الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4385 باب في قصة موسى مع الخضر، عليهما السلام

                                                                                                                              وقال النووي: (باب من فضائل الخضر، عليه السلام). انتهى.

                                                                                                                              "والخضر" بفتح الخاء وكسر الضاد. ويجوز: إسكان الضاد، مع فتح الخاء وكسرها، كما في نظائره. "والخضر" لقب، وسيأتي بيان اسمه.

                                                                                                                              وفي حديث أبي هريرة يرفعه، عند البخاري: "إنما سمي الخضر: لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء. "الفروة": جلدة وجه الأرض.

                                                                                                                              [ ص: 206 ] وقيل: الهشيم من النبات، وهذا متعين لكونه نصا صحيحا صريحا في محل النزاع، مرفوعا إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: فلا التفات بعد هذا إلى وجه آخر، في تسميته بذلك.

                                                                                                                              قال النووي: وقيل: لأنه كان إذا صلى، اخضر ما حوله. قال: والصواب الأول. فقد صح في البخاري.. الخ.

                                                                                                                              قال: وبسطت أحواله في "تهذيب الأسماء واللغات". انتهى. والذي بسطه هناك، هو مطوي في ضمن هذا المقام.

                                                                                                                              قال فيه: وقيل: اسمه "بليا" بفتح الباء وسكون اللام، بعدها تحتية. مقصور. ابن ملكان، بن فالغ، بن عابر بن شالخ، بن أرفخشد، بن سام، بن نوح.

                                                                                                                              [ ص: 207 ] وقيل: "كليان".

                                                                                                                              قال في الفتح: فعلى هذا فمولده قبل إبراهيم الخليل؛ لأنه يكون ابن عم جد إبراهيم. وعن ابن عباس: هو ابن آدم لصلبه. وهو ضعيف منقطع.

                                                                                                                              وعن أبي حاتم: أنه ابن قابيل بن آدم. وعن "ابن لهيعة": كان ابن فرعون نفسه. وقيل: ابن بنت فرعون. وقيل: كان أخاه إلياس. وعن قوم: أنه كان من الملائكة، وليس من بني آدم.

                                                                                                                              قال النووي في "تهذيب الأسماء": وكنية الخضر: "أبو العباس". وهو صاحب موسى النبي "عليه السلام". الذي سأل السبيل إلى لقيه. وقد أنبأ الله تعالى عليه في كتابه، بقوله: [ ص: 208 ] فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما وأخبر عنه في باقي الآيات: تلك الأعجوبات. وقال: موسى الذي صحبه: هو موسى بني إسرائيل، كليم الله تعالى. كما جاء به الحديث المشهور، في صحيحي البخاري ومسلم. وهو مشتمل على عجائب، من أمرهما. والله أعلم.

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 136 - 142 جـ 15، المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس إن نوفا البكالي يزعم أن موسى عليه السلام صاحب بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر عليه السلام، فقال: كذب عدو الله! سمعت أبي بن كعب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قام موسى عليه السلام خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، قال: فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه أن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: أي رب كيف لي به؟ فقيل له: احمل حوتا في مكتل فحيث تفقد الحوت فهو ثم؛ فانطلق وانطلق معه فتاه وهو يوشع بن نون فحمل موسى عليه السلام حوتا في مكتل وانطلق هو وفتاه يمشيان [ ص: 209 ] حتى أتيا الصخرة، فرقد موسى عليه السلام وفتاه فاضطرب الحوت في المكتل حتى خرج من المكتل، فسقط في البحر قال: وأمسك الله عنه جرية الماء حتى كان مثل الطاق، فكان للحوت سربا وكان لموسى وفتاه عجبا؛ فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ونسي صاحب موسى أن يخبره؛ فلما أصبح موسى عليه السلام قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال: ولم ينصب حتى جاوز المكان الذي أمر به قال: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال موسى ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال: يقصان آثارهما حتى أتيا الصخرة، فرأى رجلا مسجى عليه بثوب، فسلم عليه موسى فقال له الخضر أنى بأرضك السلام؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، قال له موسى عليه السلام هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال له الخضر فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا قال نعم فانطلق الخضر وموسى يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما [ ص: 210 ] سفينة فكلماهم أن يحملوهما فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه؛ فقال له موسى قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذا غلام يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله، فقال موسى أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال: وهذه أشد من الأولى قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه يقول: مائل، قال الخضر بيده هكذا فأقامه قال له موسى قوم أتيناهم فلم يضيفونا ولم يطعمونا لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الأولى من موسى نسيانا، قال: وجاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ثم نقر في البحر، فقال له [ ص: 211 ] الخضر ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر قال سعيد بن جبير وكان يقرأ: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا، وكان يقرأ: وأما الغلام فكان كافرا].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن سعيد بن جبير؛ قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما، (إن نوفا البكالي) هكذا ضبطه الجمهور بكسر الباء، وتخفيف الكاف. وروي بفتحها، وتشديد الكاف.

