "انقادي علي بإذن الله" فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما، لأم بينهما (يعني جمعهما) فقال: "التئما علي بإذن الله" فالتأمتا، قال جابر: فخرجت أحضر مخافة أن يحس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقربي فيبتعد.

                                                                                                                              (وقال محمد بن عباد) فيتبعد فجلست أحدث نفسي، فحانت مني لفتة، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا، وإذا الشجرتان قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف وقفة، فقال برأسه هكذا (وأشار أبو إسماعيل برأسه يمينا وشمالا) ثم أقبل، فلما انتهى إلي قال: "يا جابر هل رأيت مقامي؟" قلت: نعم، يا رسول الله [ ص: 540 ] قال: "فانطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصنا، فأقبل بهما، حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك وغصنا عن يسارك".

                                                                                                                              قال جابر: فقمت فأخذت حجرا فكسرته وحسرته، فانذلق لي، فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصنا، ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسلت غصنا عن يميني وغصنا عن يساري، ثم لحقته، فقلت: قد فعلت، يا رسول الله فعم ذاك؟ قال: "إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت، بشفاعتي، أن يرفه عنهما، ما دام الغصنان رطبين".

                                                                                                                              قال: فأتينا العسكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جابر ناد بوضوء" فقلت: ألا وضوء؟ ألا وضوء؟ ألا وضوء؟ قال: قلت: يا رسول الله ما وجدت في الركب من قطرة، وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء في أشجاب له، على حمارة من جريد، قال: فقال لي: "انطلق إلى فلان ابن فلان الأنصاري، فانظر هل في أشجابه من شيء؟" قال: فانطلقت إليه فنظرت فيها فلم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها، لو أني أفرغه لشربه يابسه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إني لم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها، لو أني أفرغه لشربه يابسه، قال: "اذهب فأتني [ ص: 541 ] به" فأتيته به، فأخذه بيده فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو، ويغمزه بيديه، ثم أعطانيه، فقال: "يا جابر ناد بجفنة" فقلت: يا جفنة الركب فأتيت بها تحمل، فوضعتها بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيده في الجفنة هكذا، فبسطها وفرق بين أصابعه، ثم وضعها في قعر الجفنة، وقال: "خذ يا جابر فصب علي، وقل باسم الله" فصببت عليه وقلت: باسم الله، فرأيت الماء يتفور من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم فارت الجفنة ودارت حتى امتلأت، فقال: "يا جابر ناد من كان له حاجة بماء" قال فأتى الناس فاستقوا حتى رووا، قال: فقلت: هل بقي أحد له حاجة؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأى.

                                                                                                                              وشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فقال: "عسى الله أن يطعمكم" فأتينا سيف البحر فزخر البحر زخرة، فألقى دابة، فأورينا على شقها النار، فاطبخنا واشتوينا، وأكلنا حتى شبعنا، قال جابر: فدخلت أنا وفلان وفلان، حتى عد خمسة، في حجاج عينها ما يرانا أحد، حتى خرجنا، فأخذنا ضلعا من أضلاعه فقوسناه، ثم دعونا بأعظم رجل في الركب، وأعظم جمل في الركب، وأعظم كفل في الركب، فدخل تحته ما يطأطئ رأسه].


                                                                                                                              [ ص: 542 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 542 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت; قال: خرجت أنا وأبي: نطلب العلم، في هذا الحي من الأنصار، قبل أن يهلكوا. فكان أول من لقينا: أبا اليسر) بفتح الياء والسين المهملة. اسمه: كعب بن عمرو. شهد العقبة وبدرا، وهو ابن عشرين سنة. وهو آخر من توفي من أهل بدر، رضي الله عنهم، توفي بالمدينة، سنة خمس وخمسين.

                                                                                                                              (صاحب رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، ومعه غلام له، معه ضمامة من صحف) بكسر الضاد المعجمة، أي: رزمة يضم بعضها إلى بعض. هكذا وقع في جميع نسخ "صحيح مسلم" وكذا نقله عياض عن جميعها. وقال: قال بعض شيوخنا: صوابه: "إضمامة" بكسر الهمزة قبل الضاد. قال: ولا يبعد عندي صحة ما جاءت به الرواية هنا. كما قالوا: "ضبارة وإضبارة": لجماعة الكتب. "ولفافة" لما يلف فيه الشيء. وذكر صاحب نهاية الغريب: أن "الضمامة": لغة في الإضمامة. والمشهور في اللغة بالألف.

