الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              (مضجعه) : موضع الاضطجاع (كمسل شطبة) . "المسل" بفتح الميم ، والسين ، وتشديد اللام : "مصدر ميمي" بمعنى : "المسلول" . أي : ماسل من قشره . يقال : "سله" : إذا نزعه برفق .

                                                                                                                              "والشطبة" بفتح الشين ، وسكون الطاء : هي ما شطب من جريد النخل . أي : شق . وهي السعفة الخضراء . لأن الجريدة تشقق منها : قضبان رقاق ، ينسج منها الحصر .

                                                                                                                              قال النووي : مرادها : أنه مهفهف ، خفيف اللحم : كالشطبة . وهو مما يمدح به الرجل .

                                                                                                                              قال (في التحفة) : المراد بمسلولها: "القضيب الدقيق" الذي [ ص: 470 ] يسل منها ، فينسج من أمثاله : الحصير ونحوه .

                                                                                                                              قال : وهذا هو الأظهر ، والأنسب بمقام المدح . انتهى.

                                                                                                                              وقال ابن الأعرابي ، وغيره : أرادت بقولها : "كمسل شطبة" : أنه كالسيف ، سل من غمده . زاد القسطلاني : والعرب تشبه الرجل بالسيف ، لخشونة جانبه ، ومهابته . أو لجماله ، ورونقه ، وكمال لألائه ؛ أو لكمال صورته : في استوائها ، واعتدالها .

                                                                                                                              وعبارة البيجوري : المعنى : أن محل اضطجاعه (وهو الجنب) : كشطبة مسلولة من الجريد ، "في الدقة" . فهو خفيف اللحم ، دقيق الخصر . كالشطبة المسلولة من قشرها . انتهى.

                                                                                                                              والاقتصار على هذا المعنى فقط : يشير إلى ترجيح ذلك . وكنت "بدقة المضجع" : عن هزالته ، وقلة لحمه . وهو وصف ممدوح في الرجال ، لما يلزمه : من خفة الحركات ، والمضي في الأمور . بخلاف اللحيم الشحيم ؛ فإنه يكون كسلان ، متبلدا .

                                                                                                                              ولا يبعد : أن يراد "بدقة المضجع" : نومه على منكب واحد . فإن من ينام على منكب واحد : يكون مضجعه دقيقا . بخلاف المستلقي . وهو الظاهر . ويكنى به عن قلة النوم ، والتيقظ . كما في "التحفة" . (وتشبعه ذراع الجفرة) بضم التاء . من "الإشباع" .

                                                                                                                              و "الذراع" : مؤنثة . وقد تذكر .

                                                                                                                              [ ص: 471 ] "والجفرة" ، بفتح الجيم ، وسكون الفاء : هي الأنثى ، من أولاد المعز . وقيل : من الضأن. وهي ما بلغت : "أربعة أشهر" وفصلت عن أمها ، وأخذت في الرعي . ويقال : "لولد الضأن أيضا" ، إذا كان ثنيا.

                                                                                                                              وفي (القاموس) : "الجفر من أولاد الشاء" : ما عظم ، واستكرش . أو بلغ : "أربعة أشهر" . انتهى .

                                                                                                                              والذكر "جفر" : لأنه جفر جنباه . أي : عظما .

                                                                                                                              قال عياض : قال أبو عبيد ، وغيره : "الجفرة" : من أولاد المعز .

                                                                                                                              وقال ابن الأنباري ، وابن دريد : من أولاد الضأن .

                                                                                                                              قال النووي : والمراد : أنه قليل الأكل . والعرب تمدح به .

                                                                                                                              وقال البيجوري : المراد : أنه ضوي ، مهفهف ، قليل اللحم ؛ على نحو واحد على الدوام . وذلك شأن الكرام .

                                                                                                                              قال (صاحب التحفة) : "الذراع" ؛ ما فوق الكراع : من الغنم ، والبقر . يؤنث . ولذا أنث الفعل . انتهى .

                                                                                                                              وزاد ابن الأنباري : "ويرويه فيقة اليعرة ، ويميس في حلة النترة" .

                                                                                                                              "فيرويه" : من "الإرواء" .

                                                                                                                              "والفيقة ، بكسر الفاء : ما يجتمع في الضرع بين الحلبتين .

                                                                                                                              "واليعرة" بفتح الياء : "العناق" .

                                                                                                                              [ ص: 472 ] "ويميس" بمعنى : "يتبختر" .

                                                                                                                              "والنترة" بالنون المفتوحة ، والتاء الساكنة : "الدرع اللطيفة" .

                                                                                                                              وقيل : "اللينة الملمس" . والحاصل : أنها وصفته بهيف القد، وأنه ليس ببطين ولا جاف ، وأنه قليل الأكل والشرب ، ملازم لآلة الحرب ، يختال في موضع القتال . وذلك مما تتمادح به العرب .

                                                                                                                              (بنت أبي زرع ) . لما مدحت "أبا زرع" ، وأمه ، وابنه : انتقلت إلى مدح بنته .

                                                                                                                              (فما بنت أبي زرع ؟) . أي : هي شيء عظيم . فالمقصود بالاستفهام : التعظيم . ولم تسم البنت المذكورة .

                                                                                                                              (طوع أبيها ، وطوع أمها) . أي : مطيعة لهما غاية الإطاعة ، منقادة لأمرهما نهاية الانقياد ؛ فلا تخرج عن أمرهما ورأيهما . ولذلك بالغت فيها ، وجعلتها : نفس الطوع.

                                                                                                                              وأعادت "طوع" مع الأم ، ولم تقل : "طوع أبيها وأمها" : إشارة إلى أن طاعة كل منهما : مستقلة .

                                                                                                                              قال (في التحفة الصديقية) : قدمت إطاعة الأب ، على إطاعة الأم : إشعارا بأنها على خلاف سائر البنات ؛ فإنها تخدم الأمهات في غالب الأمر . قال : وأتت بالطوع الثاني : إيذانا بأن إطاعة الأم ، لم تكن مندرجة في إطاعة الأب ، بل مستقلة .