                                                                                                                              قال عياض: هذا الثاني هو ضبط أكثر الشيوخ، وأصحاب الحديث.

                                                                                                                              قال: والصواب: الأول. وهو قول المحققين. وهو منسوب إلى "بني بكال" بطن من "حمير". وقيل: من "همدان".

                                                                                                                              و"نوف" هذا، هو ابن "فضالة". كذا قاله ابن دريد، وغيره. وهو ابن امرأة "كعب الأحبار". وقيل: ابن أخيه. والمشهور: الأول. قاله ابن أبي حاتم، وغيره. قالوا: وكنيته: "أبو يزيد". وقيل: "أبو رشد".

                                                                                                                              وكان عالما حكيما، قاضيا إماما: لأهل دمشق.

                                                                                                                              (يزعم: أن موسى "عليه السلام" صاحب بني إسرائيل، ليس هو موسى) عليه السلام، صاحب الخضر) عليه السلام. وإنما هو موسى آخر، يسمى: "موسى بن ميشا بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب".

                                                                                                                              [ ص: 212 ] (فقال) ابن عباس: (كذب عدو الله).

                                                                                                                              قال العلماء: هو على وجه الإغلاظ والزجر عن مثل قوله، لا أنه يعتقد: أنه عدو الله حقيقة. إنما قاله مبالغة في إنكار قوله، لمخالفة قول الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم. وكان ذلك في حال غضب "ابن عباس)، لشدة إنكاره. وحال الغضب تطلق الألفاظ، ولا تراد بها حقائقها.

                                                                                                                              (سمعت أبي بن كعب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم يقول: قام موسى خطيبا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا أعلم) أي: في اعتقاده. وإلا فكان "الخضر" أعلم منه، كما صرح به في الحديث. (قال: فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه). أي: كان حقه أن يقول: الله أعلم. فإن مخلوقات الله تعالى، لا يعلمها إلا هو. قال الله تعالى: وما يعلم جنود ربك إلا هو ).

                                                                                                                              (فأوحى الله إليه: أن عبدا من عبادي بمجمع البحرين). قال قتادة: هو ملتقى بحري "فارس" و"الروم". مما يلي المشرق.

                                                                                                                              [ ص: 213 ] وحكى الثعلبي عن "أبي بن كعب): أنه بإفريقية.

                                                                                                                              (هو أعلم منك) أي: بشيء مخصوص. (قال موسى: أي رب! كيف لي به؟) أي: كيف يتهيأ لي أن أظفر به؟

                                                                                                                              (فقيل له: احمل حوتا). الحوت: السمكة. وكانت سمكة مالحة، كما صرح به في الرواية الثانية.

                                                                                                                              (في مكتل) بكسر الميم، وسكون الكاف، وفتح التاء. وهو: القفة، والزنبيل.

                                                                                                                              (فحيث تفقد) بكسر القاف. أي: يذهب منك. يقال: فقده، وافتقده.

                                                                                                                              (الحوت، فهو ثم) بفتح الثاء، وتشديد الميم. أي: هناك.

                                                                                                                              واستدل العلماء، بسؤال "موسى" السبيل إلى لقاء "الخضر": على استحباب الرحلة في طلب العلم، واستحباب الاستكثار منه، وأنه يستحب للعالم وإن كان من العلم بمحل عظيم: أن يأخذه ممن هو أعلم منه، ويسعى إليه في تحصيله.