                                                                                                                              (وعلى أبي اليسر: بردة) أي: شملة مخططة. وقيل: كساء [ ص: 543 ] مربع فيه صغر، يلبسه الأعراب. وجمعه: "البرد".

                                                                                                                              (ومعافري): بفتح الميم. نوع من الثياب، يعمل بقرية تسمى: "معافر".

                                                                                                                              وقيل: هي نسبة إلى قبيلة، نزلت تلك القرية. والميم فيه زائدة.

                                                                                                                              (وعلى غلامه: بردة، ومعافري. فقال له أبي: يا عم! إني أرى في وجهك: سفعة من غضب) بفتح السين وضمها -لغتان- وبإسكان الفاء. أي: علامة وتغير. (قال: أجل! كان لي على فلان بن فلان الحرامي، مال). قال عياض: رواه الأكثرون: بفتح الحاء وبالراء: نسبة إلى (بني حرام).

                                                                                                                              ورواه الطبري: بالزاي مع كسر الحاء.

                                                                                                                              ورواه ابن ماهان: "الجذامي" بضم الجيم، والذال المعجمة.

                                                                                                                              (فأتيت أهله، فسلمت عليه، فقلت: ثم هو؟ قالوا: لا. فخرج علي ابن له، جفر).

                                                                                                                              "الجفر": هو الذي قارب البلوغ. وقيل: هو الذي قوي على الأكل.

                                                                                                                              وقيل: ابن خمس سنين.

                                                                                                                              (فقلت له: أين أبوك؟ قال: سمع صوتك، فدخل أريكة أمي) قال ثعلب: "أريكة" هي السرير الذي في الحجلة. ولا يكون السرير المفرد.

                                                                                                                              [ ص: 544 ] وقال الأزهري: كل ما اتكأت عليه فهو أريكة.

                                                                                                                              (فقلت: اخرج إلي. فقد علمت أين أنت. فخرج. فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا، والله! أحدثك. ثم لا أكذبك. خشيت، والله! أن أحدثك، فأكذبك. وأن أعدك فأخلفك. وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم. وكنت والله! معسرا. قال: قلت: آلله!) بهمزة ممدودة، على الاستفهام. (قال: آلله؟ قلت: آلله؟ قال: آلله. قال: قلت: آلله! قال: الله! بلا مد. والهاء فيهما مكسورة. هذا هو المشهور. قال عياض: رويناه بكسرها وفتحها معا.

                                                                                                                              قال: وأكثر أهل العربية لا يجيزون غير كسرها.

                                                                                                                              (قال: فأتى بصحيفته فمحاها بيده. قال: فإن وجدت قضاء فاقضني. وإلا فأنت في حل. فأشهد: بصر عيني هاتين -ووضع إصبعيه على عينيه- وسمع أذني هاتين) بفتح الصاد، ورفع الراء، وبإسكان ميم "سمع" ورفع العين. هذه رواية الأكثرين.

                                                                                                                              ورواه جماعة: بضم الصاد، وفتح الراء: "عيناي هاتان". "وسمع" بكسر الميم: "أذناي هاتان".

                                                                                                                              [ ص: 545 ] قال النووي: وكلاهما صحيح. لكن الأول أولى.

                                                                                                                              (ووعاه قلبي هذا -وأشار إلى مناط قلبه-) بفتح الميم. وفي بعض النسخ المعتمدة: "نياط" بكسر النون. ومعناهما واحد. وهو عرق معلق بالقلب.

                                                                                                                              (رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم; وهو يقول: "من أنظر معسرا، أو وضع عنه: أظله الله في ظله" قال: فقلت له أنا: يا عم! لو أنك أخذت بردة غلامك، وأعطيته معافريك، وأخذت معافريه، وأعطيته بردتك. فكانت عليك حلة، وعليه حلة؟) هكذا هو في جميع النسخ: "وأخذت" بالواو. وكذا نقله عياض عن جميعها، والروايات.

                                                                                                                              ووجه الكلام وصوابه أن يقول: "أو أخذت" بأو؛ لأن المقصود: أن يكون على أحدهما: بردتان، وعلى الآخر: معافريان.

                                                                                                                              والحلة هي ثوبان; إزار ورداء. قال أهل اللغة: لا تكون إلا ثوبين. سميت بذلك؛ لأن أحدهما يحل على الآخر. وقيل: لا تكون إلا الثوب الجديد، الذي يحل من طيه.

                                                                                                                              (فمسح رأسي، وقال: اللهم! بارك فيه).