                                                                                                                              قال : وقد استدل بعض الأولياء ، بقوله تعالى : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول [ ص: 473 ] على أن طاعة الرسول مستقلة - وكان قد سافر إلى الحج - : فرجع إلى بيته بعد ما فرغ من فرض الحج ، ثم سافر إلى المدينة بعزم مستقل . فويل للذين يحجون ولا يزورون . انتهى .

                                                                                                                              وأقول : ما أبرد هذا الاستدلال : على فرض قبول إطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالاستقلال : في هذه المسألة . أي : مسألة الزيارة ! فإن طاعة الرسول : إنما تجب فيما طلب منا الامتثال فيه ، والإتيان به . وأما السفر إلى زيارته : فلم يدل دليل على طلبه منها ، ولم يرد في هذا الباب : خبر مرفوع ، ولا مسند . نعم؛ جوز السفر إلى ثلاثة مساجد، من دون ندب إليه . ومنها : مسجده صلى الله عليه وآله وسلم . فمن سافر إليه ، ونزل في المدينة المكرمة : فقد استحب له : الزيارة . فإنها مستحبة ، أو مسنونة : لكل أحد من المسلمين "عبرة من حال الموتى" ، ودعاء لهم، وزهدا في الدنيا . وهذا حكم زيارة كل ميت مسلم . فكيف بزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ بأبي هو وأمي .

                                                                                                                              وكم موضع في الكتاب والسنة : جعل الشارع فيه طاعة أحدهما : طاعة الآخر . ولا شك : أن طاعة الله تعالى ، في طاعة رسوله . وطاعة كل واحد منهما : مستلزمة لطاعة الآخر ، فلا يتم الاستدلال على الدعوى . ولم توافق الدعوى الدليل . ولم يزل استدلال أهل البدع - على بدعهم -:

                                                                                                                              [ ص: 474 ] هكذا ، أجنبيا عن المقام ، غير صادق على المرام .

                                                                                                                              وإنما جاء هذا الشوم : من ترك السنة ، وإيثار البدعة .

                                                                                                                              والذي عليه أهل الحق - في كل قطر وزمان - : هو أن التمسك بالسنة اليسيرة، خير من إحداث البدعة الحسنة . وبالله التوفيق . وهو المستعان ، وخير رفيق .

                                                                                                                              "فالطوع" مصدر : "طاع له" ، إذا انقاد له . ويستعمل مضافا ، بمعنى : "المنقاد" . يقال : "هو طوع يديك" . أي : منقاد لك . و "فرس طوع العنان" : إذا كان ذلولا منقادا.

                                                                                                                              زاد الزبير : "وزين أهلها ونسائها" . أي : يتجملون بها .

                                                                                                                              (وملء كسائها) : لامتلاء جسمها ، وسمنها . أي : ممتلئة الجسم سمينته .

                                                                                                                              وعبارة البيجوري : أي : مالئة لكسائها ؛ لضخامتها وسمنها . وهذا ممدوح في النساء. ولا ينافيه : رواية : "وصفر ردائها" ، بكسر الصاد، وسكون الفاء . أي : خالية ردائها فارغته . لأن المراد : أنها : ضامرة البطن ، خفيفة أعلى البدن : الذي هو محل الرداء . لأن الرداء ينتهي إلى [ ص: 475 ] البطن . فلا ينافي أنها ممتلئة أسفل البدن ، الذي هو محل الإزار . كما في الرواية : "وملء إزارها" . فيكون "المراد بالكساء في الرواية السابقة" : الإزار . وفيه بعد .

                                                                                                                              والأولى أن يراد : أنها - لامتلاء منكبيها ، وقيام ثدييها - : يرتفع الرداء عن أعلى جسدها، فلا يمسه ، فيبقى خاليا ، بخلاف أسفلها . قاله عياض . فهذا هو المراد بقولها : "وصفر ردائها" . انتهى.

                                                                                                                              وقال (في التحفة) : "الملء" بالكسر : ما يأخذه الإناء ، عند الامتلاء . أي : يأخذها كساؤها فيمتلئ بها . وهو كناية عن : "سمينة النصف الأعلى من البدن" ؛ كالصدر والعضدين ، والمنكبين . كما أن ملء الإزار كناية عن : "ضخيمة النصف الأسفل" ، كالردفين ، والفخذين ، والساقين . وكلاهما : مدح في النساء .

                                                                                                                              قال: وبالجملة : توصف النساء عندهم : بالعبالة، والسمانة ؛ لما أن "الهزال" ، غالب على رجالهم . والمهزول لا يلتذ بملامسة [ ص: 476 ] المهزول .

                                                                                                                              على أن السمن في النساء : يورث "ضيق الفرج" . ولذلك تراهم : يذمون فرجا مهزولا. قال ابن ميادة :


                                                                                                                              وتبدي الحميسيات في كل زينة فروجا كآثار الصغار من البهم

                                                                                                                              .

                                                                                                                              (وغيظ جارتها) . "الغيظ" : مصدر "غاظه" ، إذا أغضبه متعمد.

                                                                                                                              قال النووي : قالوا : المراد بجارتها : ضرتها ، يغيظها ما ترى من : حسنها ، وجمالها ، وعفتها ، وأدبها .

                                                                                                                              وفي الرواية الأخرى : "وعقر جارتها" . هكذا هو في النسخ : "بفتح العين ، وسكون القاف" . قال عياض : كذا ضبطناه عن جميع شيوخنا .

                                                                                                                              وضبطه الجياني : "عبر" : بضم العين ، وإسكان الباء . وكذا ذكره " ابن الأعرابي " . وكأن الجياني : أصلحه من "كتاب الأنباري" . وفسره الأنباري بوجهين ؛

                                                                                                                              أحدهما : أنه من "الاعتبار" . أي : ترى من حسنها ، وعقلها : ما تعتبر به .

                                                                                                                              [ ص: 477 ] والثاني : من "العبرة" ، وهي البكاء . أي : ترى من ذلك : ما يبكيها لغيظها ، وحسدها .

                                                                                                                              ومن رواه "بالقاف" ، فمعناه : "تغيظها" ، فتصير "كمعقور" .

                                                                                                                              وقيل : "تدهشها" . من قولهم : "عقر" إذا دهش . انتهى.