                                                                                                                              وفيه: فضيلة طلب العلم.

                                                                                                                              وفي تزوده الحوت وغيره: جواز التزود في السفر.

                                                                                                                              [ ص: 214 ] (فانطلق) موسى "عليه السلام)، (وانطلق معه فتاه) أي: صاحبه. (وهو يوشع بن نون) بن إفراثيم بن يوسف "عليه السلام" وهو بالصرف، كنوح.

                                                                                                                              وهذا الحديث، يرد قول من قال من المفسرين: إن فتاه "عبد" له، وغير ذلك من الأقوال الباطلة.

                                                                                                                              (فحمل موسى "عليه السلام" حوتا في مكتل، وانطلق هو وفتاه يمشيان، حتى أتيا الصخرة التي عند ساحل مجمع البحرين. ويقال ثمة "عين" تسمى: بعين الحياة.

                                                                                                                              (فرقد موسى وفتاه، فاضطرب الحوت) أي: تحرك؛ لأنه أصابه من ماء عين الحياة (في المكتل، حتى خرج من المكتل، فسقط في البحر ) فاتخذ سبيله في البحر سربا .

                                                                                                                              [ ص: 215 ] (قال: وأمسك الله عنه: جرية الماء)، بكسر الجيم (حتى كان مثل الطاق) أي: مثل "عقد البناء"، وجمعه "طيقان وأطواق"، وهو الأزج وما عقد أعلاه من البناء، وبقي ما تحته خاليا.

                                                                                                                              قال الكرماني: معجزة لموسى والخضر. انتهى. قلت: وفيه نظر.

                                                                                                                              (فكان للحوت سربا) أي: مسلكا. (وكان لموسى ولفتاه) عجبا. فانطلقا بقية يومهما وليلتهما) بالنصب والجر. (ونسي صاحب موسى: أن يخبره. فلما أصبح قال موسى عليه السلام لفتاه) أي: يوشع آتنا غداءنا طعامنا الذي نأكله، أول النهار.

                                                                                                                              [ ص: 216 ] لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا تعب ومشقة.

                                                                                                                              قالوا: لحقه النصب والجوع؛ ليطلب الغداء، فيتذكر به نسيان الحوت. ولهذا (قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولم ينصب) أي: لم يجد موسى النصب (حتى جاوز المكان الذي أمر به. قال) فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت أن أخبرك بحياته، وانتصاب الماء مثل الطاق، وغيره. وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره لما بهر العقل، وحار الفهم: من عظيم القدرة. واتخذ سبيله في البحر عجبا وهو كونه كالسرب، فكان لدخول الحوت في الماء مسلكا.

                                                                                                                              قيل: إن لفظة "عجبا" يجوز: أن تكون من تمام كلام يوشع.

                                                                                                                              وقيل: من كلام موسى. أي: قال موسى: عجبت من هذا عجبا.

                                                                                                                              وقيل: من كلام الله تعالى. ومعناه: اتخذ موسى "سبيل الحوت في البحر" عجبا.

                                                                                                                              قال موسى: ذلك ما كنا نبغ أي: نطلب. ومعناه: أن الذي جئنا نطلبه، هو الموضع الذي نفقد فيه الحوت.

                                                                                                                              [ ص: 217 ] فارتدا على آثارهما قصصا أي: رجعا في الطريق الذي جاءا فيه. (قال: يقصان آثارهما) قصصا. أي: يتبعان آثار مسيرهما اتباعا (حتى أتيا الصخرة) وانتهيا إليها، يلتمسان الخضر (فرأى رجلا نائما مسجى عليه بثوب) أي: مغطى كله به. (فسلم عليه موسى) عليه السلام، فرد عليه الخضر، (فقال له الخضر: أنى بأرضك السلام؟) وفي رواية البخاري: "وهل بأرضي من سلام؟" أي: من أين السلام في هذه الأرض، التي لا يعرف فيها السلام؟ قال العلماء: "أنى" تأتي بمعنى: أين، ومتى، وحيث، وكيف.