                                                                                                                              يا ابن أخي! بصر عيني هاتين، وسمع أذني هاتين. ووعاه قلبي هذا -وأشار إلى مناط قلبه-: رسول الله، صلى الله عليه) وآله [ ص: 546 ] (وسلم، وهو يقول: "أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون" وكان أن أعطيته من متاع الدنيا أهون علي من أن يأخذ من حسناتي يوم القيامة.

                                                                                                                              ثم مضينا: حتى أتينا جابر بن عبد الله في مسجده، وهو يصلي في ثوب واحد، مشتملا به، أي: ملتحفا، اشتمالا ليس باشتمال الصماء المنهي عنه.

                                                                                                                              وفيه: دليل لجواز الصلاة في ثوب واحد، مع وجود الثياب. لكن الأفضل: أن يزيد على ثوب عند الإمكان. وإنما فعل جابر هذا للتعليم. كما قال.

                                                                                                                              (فتخطيت القوم، حتى جلست بينه وبين القبلة. فقلت: يرحمك الله! أتصلي في ثوب واحد، ورداؤك إلى جنبك؟ قال: فقال -بيده في صدري-: هكذا; وفرق بين أصابعه وقوسها: أردت أن يدخل علي الأحمق مثلك، فيراني كيف أصنع، فيصنع مثله).

                                                                                                                              المراد بالأحمق هنا: الجاهل. وحقيقة الأحمق: من يعمل ما يضره، مع علمه بقبحه.

                                                                                                                              وفي هذا: جواز مثل هذا اللفظ؛ للتعزير والتأديب. وزجر المتعلم وتنبيهه؛ ولأن لفظة: "الأحمق، والظالم": قل من ينفك من الاتصاف بهما.

                                                                                                                              وهذه الألفاظ هي التي يؤدب بها المتقون والورعون من استحق [ ص: 547 ] التأديب والتوبيخ، والإغلاظ في القول؛ لأن ما يقوله غيرهم من ألفاظ السفه.

                                                                                                                              (أتانا رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم، في مسجدنا هذا. وفي يده: عرجون ابن طاب) هو نوع من التمر.

                                                                                                                              "والعرجون": الغصن. وسبق شرحه قريبا.

                                                                                                                              (فرأى في قبلة المسجد: نخامة، فحكها بالعرجون. ثم أقبل علينا، فقال: "أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟". قال: فخشعنا) بالخاء المعجمة. كذا رواية الجمهور.

                                                                                                                              ورواه جماعة: بالجيم.

                                                                                                                              قال النووي: وكلاهما صحيح. والأول: من الخشوع، وهو الخضوع والتذلل، والسكون، وأيضا: غض البصر، وأيضا: الخوف. والثاني معناه: الفزع.

                                                                                                                              (ثم قال: "أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟". قال: فخشعنا. ثم قال: "أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟". قلنا: لا أينا، يا رسول الله! قال: "فإن أحدكم إذا قام يصلي، فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه).

                                                                                                                              قال النووي: قال العلماء: تأويله: أي الجهة التي عظمها، أو الكعبة التي عظمها: قبل وجهه. انتهى.

                                                                                                                              قلت: ولا يرضى السلف الصالح بتأويل أخبار الصفات. بل ديدنهم: إمضاؤها على ما جاءت، والإيمان بها كما وردت، من [ ص: 548 ] دون تكييف ولا تأويل، ولا تصريف عن ظاهرها. وهذا هو الصراط المستقيم، والدين القويم. ومن لم يسعه ما وسع هؤلاء فلا وسع الله عليه.

                                                                                                                              (فلا يبصقن أحد قبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره، وتحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة) أي: غلبته بصقة أو نخامة بدرت منه: (فليقل بثوبه هكذا -ثم طوى ثوبه بعضه على بعض- فقال: "أروني عبيرا".

                                                                                                                              قال أبو عبيد: "العبير" بفتح العين، وكسر الموحدة، عند العرب: هو الزعفران وحده. وقال الأصمعي: هو أخلاط من الطيب، تجمع بالزعفران.

                                                                                                                              قال ابن قتيبة: ولا أرى القول إلا ما قاله الأصمعي.

                                                                                                                              (فثار فتى من الحي يشتد) أي: يسعى، ويعدو عدوا شديدا: (إلى أهله، فجاء بخلوق في راحته) أي: كفه.

                                                                                                                              "والخلوق" بفتح الخاء: هو طيب من أنواع مختلفة، يجمع بالزعفران. وهو العبير، على تفسير الأصمعي. وهو ظاهر الحديث؛ فإنه أمر بإحضار عبير، فأحضر خلوقا، فلو لم يكن هو هو لم يكن ممتثلا.