                                                                                                                              قال الشيخ إبراهيم البيجوري : معناه : "مغيظة لجارتها" .

                                                                                                                              والمراد : "ضرتها" .

                                                                                                                              وسميت "جارة" : للمجاورة بين الضرتين غالبا ، فتغيظ ضرتها : لغيرتها منها ، بسبب مزيد جمالها وحسنها .

                                                                                                                              قال: وفي رواية : "عقر جارتها" ، أي : هلاكها؛ من الغيظ، والحسد .

                                                                                                                              قال (صاحب التحفة) : "الجارة" : تطلق على "الضرة" . ومنه : قول عمر بن الخطاب لحفصة : "لا يغرنك : أن كانت جارتك" - يريد بها عائشة -. ومنه : قول جمل بن مالك : "كنت بين جارتين" . أي : "ضرتين" . قال القسطلاني : وعند مسلم ، في رواية : "حقر جارتها" بفتح الحاء . أي : دهشتها ، أو قتلها .

                                                                                                                              [ ص: 478 ] وللطبراني : "وحين جارتها" بفتح الحاء . أي : هلاكها .

                                                                                                                              انتهى.

                                                                                                                              وفي رواية : "وزين أهلها ونسائها" . وزاد ابن السكيت : "قباء ، هضيمة الحشا، جائلة الوشاح ، عكناء ، فعماء ، نجلاء ، دعجاء ، زجاء ، قنواء ، مؤنقة ، مفنقة" .

                                                                                                                              فقولها: "قباء" بتشديد الباء . أي : "ضامرة البطن" .

                                                                                                                              و "هضيمة الحشا" بمعنى : "ضامرة" أيضا .

                                                                                                                              و "جائلة الوشاح" . أي : يدور وشاحها ، لضمور بطنها..

                                                                                                                              و "الوشاح" : بالضم ، والكسر. قال في القاموس : كرسان من لؤلؤ وجوهر ، منظومان ، يخالف بينهما ، معطوف أحدهما على الآخر . أو أديم [ ص: 479 ] عريض مرصع بالجوهر : تشذه المرأة بين عاتقها، وكشحيها . وهي غرئى الوشاح هيفاء .

                                                                                                                              "وعكناء" . أي : "ذات عكن" . وهي طيات بطنها .

                                                                                                                              "وفعماء" أي : ممتلئة الأعضاء .

                                                                                                                              "ونجلاء" : واسعة العين.

                                                                                                                              "ودعجاء" من - الدعج -: شدة سواد العين ، في شدة بياضها .

                                                                                                                              "وزجاء" بتشديد الجيم من - الزجج- : وهو تقويس الحاجب ، مع طول في أطرافه وامتداده .

                                                                                                                              وقيل بالراء ، بدل الزاي . أي : "كبيرة الكفل" يرتج من عظمه .

                                                                                                                              "وقنواء" من "القنو" : طول في الأنف ، ورقة الأرنبة، مع حدب في وسطه .

                                                                                                                              [ ص: 480 ] "ومؤنقة" بتشديد النون : من "الشيء الأنيق المعجب" .

                                                                                                                              و "مفتقة" : بوزنه : أي : مغذية بالعيش الناعم . وكلها - كما لا يخفى - : أوصاف حسان . قاله القسطلاني .

                                                                                                                              وأقول : إن شئت أن تقف على محاسنهن ومساويه ، عند العرب : فعليك أن تطالع "كتاب المبتكر ، في بيان المؤنث والمذكر" المؤلف في زماننا هذا المتأخر؛

                                                                                                                              فقد اشتمل من ذلك و على كل ما هنالك . وفيه كل ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ به الأعين . وأما هذه الأوصاف المذكورة هنا : فقد تكلم عليها "صاحب التحفة" وزاد عليها أشياء ، لا تخلو عن فائدة ، فراجعها .

                                                                                                                              (جارية أبي زرع ) . لما مدحت من تقدم : انتقلت إلى مدح "جارية أبي زرع " . أي : مملوكته . ولم تسم. (فما جارية أبي زرع ) أي : هي شيء عظيم . فالاستفهام للتعظيم .

                                                                                                                              (لا تبث) بضم الباء ، وتشديد الثاء . أي : لا تفشي (حديثنا) .

                                                                                                                              أي : لا تشيعه وتظهره ، بل تكتم سرنا وكلامنا كله. (تبثيثا) .

                                                                                                                              [ ص: 481 ] وروي في غير مسلم : "تنث" بالنون . قال النووي : وهو قريب من الأول . أي : لا تظهره .

                                                                                                                              ولفظ البيجوري : بالباء في الفعل والمصدر . أو بالنون فيهما . والمعنى على كل : لا تنشر كلامنا الذي نتكلم به فيما بيننا نشرا ، لديانتها .

                                                                                                                              قال (في التحفة) : "البث" : نشر الخبر ، كالإبثاث ، والتبثيث .

                                                                                                                              ومثله : "النث" بالنون . والشرط في الفعل والمفعول المطلق : اتحادهما في المجرد ، وعليه قوله تعالى : وتبتل إليه تبتيلا .

                                                                                                                              قال القسطلاني : "تبثيثا" مصدر من : "بثث" بوزن : "فعل" بالتشديد ، للمبالغة . أي: تكتمه .

                                                                                                                              (ولا تنقث) : بضم التاء ، وفتح النون ، وكسر القاف المشددة ، بعدها ثاء . أي : لا تخرج . أو لا تفسد . أو لا تسرع بالخيانة . أو لا تذهب بالسرقة : (ميرتنا) بكسر الميم ، وسكون الياء . أي : زادنا (تنقيثا) مصدر .

                                                                                                                              قال النووي : "ميرتنا" الميرة : الطعام . ومعناه : لا تفسده ، ولا تفرقه ، ولا تذهب به .

                                                                                                                              وعبارة البيجوري : أي لا تنقل طعامنا نقلا ؛ لأمانتها ، وصيانتها .

                                                                                                                              قال (في التحفة) : "النقث" : النقل - كما في "الفائق" - والحفر عن الشيء المدفون ، والإسراع ، واستخراج المخ من العظم . كالتنقيث .