                                                                                                                              (قال: أنا موسى. قال) الخضر: (موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم) أنا موساهم. (قال إنك على علم من علم الله، علمكه الله لا أعلمه) جميعه. قال القسطلاني: هذا التقدير واجب، دافع لمن استدل بقوله، (وأنا على علم من علم الله، علمنيه: لا تعلمه): بأن نبينا، صلى الله عليه وآله وسلم: اختص بجمع الشريعة والحقيقة، ولم يكن لغيره من الأنبياء إلا أحدهما؛ لأنه يلزم منه: خلو بعض أولي العزم "غير نبينا، [ ص: 218 ] صلى الله عليه وآله وسلم": من الحقيقة، وإخلاء الخضر عن علم الشريعة. ولا يخفى ما فيه. قال: ولا ريب أن العالم بالعلم الخاص، لا يكون أعلم ممن له العلم العام. وهو حكم الشريعة والتكليف. فإن ضرورة الناس تدعوهم إلى ذلك.

                                                                                                                              (قال له موسى عليهما السلام: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا؟ قال: إنك لن تستطيع معي صبرا)؛ لأن موسى لا يصبر على ترك الإنكار، إذا رأى ما يخالف الشرع.

                                                                                                                              (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا؟). أي: كيف تصبر على ما أتولى من أمور: ظواهرها مناكير، وبواطنها لم يحط بها خبرك؟

                                                                                                                              قال ستجدني إن شاء الله صابرا، ولا أعصي لك أمرا قال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء، حتى أحدث لك منه ذكرا . قال: نعم).

                                                                                                                              وفي هذا: الأدب مع العالم، وحرمة المشايخ. وترك الاعتراض عليهم، وتأويل ما لا يفهم ظاهره من أفعالهم وحركاتهم وأقوالهم، والوفاء بعهودهم، والاعتذار عند مخالفة عهدهم. كما يدل على ذلك آخر هذه القصة، وأوسطها.

                                                                                                                              [ ص: 219 ] (قال) فانطلق الخضر وموسى)، ومعهما "يوشع بن نون"، (يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، فكلماهم: أن يحملوهما. فعرفوا) أي: أصحاب السفينة (الخضر، فحملوهما بغير نول) بفتح النون، وإسكان الواو. أي: بغير أجر. و"النول، والنوال": العطاء.

                                                                                                                              فيه: جواز إجارة السفينة. وجواز ركوب السفينة، والدابة، وسكنى الدار، ولبس الثوب، ونحو ذلك: بغير أجرة، برضى صاحبه.

                                                                                                                              (فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة، فنزعه. فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت) بفتح الميم (إلى سفينتهم، فخرقتها لتغرق أهلها؟) قرئ في السبع: بضم التاء، ونصب "أهلها". وبفتح الياء، ورفع "أهلها".

                                                                                                                              ومعناه: أن خرقها سبب لدخول الماء فيها، المفضي إلى غرق أهلها.

                                                                                                                              ولم يقل "لتغرقنا". قال السفاقسي: نسي نفسه واشتغل بغيره، في حالة يقول فيها المرء: "نفسي نفسي".

                                                                                                                              واللام في "لتغرق" للعلة. أو للصيرورة. لقد جئت شيئا إمرا : عظيما كثير الشدة.

                                                                                                                              [ ص: 220 ] فيه: الحكم بالظاهر، حتى يتبين خلافه، لإنكار موسى عليه السلام.

                                                                                                                              (قال) الخضر: ألم أقل: إنك لن تستطيع معي صبرا؟ استفهام على سبيل الإنكار.

                                                                                                                              قال: لا تؤاخذني بما نسيت يعني: وصيته بأن لا يعترض عليه.

                                                                                                                              (ولا ترهقني): لا تغشني وتحملني (من أمري عسرا). وهو اعتذار بالنسيان. أو أراد بالنسيان: الترك. أي: لا تؤاخذني بما تركت.

                                                                                                                              (ثم خرجا من السفينة. فبينما هما يمشيان على الساحل: إذا غلام) وضيء الوجه اسمه: "جيسون" بالجيم المفتوحة، والياء الساكنة. (يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه، فاقتلعه بيده، فقتله).