                                                                                                                              وفي هذا الحديث: تعظيم المساجد، وتنزيهها من الأوساخ [ ص: 549 ] ونحوها.

                                                                                                                              وفيه: استحباب تطييبها.

                                                                                                                              وفيه: إزالة المنكر باليد لمن قدر. وتقبيح ذلك الفعل باللسان.

                                                                                                                              (فأخذه رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: فجعله على رأس العرجون. ثم لطخ به على أثر النخامة. فقال جابر: فمن هناك، جعلتم الخلوق في مساجدكم.

                                                                                                                              وسرنا مع رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم في غزوة بطن بواط) بضم الباء وفتحها، والواو مخففة، والطاء مهملة.

                                                                                                                              قال عياض: قال أهل اللغة; هو بالضم. وهي رواية أكثر المحدثين.

                                                                                                                              وكذا قيده البكري، وهو جبل من جبال جهينة. قال: ورواه العذري "بفتح الباء" وصححه ابن سراج.

                                                                                                                              (وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني) بالميم المفتوحة، وإسكان الجيم، هكذا هو في جميع النسخ، عند النووي. وكذا نقله عياض عن عامة الرواة، والنسخ.

                                                                                                                              قال : وفي بعضها: "النجدي" بالنون، بدل الميم. قال : والمعروف الأول، وهو الذي ذكره الخطابي وغيره.

                                                                                                                              (وكان الناضح) هو البعير الذي يستقى عليه (يعقبه) هكذا هو [ ص: 550 ] في رواية أكثرهم بفتح الياء وضم القاف، وفي بعضها: "يعتقبه" بزيادة تاء، وكسر القاف.

                                                                                                                              قال النووي: وكلاهما صحيح. يقال: عقبه، واعتقبه، واعتقبنا، وتعاقبنا.

                                                                                                                              وتعاقبنا. كله من هذه.

                                                                                                                              "العقبة": بضم العين. هي ركوب هذا نوبة وركوب هذا نوبة. قال صاحب العين: هي ركوب مقدار فرسخين.

                                                                                                                              (منا الخمسة، والستة، والسبعة. فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له، فأناخه فركبه. ثم بعثه، فتلدن عليه بعض التلدن) أي: تلكأ وتوقف. (فقال له: شأ، لعنك الله!) بمعجمة بعدها همزة، هكذا هو في نسخ بلاد النووي. وذكر عياض: أن الرواة اختلفوا فيه، فرواه بعضهم كما ذكرنا بمعجمة، وبعضهم بالمهملة. قالوا: وكلاهما كلمة زجر للبعير. يقال منهما: "شأشأت بالبعير" بالمعجمة، والمهملة إذا زجرته، وقلت له: "شأ".

                                                                                                                              قال الجوهري: "وسأسأت بالحمار" بالهمز: إذا دعوته، وقلت له: "تشؤ، تشؤ" بضم التاء، والشين المعجمة، وبعدها همزة.

                                                                                                                              [ ص: 551 ] (قال رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: "من هذا اللاعن بعيره؟". قال: أنا، يا رسول الله! قال: "انزل عنه؛ فلا يصحبنا ملعون. لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم".

                                                                                                                              فيه: النهي عن لعن الدواب، والأمر بمفارقة البعير الذي لعنه صاحبه.

                                                                                                                              (سرنا مع رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، حتى إذا كان عشيشية) هكذا الرواية فيها، على التصغير، مخففة الياء الأخيرة، ساكنة الأولى. قال سيبويه: صغروها على غير تكبيرها. وكان أصلها: "عشيية" فأبدلوا من الياء الوسطى شينا.

                                                                                                                              (ودنونا ماء من مياه العرب: قال رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: من رجل يتقدمنا، فيمدر الحوض) أي: يطينه ويصلحه. (فيشرب ويسقينا)؟ قال جابر: فقمت، فقلت: هذا رجل، يا رسول الله! فقال رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: "أي رجل مع جابر؟" فقام جبار بن صخر. فانطلقنا إلى البئر، فنزعنا في الحوض [ ص: 552 ] سجلا) أي: أخذنا، وجبذنا. "والسجل" بفتح السين، وإسكان الجيم: الدلو المملوءة.

                                                                                                                              (أو سجلين. ثم مدرناه. ثم نزعنا فيه، حتى أفهقناه) هكذا هو في جميع نسخ النووي وغيره، وكذا ذكره عياض عن الجمهور.