                                                                                                                              وروي : "لا تنفث" بالفاء . من : "نفث الدم" . المصدر : [ ص: 482 ] "التنفيث" استعارة : للإخراج .

                                                                                                                              (ولا تملأ بيتنا تعشيشا) بالعين المهملة . أي : لا تترك الكناسة والقمامة فيه "مفرقة" ، كعش الطائر ، بل هي مصلحة للبيت ، معتنية بتنظيفه .

                                                                                                                              وقيل : معناه : لا تخوننا في طعامنا : فتخبئه في زوايا البيت ، كأعشاش الطير .

                                                                                                                              وروي - في غير مسلم - : بالغين المعجمة، من "الغش في الطعام" . وقيل : من "النميمة" أي : لا تتحدث بنميمة . هذا لفظ النووي . ومثله في القسطلاني ، وزاد : وقيل : تريد "عفاف فرجها ، وعدم فسقها" .

                                                                                                                              وقال البيجوري : تنظفه - أي بيتنا - لشطارتها . أو لا تسعى بيننا بالغش ، لصلاحها . فهي ذات ديانة ، وأمانة ، وشطارة ، وصلاح .

                                                                                                                              قال صاحب التحفة : وروي : "لا تقش تقشيشا" من "قش الرجل" : إذا أكل من ههنا ، وههنا . كقشش .

                                                                                                                              قال: "والميرة" : الطعام المجلوب من بلد إلى بلد .

                                                                                                                              و "الطعام" : البر عرفا ، وكل ما يؤكل لغة .

                                                                                                                              [ ص: 483 ] "والتعشيش" : أن يجمع "الطائر" : دقاق الحطب ، في أفنان الشجر ، ويتخذ منه "العش" . ويلزمه : النقل من موضع إلى موضع . فإن الجمع لا يتصور بدون النقل . أي : لا تملأ بيتنا من فعل يشبه تعشيش الطائر . فلا تنقل منه شيئا إلى الخارج ، ولا تجمع فيه شيئا من الخارج . أي لا تسرق منا ، ولا من غيرنا .

                                                                                                                              وروي : "ولا تعشش" . أي - موضع "ولا تملأ" . وهذا أنسب لفظا للجمل السابقة.

                                                                                                                              وروي : "ولا تغش بيتنا تغشيشا" . من "غشه" ، إذا لم يمضه النصح ، أو أظهر خلاف ما أضمر في نفسه .

                                                                                                                              وحاصل الكل : أنها متصفة "بالأمانة" . وهي صفة جامعة .

                                                                                                                              قال القسطلاني : وزاد الهيثم بن عدي: "ضيف أبي زرع ، فما ضيف أبي زرع ؟ في شبع وري ، ورتع . طهاة أبي زرع ، فما طهاة أبي زرع ؟ لا تفتر ولا تعدي : تقدح قدرا وتنصب أخرى، فتلحق الآخرة بالأولى . مال أبي زرع ، فما مال أبي زرع على الجمم معكوس ، وعلى العفاة محبوس" .

                                                                                                                              [ ص: 484 ] قوله : "رتع" . أي : تنعم ومسرة .

                                                                                                                              و "الطهاة" بضم الطاء : الطباخون . "لا تفتر" بسكون الفاء وضم التاء . أي : لا تسكن ، ولا تضعف .

                                                                                                                              "وتعدي" بضم التاء ، وتشديد الدال . أي : لا تترك ذلك ولا تتجاوز عنه .

                                                                                                                              "وتقدح" أي : تفرق . "وتنصب" أي : ترفع على النار .

                                                                                                                              "والجمم" جمع "جمة" : القوم يسألون في الدية .

                                                                                                                              "ومعكوس" أي : مردود .

                                                                                                                              و "العفاة" بضم العين : السائلون .

                                                                                                                              "ومحبوس" أي : موقوف عليهم .

                                                                                                                              ذكر في "التحفة" هذه الزيادة ، وشرحها بالبسط. فراجعه .

                                                                                                                              (قالت) أم زرع : (خرج) زوجي ( أبو زرع ) من عندي . أتت بالمسند إليه ظاهرا ولم تكتف بالضمير ، لبعد المرجع ، وليتمكن في ذهن السامع ، ولتلتذ باسمه .

                                                                                                                              (والأوطاب) : جمع "وطب" : بفتح الواو وإسكان الطاء ، وهو جمع قليل النظير .

                                                                                                                              [ ص: 485 ] وفي رواية في غير مسلم : "والوطاب" وهو الجمع الأصلي ، وهي "أسقية اللبن" التي يمخض فيها . وقال أبو عبيد : هو جمع "وطبة" . قاله النووي .

                                                                                                                              قال القسطلاني : "الأوطاب" : زقاق اللبن . واحدها : "وطب" على وزن "فلس" . فجمعه على "أفعال" ، مع كونه صحيح العين : نادر . والمعروف : "وطاب" في الكثرة . و "أوطب" ، في القلة . زاد البيجوري : "ووطوب" كفلوس .

                                                                                                                              والواو للحال . أي خرج ، والحال أن زقاق اللبن (تمخض) : بالخاء والضاد المعجمتين ، مبنيا للمفعول . أي : ليؤخذ زبد اللبن .

                                                                                                                              ويحتمل : أنها أرادت أن خروجه ، كان "غدوة" . وعندهم الخير الكثير من اللبن الغزير ، بحيث يشربه صريحا ومخيضا. ويفضل عندهم ، حتى يمخضوه ويستخرجوا زبده.

                                                                                                                              ويحتمل : أنها أرادت : أن الوقت الذي خرج فيه ، كان زمن الخضب والربيع . وكان خروجه ؛ إما لسفر، أو غيره . فلم تدر ما يحدث لها بسبب خروجه .

                                                                                                                              [ ص: 486 ] قال البيجوري : والمراد أنه خرج في حال كثرة اللبن ، وذلك حال خروج العرب للتجارة .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (فلقي امرأة) . أي : في سفره . نكرت "امرأة" ، لأنها لم تكن تعرفها . ولم يسبق ذكرها . قال (في الفتح) : لم أقف على اسمها .