                                                                                                                              قال العلماء: فيه دليل على أنه كان صبيا ليس ببالغ؛ لأنه حقيقة الغلام. وهذا قول الجمهور: أنه لم يكن بالغا. وزعمت طائفة: أنه كان بالغا، يعمل بالفساد. واحتجت بقوله: (فقال) له (موسى: أقتلت نفسا زكية بغير نفس؟ لقد جئت شيئا نكرا ). فدل على أنه ممن يجب [ ص: 221 ] عليه القصاص. والصبي لا قصاص عليه. وبقوله: "كان كافرا" في قراءة ابن عباس. كما ذكر في آخر الحديث.

                                                                                                                              والجواب عن الأول من وجهين؛

                                                                                                                              أحدهما: أن المراد: التنبيه على أنه قتل بغير حق.

                                                                                                                              والثاني: أنه يحتمل أن شرعهم كان إيجاب القصاص على الصبي، كما أنه في شرعنا: يؤاخذ بغرامة المتلفات.

                                                                                                                              والجواب عن الثاني من وجهين؛ أحدهما: أنه شاذ، لا حجة فيه.

                                                                                                                              والثاني: أنه سماه بما يؤول إليه، لو عاش. كما جاء في الرواية الثانية.

                                                                                                                              ومعنى "زكية": طاهرة من الذنوب.

                                                                                                                              ولفظ البخاري: ("فقلعه بيده هكذا"، وأومأ سفيان بن عيينة بأطراف أصابعه، كأنه يقطف بها شيئا). انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 222 ] فقال له موسى - منكرا عليه أشد من الأولى - ما تقدم. قال عياض: اختلف العلماء في قول موسى: "إمرا ونكرا"، أيهما أشد؟ فقيل: "إمرا" لأنه العظيم. ولأنه في مقابلة خرق السفينة، الذي يترتب عليه في العادة: هلاك الذين فيها، وأموالهم. وهو أعظم من قتل الغلام. فإنها نفس واحدة.

                                                                                                                              وقيل: "نكرا" أشد؛ لأنه قاله عند مباشرة القتل حقيقة. وأما القتل في خرق السفينة فمظنون. وقد يسلمون في العادة. وقد سلموا في هذه القضية. وليس فيه ما هو محقق، إلا مجرد الخرق، والله أعلم.

                                                                                                                              (قال) الخضر: ألم أقل لك: إنك لن تستطيع معي صبرا؟ قال: وهذه أشد من الأولى، قال: إن سألتك عن شيء بعدها أي: بعد هذه المرة، فلا تصاحبني أي: وفارقني. قد بلغت من لدني عذرا : متعلق بـ (بلغت). و"لدني" بضم الدال، وتشديد النون. أدخلوا نون الوقاية على "الدن" لتقيها من الكسر، محافظة على سكونها.

                                                                                                                              وقال النووي: فيه ثلاث قراءات في السبع؛ الأكثرون: بما ذكر. والثانية: بالضم، وتخفيف النون. والثالثة: بإسكان الدال وإشمامها الضم، وتخفيف النون.

                                                                                                                              ومعناه: قد بلغت إلى الغاية، التي تعذر بسببها في فراقي.

                                                                                                                              [ ص: 223 ] فانطلقا، حتى إذا أتيا أهل قرية . قال الثعلبي: قال ابن عباس: هي "إنطاكية". وقال ابن سيرين: "الأيلة" وهي أبعد الأرض من السماء.

                                                                                                                              استطعما أهلها واستضافوهم. فيه: جواز سؤال الطعام عند الحاجة. وتكرير "أهلها" قيل: للتأكيد. وقيل: للتأسيس.

                                                                                                                              فأبوا أن يضيفوهما . أي: أن يعطوهما ما هو حق واجب عليهم، من ضيافتهما.

                                                                                                                              فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض، فأقامه . يقول: مائل) هذا من المجاز؛ لأن الجدار لا يكون له حقيقة إرادة.

                                                                                                                              ومعناه: قرب من الانقضاض، ودنا من السقوط.

                                                                                                                              واستدل أهل الأصول بهذا: على وجود المجاز في الكتاب العزيز. وله نظائر معروفة.

                                                                                                                              قال "وهب بن منبه": كان طول هذا الجدار إلى السماء: مائة ذراع.