                                                                                                                              قال: وفي رواية السمرقندي: "أصفقناه" بالصاد. وكذا ذكره الحميدي: في (الجمع بين الصحيحين) عن رواية مسلم.

                                                                                                                              ومعناهما: "ملأناه".

                                                                                                                              (فكان أول طالع علينا: رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم. فقال: "أتأذنان؟" قلنا: نعم، يا رسول الله!) هذا تعليم منه، صلى الله عليه وآله وسلم لأمته الآداب الشرعية، والورع، والاحتياط، والاستئذان، في مثل هذا، وإن كان يعلم أنهما راضيان، وقد أرصدا ذلك له، صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لمن بعده.

                                                                                                                              (فأشرع ناقته، فشربت) أي: أرسل رأسها في الماء؛ لتشرب (فشنق لها) يقال: شنقتها أشنقها: إذا كففتها بزمامها، وأنت راكبها.

                                                                                                                              وقال ابن دريد: هو أن تجذب زمامها حتى تقارب رأسها قادمة الرحل.

                                                                                                                              [ ص: 553 ] (فشجت) بفاء، وشين، وجيم: مفتوحات. والجيم مخففة. والفاء هنا أصلية.

                                                                                                                              يقال: "فشج البعير" إذا فرج بين رجليه للبول "وفشج" بتشديد الشين، أشد من (فشج) بالتخفيف. قاله الأزهري وغيره.

                                                                                                                              قال النووي: هذا الذي ذكرناه من ضبطه هو الصحيح الموجود في عامة النسخ. وهو الذي ذكره الخطابي والهروي، وغيرهما من أهل الغريب.

                                                                                                                              وذكره الحميدي في (الجمع بين الصحيحين): "فشجت" بتشديد الجيم، وتكون الفاء زائدة للعطف. وفسره الحميدي في (غريب الجمع) له، قال: معناه "قطعت الشرب" من قولهم: "شججت المفازة" إذا قطعتها بالسير.

                                                                                                                              وقال عياض: وقع في رواية العذري: "فثجت": بالثاء المثلثة والجيم. قال: ولا معنى لهذه الرواية، ولا لرواية الحميدي. قال: وأنكر بعضهم: اجتماع الشين والجيم، وادعى أن صوابه: "فشحت" بالحاء المهملة، من قولهم: "شحا فاه" إذا فتحه، فيكون بمعنى: "تفاجت" هذا كلام عياض. والصحيح: ما تقدم عن عامة النسخ. والذي ذكره الحميدي أيضا صحيح. والله أعلم.

                                                                                                                              (فبالت، ثم عدل بها، فأناخها، ثم جاء رسول الله، صلى الله [ ص: 554 ] عليه وآله (وسلم إلى الحوض، فتوضأ منه).

                                                                                                                              فيه: دليل لجواز الوضوء من الماء الذي شربت منه الإبل ونحوها من الحيوان الطاهر، وأنه لا كراهة فيه، وإن كان الماء دون قلتين. قال النووي: وهكذا مذهبنا.

                                                                                                                              (ثم قمت فتوضأت من متوضأ رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، فذهب جبار بن صخر، يقضي حاجته، فقام رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم؛ ليصلي، وكانت علي بردة، ذهبت أن أخالف بين طرفيها، فلم تبلغ لي، وكانت لها ذباذب) أي: أهداب وأطراف، واحدها: "ذبذب" بكسر الذالين. سميت بذلك; لأنها تتذبذب على صاحبها، إذا مشى، أي: تتحرك وتضطرب.

                                                                                                                              (فنكستها) بتخفيف الكاف وتشديدها (ثم خالفت بين طرفيها، ثم تواقصت عليها) أي: أمسكت عليها بعنقي، وخبنته عليها؛ لئلا تسقط (ثم جئت، حتى قمت عن يسار رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم، فأخذ بيدي، فأدراني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر، فتوضأ، ثم جاء، فقام عن يسار رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم، فأخذ رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم بأيدينا جميعا، فدفعنا، حتى أقامنا خلفه).

                                                                                                                              فيه: جواز العمل اليسير في الصلاة، وأنه لا يكره، إذا كان [ ص: 555 ] لحاجة، فإن لم يكن لحاجة كره.

                                                                                                                              وفيه: أن المأموم الواحد يقف على يمين الإمام، وإن وقف على يساره حوله الإمام.

                                                                                                                              وفيه: أن المأمومين يكونان صفا وراء الإمام، كما لو كانوا ثلاثة أو أكثر. قال النووي: هذا مذهب العلماء كافة، إلا ابن مسعود وصاحبيه; فإنهم قالوا: يقف الاثنان عن جانبيه.