                                                                                                                              (معها ولدان لها) لم يسميا . أي : مصاحبان لها . ولا يلزم من ذلك : أن يكونا ولديها. فلذلك أتي بقوله : "لها" . أي : منها - وليسا من غيرها - مصاحبين لها . (كالفهدين) .

                                                                                                                              وفي رواية ابن الأنباري : "كالصقرين" .

                                                                                                                              وفي رواية الكاذي : "كالشبلين" . أي : مثلهما ، في الوثوب ، واللعب ، وسرعة الحركة . وهذا في "الفهد" .

                                                                                                                              وأما في "الصقر" : فالتشبيه في صغر الجثة ، واشتداد الخلقة .

                                                                                                                              وأما في "الشبل" ، وهو ولد الأسد : فالتشبيه في حسن الخلقة ، واستعداد الكسب .

                                                                                                                              (يلعبان من تحت خصرها) . "الخصر" ، كصعب: "وسط الإنسان" . يجمع على "خصور" . وروي : "من تحت قميصها" : (برمانتين) .

                                                                                                                              [ ص: 487 ] قال أبو عبيد : معناه : أنها "ذات كفل عظيم" . فإذا استلقت على قفاها : نتأ الكفل بها عن الأرض ، حتى تصير تحتها فجوة ، يجري فيها الرمان . أي : فصار تحت خصرها الدقيق : مكان متسع ، يجري فيه الرمان ، من جانب إلى آخر.

                                                                                                                              وتثنية "الرمان" على هذا التقرير ، مع حصول هذا الأمر برمانة واحدة : لبيان الواقع . انتهى.

                                                                                                                              قال عياض : قال بعضهم : المراد بالرمانتين - هنا - : ثدياها . ومعناه أن لها : نهدين حسنين صغيرين ، كالرمانتين .

                                                                                                                              قال القاضي : هذا أرجح. لاسيما: وقد روي "من تحت صدرها" ، و "من تحت درعها" . ولأن العادة : لم تجر برمي الصبيان الرمان ، تحت ظهور أمهاتهم . ولا جرت العادة أيضا : باستلقاء النساء كذلك ، حتى يشاهده منهن الرجال .

                                                                                                                              قال في التحفة : و "الرمان" - على رواية "الخصر" - : على معناه الأصلي . ويوجه بأنها : كانت عظيمة الكفل ، وقد استلقت على قفاها : فارتفع بها الكفل عن الأرض . فصار تحت خصرها الدقيق : فجوة . أي : متسع يجري فيها الرمان ، من جانب إلى آخر . وتثنية "الرمان" على هذا التقرير ، مع حصول هذا الأمر برمانة واحدة : لبيان الواقع .

                                                                                                                              [ ص: 488 ] أما حملهما على : "الثديين" مستدلا بأنه : لم تجر العادة برمي الرمان تحت ظهور الأمهات ، ولا باستلقاء النساء على هذا الوضع . ثم جوابه بأن هذا من أسمار الجاهلية ، وعادة ذلك الزمان غير معلومة ، فكلاهما : ركيك .

                                                                                                                              بل الجواب : أن تشبيه الثديين بالرمانتين : يقتضي صغرهما واشتدادهما ، وارتفاعهما ، واستدارتهما . واللعب بهما من تحت الخصر : يحكم بأضدادها من الطول ، والاسترخاء ، والتدلي . والعرب : يكرهون طويلة الثديين ، مسترخيتهما . وأم زرع بصدد بيان رغبة " أبي زرع " في تلك المرأة .

                                                                                                                              نعم يصح حملهما على الثديين : على رواية : "الدرع ، والصدر ، والقميص" كما لا يخفى . انتهى.

                                                                                                                              قال البيجوري : وإنما ذكرت الولدين ، ووصفتهما بما ذكر : لتنبه على أن ذلك من الأسباب الحاملة لأبي زرع : على تزوج تلك المرأة ؛ لأن العرب كانت ترغب في النسل ، وكثرة العدد . فيحتمل : أن "أبا زرع" لما رأى هذه المرأة ، وأعجبه خلقها ، وخلق ولديها : رغب في تزوجها ، لظهور علامة النجابة في ولديها .

                                                                                                                              (فطلقني ونكحها) . أي : تلك المرأة التي لقيها .

                                                                                                                              وفي رواية الحارث بن أسامة : "فأعجبته ، فطلقني" أي : فبسبب ذلك : طلقني . والفاء فصيحة ، تدل على محذوف . أي : "فرغب [ ص: 489 ] فيها ، فطلقني" . والحذف على مقتضى الحال ؛ فإنه يشعر بأنه لم يلبث بقدر تلفظ هذا اللفظ .

                                                                                                                              (فنكحت) . أي : تزوجت (بعده رجلا) لم يسم . ولم تقل : "نكحني" إشعارا بأنها : اصطفته من بين الرجال .

                                                                                                                              وفيه : تمهيد لوصفه بالمناقب ؛ إذ المرأة لا ترغب في لئام الرجال ، وإنما تختار رجلا كريما . ولذلك قالت : نكحت رجلا (سريا) أي : سيدا شريفا . "بالسين" على المشهور . وحكى عياض عن ابن السكيت فيه : "المهملة ، والمعجمة" .

                                                                                                                              "والسري ، بفتح الأول وكسر الراء ، وتشديد الياء . معناه : خيارا .

                                                                                                                              قال البيجوري : أي من سراة الناس وأشرافهم . وحكي : إعجامها أي : شريفا ، أو سخيا ، أو ذا ثروة .

                                                                                                                              قال (في التحفة) : تنكير "رجلا" : لعدم عهد المخاطبات به . وفيه نوع من التعظيم . "والسري" : الشريف الكريم . وبه فسر قوله تعالى :

                                                                                                                              قد جعل ربك تحتك سريا . أي : عيسى عليه السلام .

                                                                                                                              وروي بالشين ، من "شري الرجل في الأمر" : إذا مضى فيه.

                                                                                                                              (ركب شريا) بالشين المعجمة ، بلا خلاف . و "الشري" : هو [ ص: 490 ] الفرس الذي يستشري . أي : يلج في سيره وعدوه ، ويمضي بلا فتور وانكسار .