                                                                                                                              [ ص: 224 ] (قال الخضر بيده هكذا): وأشار سفيان بن عيينة - كأنه يمسح شيئا - إلى فوق بالضم (فأقامه. قال له موسى: قوم أتيناهم) فاستطعمناهم، واستضفناهم: (فلم يضيفونا، ولم يطعمونا)، عمدت إلى حائطهم المائل، فأقمته. (ولو شئت لاتخذت عليه أجرا) أي: جعلا وأجرة، نأكل بها.

                                                                                                                              قال هذا أي الاعتراض الثالث: فراق أي سبب فراق بيني وبينك ، أي: الفراق الموعود بقوله: فلا تصاحبني . أو هذا الوقت.

                                                                                                                              (سأنبئك) أي: سأخبرك (بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) لكونه: منكرا من حيث الظاهر.

                                                                                                                              (قال رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: "يرحم الله موسى! لوددت: أنه كان صبر، حتى يقص علينا من أخبارهما".

                                                                                                                              قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم: "كانت الأولى من موسى نسيانا".

                                                                                                                              قال: "وجاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة، ثم نقر في البحر". فقال له الخضر: "ما نقص علمي وعلمك - من علم الله عز وجل -: إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر").

                                                                                                                              [ ص: 225 ] قال النووي: قال العلماء: لفظ "النقص" هنا: ليس على ظاهره. وإنما معناه: أن علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله تعالى: كنسبة ما نقره هذا العصفور إلى ماء البحر. هذا على التقريب إلى الأفهام. وإلا فنسبة علمهما: أقل وأحقر.

                                                                                                                              وقد جاء في رواية البخاري: "ما علمي وعلمك في جنب الله، إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره" أي: في جنب معلوم الله.

                                                                                                                              وقد يطلق "العلم" بمعنى "المعلوم". وهو من إطلاق المصدر لإرادة المفعول، كقولهم: "رغم ضرب السلطان" أي: مضروبه.

                                                                                                                              قال عياض: وقال بعض من أشكل عليه هذا الحديث: "إلا" هنا، بمعنى: "ولا". أي: ولا نقص، ولا مثل ما أخذ؛ لأن علم الله تعالى؛ لا يدخله نقص.

                                                                                                                              قال: ولا حاجة إلى هذا التكلف. بل هو صحيح كما بينا. انتهى.

                                                                                                                              قلت: وفي هذا الحديث: دليل على نفي علم الغيب، عن غير الله تعالى: بطريق دلالة التضمن، وإشارة النص، وفحوى الخطاب. وأن أحدا لا إحاطة له بعلمه سبحانه، وإن كان نبيا. وعلى هذا تظاهرت أدلة الكتاب، والسنة المطهرة. وإليه ذهب الجماهير من السلف الصالح، [ ص: 226 ] وكافة العلماء: من المجتهدين، والمحدثين، والفقهاء المفرعين، إلا من لا يعتد به. وهذا هو الصواب الصحيح المختار. وقد قال تعالى: وما يعلم جنود ربك إلا هو وكم من آيات بينات، وأحاديث شريفات: دلت على نفي علم الغيب عن جميع الناس، إلا ما شاء الله وارتضاه لأحد من عباده المرسلين، في شيء يسير من الأشياء، لا على الإطلاق؛ لأنه سبحانه وتعالى: استأثر بذلك. ومن ذلك الذي يشاركه "عز وجل" فيما اختص به هنالك؟ والله أعلم.

                                                                                                                              (قال سعيد بن جبير: وكان "ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ: "وكان أمامهم") بدل قراءة العامة: "وراءهم" (ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا. وكان يقرأ: "وأما الغلام فكان كافرا")، وكان أبواه مؤمنين.

                                                                                                                              وهذا الحديث يقال له: "حديث الخضر مع موسى، عليهما السلام" وله ألفاظ وطرق، في الصحيحين الكريمين. وفيه من الفوائد: ما لا [ ص: 227 ] يحصى في هذا المختصر، ويستدعي مؤلفا مستقلا في هذا الباب، شاملا للعين منه والأثر.

                                                                                                                              قال النووي: فيه "إثبات كرامات الأولياء"، على قول من يقول: الخضر ولي. قال الجزي المفسر، وأبو عمرو: هو نبي. واختلفوا في كونه مرسلا. وكذا قاله بهذه الحروف: غير الشيخ من المتقدمين.