                                                                                                                              (فجعل رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم يرمقني) أي: ينظر إلي نظرا متتابعا. (وأنا لا أشعر، ثم فطنت به، فقال هكذا بيده، يعني: شد وسطك، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، قال: "يا جابر؟" قلت: لبيك، يا رسول الله! قال: "إذا كان واسعا فخالف بين طرفيه، وإذا كان ضيقا فاشدده على حقوك) بفتح الحاء وكسرها، وهو معقد الإزار، والمراد هنا: أن يبلغ السرة.

                                                                                                                              وفيه: جواز الصلاة في ثوب واحد، وأنه إذا شد المئزر وصلى فيه، وهو ساتر ما بين سرته وركبته: صحت صلاته، وإن كانت عورته ترى من أسفله، لو كان على سطح ونحوه، فإن هذا لا يضره.

                                                                                                                              (سرنا مع رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، وكان قوت كل رجل منا -في كل يوم- تمرة، فكان يمصها) بفتح الميم، على اللغة المشهورة. وحكي: ضمها.

                                                                                                                              [ ص: 556 ] وفيه: ما كانوا عليه من ضيق العيش والصبر عليه، في سبيل الله وطاعته.

                                                                                                                              (ثم يصرها في ثوبه، وكنا نختبط بقسينا) أي: نضرب الشجر ليتحات ورقه، فنأكله. "والقسي": جمع "قوس".

                                                                                                                              (ونأكل. حتى قرحت أشداقنا أي: تجرحت، من خشونة الورق وحرارته.

                                                                                                                              (فأقسم): أي: أحلف (أخطأها رجل منا) أي: فاتته (يوما، فانطلقنا به ننعشه) أي: نرفعه ونقيمه، من شدة الضعف والجهد. قال عياض: الأشبه عندي; أن معناه: نشد جانبه في دعواه، ونشهد له. (فشهدنا له أنه لم يعطها، فأعطيها، فقام فأخذها).

                                                                                                                              معناه: أنه كان للتمر قاسم يقسمه بينهم، فيعطي كل إنسان تمرة كل يوم. فقسم في بعض الأيام ونسي إنسانا، فلم يعطه تمرته، وظن أنه أعطاه، فتنازعا في ذلك، وشهدنا له: أنه لم يعطها، فأعطيها بعد الشهادة.

                                                                                                                              وفيه: دليل لما كانوا عليه من الصبر.

                                                                                                                              وفيه: جواز الشهادة على النفي، في المحصور الذي يحاط به.

                                                                                                                              (سرنا مع رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، حتى نزلنا واديا أفيح) بالفاء، أي: واسعا (فذهب رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر [ ص: 557 ] رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، فلم ير شيئا يستتر به. وإذا شجرتان بشاطئ الوادي) أي: بجانبه. (فانطلق رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: "انقادي علي، بإذن الله" فانقادت معه، كالبعير المخشوش): بالخاء والشين المعجمتين، وهو الذي يجعل في أنفه: "خشاش": بكسر الخاء، وهو عود يجعل في أنف البعير، إذا كان صعبا، ويشد فيه حبل: ليذل وينقاد، وقد يتمانع لصعوبته، فإذا اشتد عليه وآلمه انقاد شيئا؛ ولهذا قال: (الذي يصانع قائده) وهذا موضع ترجمة الباب.

                                                                                                                              وفيه: هذه المعجزات الظاهرات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

                                                                                                                              (حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: "انقادي علي بإذن الله" فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف): بفتح الميم والصاد، وهو نصف المسافة، وممن صرح بفتحه: الجوهري، وآخرون.

                                                                                                                              (مما بينهما لأم بينهما): بهمزة مقصورة، وممدودة. وكلاهما [ ص: 558 ] صحيح، أي: جمع بينهما.

                                                                                                                              وفي بعض النسخ: "ألام" بالألف، من غير همزة. قال عياض وغيره: هو تصحيف.

                                                                                                                              (يعني: جمعهما. فقال: "التئما علي بإذن الله، فالتأمتا. قال جابر: فخرجت أحضر): بضم الهمزة، وإسكان الحاء، وكسر الضاد المعجمة. أي: أعدو، وأسعى سعيا شديدا. (مخافة أن يحس رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: بقربي، فيبتعد -قال محمد بن عباد: فيتبعد- فجلست أحدث نفسي، فحانت مني لفتة).