                                                                                                                              وقال ابن السكيت : هو الفرس الفائق ، الخيار . (وأخذ) رمحا (خطيا) بفتح الخاء ، وكسر الطاء المشددة ، وتشديد الياء المثناة : صفة موصوف محذوف .

                                                                                                                              "والخط" : موضع بنواحي البحرين ، تجلب منه الرماح.

                                                                                                                              قال النووي : "الخطي" بفتح الخاء وكسرها ، والفتح أشهر . ولم يذكر الأكثر غيره. وممن حكى الكسر : "أبو الفتح الهمداني" في كتاب الاشتقاق .

                                                                                                                              قالوا : "والخطي" : الرمح . منسوب إلى "الخط" ، قرية من سيف البحر . أي : ساحله . عند عمان والبحرين .

                                                                                                                              قال أبو الفتح : قيل لها: "الخط" ، لأنها على ساحل البحر .

                                                                                                                              والساحل يقال له : "الخط" ، لأنه فاصل بين الماء والتراب .

                                                                                                                              وسميت الرماح : "خطية" : لأنها تحمل إلى هذا الموضع ، وتثقف فيه .

                                                                                                                              قال عياض : ولا يصح قول من قال : إن "الخط" منبت الرماح .

                                                                                                                              وعبارة التحفة : "الخط" بالفتح ، وقد يكسر : "مقام السفائن" بالبحرين . تنسب إليه الرماح ، لبيعها فيه ، لا أنه منبتها .

                                                                                                                              (وأراح) من "الإراحة" ، وهي الإتيان إلى موضع المبيت ، بعد الزوال . قاله القسطلاني .

                                                                                                                              [ ص: 491 ] ولفظ التحفة : الإراحة : رد الإبل من المرعى إلى مراحها ، رواحا .

                                                                                                                              ومنه : "نعم مراح" . وهو خلاف "السرح" : فإنه إرسالها إلى المرعى غدوة .

                                                                                                                              قال تعالى : ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون .

                                                                                                                              قال: ولا يحسن تفسير الإراحة بما مر ، فإنه أعم .

                                                                                                                              (علي نعما) بفتح النون والعين : واحد "الأنعام" . وأكثر ما يقع على الإبل .

                                                                                                                              (ثريا) بفتح الثاء ، وكسر الراء ، وتشديد الياء . أي : كثيرا .

                                                                                                                              و "الثروة" : كثرة العدد .

                                                                                                                              قال الفراء : إن "النعم" مذكر ، لا مؤنث . يقولون : هذا نعم وارد .

                                                                                                                              قال النووي : معناه : أتى بها إلى "مراحها" بضم الميم . وهو موضع مبيتها .

                                                                                                                              "والنعم" : الإبل ، والبقر، والغنم . ويحتمل : أن المراد هنا : بعضها ، وهي الإبل. وادعى عياض أن أكثر أهل اللغة : على أن "النعم" مختصة بالإبل .

                                                                                                                              قال : و "الثري" : الكثير من المال. ومنه "الثروة" في المال .

                                                                                                                              [ ص: 492 ] وهي كثرته . انتهى.

                                                                                                                              قال البيجوري : وكان الظاهر أن تقول : "ثرية" . لكنها ارتكبت ذلك ، لأجل السجع . انتهى.

                                                                                                                              قلت : تقدم الجواب عن هذا. فتأمل .

                                                                                                                              (وأعطاني من كل رائحة) . أي : من كل شيء يأتيه من أصناف الأموال ، التي تأتيه وقت الرواح ؛ من الإبل ، والبقر ، والعبيد.

                                                                                                                              (زوجا) أي : اثنين اثنين . ولم يقتصر على المفرد من ذلك ، بل ثناه وضعفه : إحسانا إليها .

                                                                                                                              ويحتمل أنها أرادت : "صنفا" . والزوج : يقع على الصنف . ومنه . قوله تعالى : وكنتم أزواجا ثلاثة . (وقال : كلي . يا أم زرع! ما شئت) أكلا رغدا . (وميري أهلك) بكسر الميم . أي : صليهم ، وأوسعي عليهم بالميرة ، وأفضلي عليهم ، وأعطي أقاربك ، ولو بعدوا منك .

                                                                                                                              "والميرة" : الطعام ، الذي يمتاره الإنسان ويجلبه لأهله . قال تعالى - فيما حكاه في القرآن -: ونمير أهلنا .

                                                                                                                              أخذت في بيان هذه القصة : بكلام غير مسجع ، ثم أتت بالمسجع [ ص: 493 ] في الوسط ، ثم ختمت بكلام غير مسجع - ليكون للأول مناسبة بالآخر - فقالت : (فلو جمعت كل شيء أعطانيه : ما بلغ أصغر آنية أبي زرع ) أي : قيمتها ، أو قدر ملئها .

                                                                                                                              تعني : أن جميع ما أعطاها ، لا يساوي : أصغر شيء حقير ، مما لأبي زرع . فكيف بكثيره؟ وفي ذلك إشارة إلى قولهم : ما الحب إلا للحبيب الأول .

                                                                                                                              قال البيجوري : ولذا كانت السنة : تزوج البكر. قال : وهذا أحد وجوه أحبية عائشة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . انتهى.

                                                                                                                              قلت: تزوج "الثيب" أيضا : سنة .

                                                                                                                              وللطبراني : "فلو جمعت كل شيء أصبته منه ، فجعلته في أضر وعاء من أوعية أبي زرع : ما ملأه" .

                                                                                                                              قال القسطلاني : والظاهر أنه للمبالغة ، وإلا : فالإناء ، أو الوعاء: لا يعي ما ذكرت أنه أعطاها من أصناف النعم .

                                                                                                                              قال : والحاصل أنها وصفت هذا الثاني : بالسؤدد في ذاته ، والثروة ، والشجاعة والفضل ، والجود : بكونه أباح لها : أن تأكل ما شاءت [ ص: 494 ] من ماله ، وتهدي ما شاءت لأهلها : مبالغة في إكرامها . ومع ذلك : لم يقع عندها موقع " أبي زرع " . وإن كثيره : دون قليل " أبي زرع " مع إساءة " أبي زرع " لها أخيرا : في تطليقها. ولكن حبها له : بغض إليها الأزواج ، لأنه أول أزواجها ، فسكنت محبته في قلبها .