                                                                                                                              وقال القشيري، وكثيرون: هو ولي. وحكى الماوردي في تفسيره ثلاثة أقوال؛ الثالث: أنه من الملائكة. وهذا غريب ضعيف، أو باطل.

                                                                                                                              قال في "تهذيب الأسماء": وفي صحيح مسلم، في أحاديث [ ص: 228 ] الدجال: "أنه يقتل رجلا"، ثم يحيي. قال إبراهيم بن سفيان "صاحب مسلم": يقال: إن ذلك الرجل، هو "الخضر". وكذا قال معمر في مسنده: إنه يقال: إنه الخضر.

                                                                                                                              قال المازري: احتج من قال بنبوته، بقوله: "وما فعلته عن أمري"). فدل على أنه نبي أوحي إليه، وبأنه أعلم من موسى. ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي.

                                                                                                                              وأجاب الآخرون: بأنه يجوز: أن يكون قد أوحى الله إلى نبي في ذلك العصر: أن يأمر الخضر بذلك. انتهى.

                                                                                                                              قلت: وهذا تكلف محض، يحتاج إلى دليل يدل عليه.

                                                                                                                              وقال الثعلبي: "الخضر" نبي معمر، على جميع الأقوال، محجوب عن الأبصار. يعني: أبصار أكثر الناس. قال: وقيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان، حين يرفع القرآن. انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 229 ] قلت: وهذا وإن كان ليس ببديع ولا بعيد، من قدر الله تعالى، وقضائه، - وقدرته سبحانه: تصلح لكل شيء -: لكن أنى لنا دليل ذلك من الكتاب والسنة، حتى نصير إليه ونعول عليه.

                                                                                                                              قال النووي: جماهير العلماء على أنه حي، موجود بين أظهرنا. وذلك متفق عليه عند الصوفية، وأهل الصلاح والمعرفة، وحكاياتهم في رؤيته، والاجتماع به، والأخذ عنه، وسؤاله وجوابه، ووجوده في المواضع الشريفة، ومواطن الخير: أكثر من أن يحصر، وأشهر من أن يستر. قال ابن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين، والعامة معهم في ذلك. قال: وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين. انتهى.

                                                                                                                              قلت: المراد بهذا البعض: "صاحب صحيح البخاري"، رضي الله عنه. ولاشك أن الحق المختار والقول الراجح معه، "رحمه الله تعالى"، ومع من وافقه وتابعه في ذلك، كما بيناه في تفسيرنا: "فتح البيان، في مقاصد القرآن". ولا مانع من أن رأى واحد من أهل العلم - الظاهر أو الباطن -: رجلا في مكان، اسمه "خضر"، وأنه قال للرائي والملاقي: إني أنا الخضر، فزعم أنه هو "الخضر" صاحب موسى عليهما السلام، وليس الأمر في نفس الأمر كذلك. وظاهر السنة المطهرة مع منكري وجوده. ولا دليل ينتهض للاحتجاج به على حياته، في يد من يقول بأنه حي. ولا اغترار بقول الجماهير من الصوفية، وغيرهم: في هذا الباب.

                                                                                                                              [ ص: 230 ] قال في "إرشاد الساري" نقلا عن النووي: الأكثرون على حياته. ثم قال: واتفق عليه سادات الصوفية، كابن أدهم، وبشر الحافي، ومعروف الكرخي، وسري السقطي، والجنيد. وبه قال عمر بن عبد العزيز.

                                                                                                                              قال: والذي جزم به البخاري: أنه غير موجود. وبه قال إبراهيم الحربي، وأبو بكر بن العربي، وطائفة من المحدثين. وعمدتهم: الحديث المشهور الذي في الصحيح: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال في آخر حياته: لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة سنة، ممن هو عليها اليوم أحد".

                                                                                                                              وأجيب بأنه كان حينئذ: على وجه البحر. أو هو مخصوص من الحديث، إلى غير ذلك مما سبق في أوائل هذا المجموع. انتهى.

                                                                                                                              وأقول: كل هذه التأويلات: احتمالات بعيدة، وتكلفات باردة، لا يصلح شيء منها لمعارضة الحديث المذكور. فما في الصحيح: هو الأصح إن شاء الله تعالى.




                                                                                                                              الخدمات العلمية