                                                                                                                              "اللفتة": النظرة إلى جانب، وهي بفتح اللام، ووقع لبعض الرواة: "فحالت" باللام. والمشهور: بالنون. وهما بمعنى. فالحين والحال: الوقت. أي: وقعت، واتفقت، وكانت.

                                                                                                                              (فإذا أنا برسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم مقبلا، وإذا الشجرتان قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فرأيت رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، وقف وقفة، فقال برأسه هكذا: -وأشار أبو إسماعيل برأسه، يمينا وشمالا-) وفي بعض النسخ: "ابن إسماعيل" .

                                                                                                                              قال النووي: وكلاهما صحيح، هو حاتم بن إسماعيل. وكنيته: "أبو إسماعيل".

                                                                                                                              [ ص: 559 ] (ثم أقبل. فلما انتهى إلي، قال: "يا جابر! هل رأيت بمقامي؟". قلت: نعم، يا رسول الله! قال: "فانطلق إلى الشجرتين، فاقطع من كل واحدة منهما غصنا، فأقبل بهما، حتى إذا قمت بمقامي فأرسل غصنا عن يمينك، وغصنا عن يسارك" قال جابر: فقمت، فأخذت حجرا، فكسرته وحسرته) بتخفيف السين، أي: أحددته، ونحيت عنه ما يمنع حدته، بحيث صار مما يمكن قطعي الأغصان به، وهو معنى قوله: (فانذلق لي) بالذال، أي: صار حادا.

                                                                                                                              وقال الهروي ومن تابعه: الضمير في "حسرته": عائد على الغصن، أي: حسرت غصنا من أغصان الشجرة، أي: قشرته بالحجر، وأنكره عياض عليه وعلى متابعيه. وقال: سياق الكلام يأبى هذا؛ لأنه حسره، ثم أتى الشجرة، فقطع الغصنين، كما قال: (فأتيت الشجرتين، فقطعت من كل واحدة منهما غصنا) وهذا صريح في لفظه، ولأنه قال: "حسرته فانذلق" والذي يوصف بالانذلاق: الحجر لا الغصن. والصواب: أنه إنما حسر الحجر، وبه قال الخطابي.

                                                                                                                              "وحسرته": بالسين في جميع النسخ، وكذا هو في الجمع بين الصحيحين.

                                                                                                                              وفي كتاب الخطابي والهروي وجميع كتب الغريب، وادعى عياض روايته عن جميع شيوخهم لهذا الحرف: بالشين المعجمة.

                                                                                                                              [ ص: 560 ] وادعى أنه أصح. قال النووي: وليس كما قال، والله أعلم بالحال.

                                                                                                                              (ثم أقبلت أجرهما، حتى قمت مقام رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: أرسلت غصنا عن يميني، وغصنا عن يساري. ثم لحقته، فقلت: قد فعلت يا رسول الله! فعم ذاك؟ قال: "إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفه) أي: يخفف (ذاك عنهما مادام الغصنان رطبين).

                                                                                                                              فيه: أن الغصن الرطب يسبح لله تعالى، وأن التسبيح له سبحانه سبب لخفة العذاب.

                                                                                                                              (قال: فأتينا العسكر، فقال رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: "يا جابر! ناد بوضوء". فقلت: ألا وضوء؟ ألا وضوء؟ ألا وضوء؟ قال: قلت: يا رسول الله! ما وجدت في الركب من قطرة. وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: الماء في أشجاب له) جمع "شجب" بإسكان الجيم، وهو "السقاء" الذي قد أخلق وبلي، وصار شنا. يقال: "شاجب" أي: يابس. وهو من "الشجب" الذي هو الهلاك. ومنه حديث ابن عباس، رضي الله عنهما: "قام إلى شجب، فصب منه الماء، وتوضأ". ومثله قوله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: "فانظر، هل في أشجابه من شيء؟".

                                                                                                                              [ ص: 561 ] وأما قول المازري وغيره: أن المراد بالأشجاب هنا: "الأعواد التي تعلق عليها القربة": فغلط؛ لقوله: "يبرد فيها" (على حمارة من جريد): بكسر الحاء، وتخفيف الميم والراء، وهي أعواد تعلق عليها أسقية الماء.

                                                                                                                              قال عياض: ووقع لبعض الرواة: "حمار" بحذف الهاء. ورواية الجمهور: "حمارة" بالهاء، وكلاهما صحيح. ومعناهما ما ذكرنا.