                                                                                                                              قال: ولذا كره أولو الرأي : تزوج امرأة لها زوج طلقها ، مخافة أن تميل نفسها إليه . والحب يستر الإساءة . انتهى .

                                                                                                                              قلت : وليس ذلك بمطرد. فكم من زوج ثاني : هو أحب إلى المرأة من الزوج الأول! وكم من ثيب: هي أحب إليه من بكر . والتزوج بكل منهما : ثابت بالسنة الصحيحة ؛ قولا ، وفعلا . بل بالقرآن الكريم ، كما قال سبحانه : ثيبات وأبكارا . نعم للبكر مزية على الثيب في الجملة ، كما يدل على ذلك : عدم تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم" بعد البكر : ثيبا. وهكذا ترتيب نظم الكتاب العزيز. وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم : "هلا بكرا تلاعبك ، وتلاعبها؟" ، ولكن لا منافاة بين ذلك ، وبين الأحبية للزوج الأول أو الآخر . والله أعلم .

                                                                                                                              قال (في التحفة) : إنما الغرض تفضيل " أبي زرع " عليه ، لتمكن حبه في قلبها ؛ مع إساءته إليها . وأنها لم ترغب في الثاني : على إحسانه [ ص: 495 ] بها . وذلك لأنه لم يكن في صحبته : إلا لذة جسمانية ؛ من حيث سعة - الأكل والشرب ، والتحلي بالحلي . وأما " أبو زرع " : فكانت لها عنده الأتان : جسمانية ، وروحانية . انتهى.

                                                                                                                              قال عياض : في كلام " أم زرع " من الفصاحة والبلاغة : ما لا مزيد عليه ؛ فإنه مع كثرة فصوله ، وقلة فضوله : مختار الكلمات ، واضح السمات ، نير القسمات ، قد قدرت ألفاظه قدر معانيه ، وقررت قواعده وشيدت مبانيه ، وجعلت لبعضه في البلاغة موضعا ، وأودعته من البديع بدعا . وإذا لمحت كلام التاسعة - صاحب العماد والنجاد - : ألفيتها لأفانين البلاغة جامعة ، فلا شيء أسلس من كلامها ، ولا أربط من نظامها ، ولا أطبع من سجعها ، ولا أغرب من طبعها . وكأنما "فقرها" مفرغة في قالب واحد ، ومحذوة على مثال واحد.

                                                                                                                              وإذا اعتبرت كلام الأولى : وجدته مع صدق تشبيهه ، وصقالة وجوهه : قد جمع من حسن الكلام أنواعا ، وكشف عن محيا البلاغة قناعا . بل كلهن : حسان الأسجاع ، متفقات الطباع ، غريبات الإبداع . انتهى .

                                                                                                                              وأقول : ليست فصاحة كلام القاضي هذا ، وبلاغته : بقاصرة عن كلامهن في مذاق الأدباء ، وفؤاد البلغاء الفصحاء. وهو "رحمه الله تعالى" : من فرسان هذا الميدان ، باتفاق جمع جم من الفحول الأعيان . انظر كتابه (الشفا ، في حقوق المصطفى) . فما أبلغه في [ ص: 496 ] العبارة ، وأفصحه في الإشارة !

                                                                                                                              (قالت عائشة ) رضي الله عنها؛ (قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "كنت لك كأبي زرع لأم زرع ") أي : في الألفة ، والعطاء . لا في الفرقة والخلاء . كما في رواية "الهيثم بن عدي" . فالتشبيه ليس من كل وجه ، كما يفيد ذلك قوله : "لك" ولم يقل : "وعليك" ؛ فإنه يفيد : أنه لها " كأبي زرع لأم زرع " في النفع ، لا في الضرر الذي حصل بطلاقها .

                                                                                                                              قال القسطلاني : "كان" : لا تدل على الانقطاع ، ولا على الدوام .

                                                                                                                              فليس في هذا الكلام ما يقتضي : انقطاع هذه الصفة ، فلا حاجة إلى دعوى زيادة "كان" ، وأن المعنى : "أنا لك" .

                                                                                                                              وزاد الزبير : "إلا أنه طلقها ، وأنا لا أطلقك" . فاستثنى الحالة المكروهة ، وهي ما وقع من تطليق " أبي زرع " : تطييبا لها ، وطمأنينة لقلبها ، ودفعا لإيهام عموم التشبيه بجملة أحوال " أبي زرع " . إذ لم يكن فيه ما تذمه النساء : سوى ذلك . وقد أجابت هي عن ذلك - جواب مثلها : في فضلها ، وعلمها - فقالت - كما عند النسائي ، والطبراني - : "يا رسول الله ! بل أنت خير من أبي زرع " .

                                                                                                                              وفي رواية الزبير : "بأبي وأمي ! أنت خير لي من أبي زرع لأم [ ص: 497 ] زرع" .

                                                                                                                              وفي رواية المعافري : "إن مثلي ومثلك : كأبي زرع لأم زرع " .

                                                                                                                              وقوله : "قالت عائشة .. الخ" . هذه الجملة من مقولة "عروة" ، وهي الغرض الأصلي من : "قالت جلس إحدى عشرة امرأة الخ" ؛ فإن القصة : توطئة وتمهيد لانكشاف هذا التشبيه . ولذلك : فصلت هذه الجملة .

                                                                                                                              قال (في التحفة) : إن كان هذا الحديث مرفوعا : كان علم عائشة بحال أبي زرع ، من جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وإن كان موقوفا - كما هو الأشهر - : كان علمها به ، من جهة أخرى . وهذا أغلب ، لما أنها كانت أعلم بأيام العرب ، وأسمارهم ، وأسفارهم .

                                                                                                                              وعلى كل تقدير : يجب أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ عالما : بأن " عائشة " تعلم حسن معاشرة أبي زرع لأم زرع ، حين ما قال لها ذلك . انتهى.

                                                                                                                              قال النووي : قال العلماء : قوله "صلى الله عليه وآله وسلم" : "كنت لك كأبي زرع لأم زرع " : تطييب لنفسها ، وإيضاح لحسن عشرته إياها .

                                                                                                                              قال: وفي حديث " أم زرع " هذا : فوائد؛ [ ص: 498 ] منها : استحباب حسن المعاشرة للأهل .

                                                                                                                              وجواز الإخبار عن الأمم الخالية .

                                                                                                                              وأن المشبه بالشيء: لا يلزم كونه مثله في كل شيء.

                                                                                                                              ومنها : أن كنايات الطلاق : لا يقع بها الطلاق إلا بالنية ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ قال لعائشة : "كنت لك : كأبي زرع ، لأم زرع " . ومن جملة أفعال " أبي زرع " : أنه طلق امرأته "أم زرع" ، كما سبق. ولم يقع على النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلاق بتشبيهه : لكونه لم ينو الطلاق .

                                                                                                                              قال المازري : قال بعضهم : وفيه أن هؤلاء النسوة ذكرن بعض أزواجهن بما يكره . ولم يكن ذلك غيبة : لكونهم لا يعرفون بأعيانهم ، وأسمائهم . وإنما الغيبة المحرمة : أن يذكر إنسانا بعينه ، أو جماعة بأعيانهم .

                                                                                                                              قال المازري : وإنما يحتاج إلى هذا الاعتذار : لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم : سمع امرأة تغتاب زوجها - وهو مجهول - فأقر على ذلك . وأما هذه القضية : فإنما حكتها " عائشة " عن نسوة مجهولات غائبات . لكن لو وصفت اليوم امرأة زوجها بما يكره ، وهو معروف عند السامعين : كان غيبة محرمة . فإن كان مجهولا لا يعرف بعد البحث : فهذا لا حرج فيه عند بعضهم ، كما قدمنا . ويجعله كمن قال : في العالم من يشرب ، أو يسرق .

                                                                                                                              قال المازري : وفيما قاله هذا القائل احتمال .

                                                                                                                              قال عياض : صدق القائل المذكور ؛ فإنه إذا كان مجهولا عند [ ص: 499 ] السامع ، ومن يبلغه الحديث عنه - : لم يكن غيبة ، لأنه لا يتأذى إلا بتعيينه.

                                                                                                                              قال: وقد قال إبراهيم : لا يكون غيبة ، ما لم يسم صاحبه باسمه ، أو ينبه عليه بما يفهم له عنه . وهؤلاء النسوة مجهولات الأعيان والأزواج ، لم يثبت لهن إسلام : فيحكم فيهن بالغيبة لو تعين . فكيف مع الجهالة؟ والله أعلم . هذا آخر كلام النووي .

                                                                                                                              قال القسطلاني : هذا الحديث قد شرحه - في جزء مفرد -: إسماعيل بن أبي أويس "شيخ المؤلف" . (2) وثابت بن قاسم . (3) والزبير بن بكار . (4) وأبو عبيد "القاسم بن سلام (4) : في غريب الحديث . (5) وأبو محمد بن قتيبة . (6) وابن الأنباري . (7) وإسحاق الكاذي . (8) وأبو القاسم عبد الحكيم بن حبان المصري . (9) ثم الزمخشري في "الفائق" . (10) ثم القاضي عياض (وهو أجمعها ، وأوسعها) ذكره "الحافظ : أبو الفضل بن حجر" رحمه الله .

                                                                                                                              (11) وسيدي علي الوفوي (على طريق القوم ، وأهل الإشارات) . انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 500 ] قلت : (12) والسيد أبو الفيض : المرتضى ، البلجرامي ، الزبيدي ، المصري ، صاحب "تاج العروس ، شرح القاموس" وهو على لسان التصوف . سماه : "در الضرع ، في شرح حديث أم زرع " .

                                                                                                                              (13) والشيخ "فيض الحسن ، السهار نفوري" ، عافاه الله تعالى . أوله : "الحمد لله الذي يفرج كل كرب ، ويسهل كل صعب ، ويفتح كل مغلق يضيق به الذرع ، ويكشف كل معضل كحديث أم زرع الخ" . ألفه في سنة 1295 الهجرية . وطبع في لاهور . وسماه : "التحفة الصديقية" . وأهداه إلى هذا العبد الضعيف . "عفا الله عنه" . ولمح في (عنوانه) إلى مدح هذا الحري بالذم. ومدح أهل بيتي : "نواب شاهجهان بيكم" والية بلدة بهوبال المحمية ، دام لها المجد والكرم . قال فيه : والآن منتهى مأمولي ، وأقصى مسئولي : أن يتقبله الله ، كما تقبل أصله . ويالهما من أصل وفرع! وأن يجعل "النواب" المستطاب لربة بيته ، كأبي زرع لأم زرع . وأن يهب لهما صالحا من الزرع ، ليكونا أشبه شيء بالأصل والفرع . اللهم! بارك عليهما ، وأحسن إليهما وإلى من لديهما ، وطول يديهما . وأقول في كليهما :


                                                                                                                              هذا دعاء لهذين اللذا برعا من بين بيض كرام سادة صيد فمن يؤمن يصب خيرا ويجز به
                                                                                                                              خيرا ويذكر بخير في العباديد [ ص: 501 ] وكيف لا وهما أولى بما لهما
                                                                                                                              من المكارم من هذي الصناديد

                                                                                                                              انتهى.

                                                                                                                              قلت : وقد تصدى لشرح هذا الحديث، في مطاوي شروح الأمهات الست: شراحها قديما وحديثا؛

                                                                                                                              منهم : الحافظ (في الفتح) ، و النووي (في شرح مسلم ) ، والقسطلاني (في إرشاد الساري) ، وهذا العبد الفاني) (في عون الباري) ، وفي هذا الشرح المختصر .

                                                                                                                              والحديث : عند الشيخين ، والنسائي ، والترمذي في شمائله ، وغيرهم . وهذا آخر بياني في شرح هذا الحديث ، على سيري الحثيث. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.




                                                                                                                              الخدمات العلمية