                                                                                                                              (قال: فقال لي: "انطلق إلى فلان بن فلان، الأنصاري. فانظر، هل في أشجابه من شيء؟" قال: فانطلقت إليه، فنظرت فيها، فلم أجد فيها إلا قطرة) أي: يسيرة (في عزلاء): بفتح العين وإسكان الزاي، وبالمد. هي: فم القربة (شجب منها، لو أني أفرغه لشربه يابسه) معناه: أنه قليل جدا، فلقلته مع شدة يبس باقي الشجب "وهو السقاء" لو أفرغته لاشتفه اليابس منه، ولم ينزل منه شيء.

                                                                                                                              (فأتيت رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، فقلت: يا رسول الله! لم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها، لو أني أفرغه لشربه يابسه. قال: "اذهب. فائتني به". فأتيته به، فأخذه بيده، فجعل يتكلم بشيء، لا أدري ما هو، ويغمزه بيده) وفي بعض النسخ: "بيديه" أي: يعصره (ثم أعطانيه، فقال: [ ص: 562 ] "يا جابر! ناد بجفنة"): بفتح الجيم (فقلت: يا جفنة الركب!) أي: يا صاحب جفنة الركب! حذف المضاف للعلم بأنه المراد، وأن الجفنة لا تنادى.

                                                                                                                              ومعناه: يا صاحب جفنة الركب! التي تشبعهم، أحضرها. أي: من كان عنده جفنة بهذه الصفة، فليحضرها. (فأتيت بها تحمل، فوضعتها بين يديه. فقال رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: بيده في الجفنة، هكذا; فبسطها، وفرق بين أصابعه، ثم وضعها في قعر الجفنة. وقال: "خذ يا جابر! فصب علي، وقل باسم الله" فصببت عليه، وقلت: باسم الله. فرأيت الماء يفور من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، ثم فارت الجفنة، ودارت حتى امتلأت. فقال: "يا جابر! ناد من كان له حاجة بماء" قال: فأتى الناس، فاستقوا حتى رووا. قال: فقلت: هل بقي أحد له حاجة؟ فرفع رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: يده من الجفنة، وهي ملأى.

                                                                                                                              وشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم الجوع. فقال: "عسى الله تعالى أن يطعمكم" فأتينا سيف [ ص: 563 ] البحر) بكسر السين، وإسكان الياء: هو ساحله (فزخر البحر زخرة) بالزاي والخاء. أي: علا موجه (فألقى دابة، فأورينا) أي: أوقدنا (على شقها النار، فاطبخنا وأشوينا، وأكلنا وشبعنا. قال جابر: فدخلت أنا، وفلان، وفلان -حتى عد خمسة- في حجاج عينها) بكسر الحاء وفتحها، وهو العظم المستدير حول العين.

                                                                                                                              (ما يرانا أحد، حتى خرجنا، فأخذنا ضلعا من أضلاعه، فقوسناه، ثم دعونا بأعظم رجل) بالجيم: في رواية الأكثرين. وهو الأصح. ورواه بعضهم: بالحاء. وكذا وقع لرواة البخاري بالوجهين.

                                                                                                                              (في الركب، وأعظم جمل في الركب، وأعظم كفل في الركب) "الكفل" هنا: بكسر الكاف، وإسكان الفاء. قال الجمهور: المراد به هنا: الكساء، الذي يحويه راكب البعير على سنامه؛ لئلا يسقط، فيحفظ الكفل الراكب. قال الهروي: قال الأزهري: ومنه اشتقاق قوله تعالى: يؤتكم كفلين من رحمته أي: نصيبين، يحفظانكم من الهلكة، كما يحفظ الكفل الراكب. يقال منه: تكفلت البعير وأكفلته: إذا أدرت ذلك الكساء حول سنامه، ثم ركبته. وهذا الكساء: "كفل" بكسر الكاف، وسكون الفاء.

                                                                                                                              قال عياض: وضبطه بعض الرواة: بفتح الكاف والفاء.

                                                                                                                              [ ص: 564 ] والصحيح الأول.

                                                                                                                              (فدخل تحته ما يطأطئ رأسه).

                                                                                                                              فيه: بيان عظم عظم عين تلك الدابة، وأنها كانت بهذه الصفة العظيمة. وقدرة الله تعالى تصلح لكل شيء. وهو على كل شيء قدير.

                                                                                                                              قال النووي: وفي هذا الحديث معجزات ظاهرات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. انتهى.

                                                                                                                              بتوفيق الله تعالى انتهى الجزء الثامن من كتاب السراج الوهاج، ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء التاسع. وأوله: "باب: في انشقاق القمر".




                                                                                                                              الخدمات العلمية