الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              681 [ ص: 807 ] سورة الجن : باب في قوله تعالى : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن

                                                                                                                              وقال النووي ، في الجزء الثاني ، في (باب الجهر بالقراءة في الصبح ، والقراءة على الجن ) .

                                                                                                                              (حديث الباب )

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ، ص 167 ، 168 ج4 ، المطبعة المصرية

                                                                                                                              عن ابن عباس ؛ قال : ما قرأ رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : على الجن ، وما رآهم . انطلق رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في طائفة -من أصحابه- عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم . فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب . قالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث . فاضربوا مشارق الأرض ، ومغاربها ؛ فانظروا : ما هذا الذي حال بيننا ، وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا : يضربون مشارق الأرض ، ومغاربها .

                                                                                                                              فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة -وهو بنخل- عامدين إلى سوق عكاظ- وهو يصلي بأصحابه : صلاة الفجر- فلما سمعوا القرآن : استمعوا له ، وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء .

                                                                                                                              فرجعوا إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا ! إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ، فأنزل الله عز وجل على [ ص: 808 ] نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) .


                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن ابن عباس ) ، رضي الله عنهما ؛ (قال : ما قرأ رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم على الجن ، وما رآهم ) .

                                                                                                                              وفي حديث « ابن مسعود » يرفعه : قال : أتاني داعي الجن ، فذهبت معه ، فقرأت عليهم القرآن إلخ . وقد تقدم في الكتاب ، فراجعه .

                                                                                                                              قال العلماء : هما قضيتان ؛

                                                                                                                              فحديث « ابن عباس » في أول الأمر ، وأول النبوة حين أتوا فسمعوا : قراءة قل أوحي .

                                                                                                                              واختلف المفسرون : هل علم النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم استماعهم - حال استماعهم - : بوحي أوحي إليه ؟ أم لم يعلم بهم إلا بعد ذلك ؟

                                                                                                                              [ ص: 809 ] وأما حديث ابن مسعود فقضية أخرى ، جرت بعد ذلك بزمان ، «والله أعلم بقدره » . وكان بعد اشتهار الإسلام .

                                                                                                                              (انطلق رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، في طائفة من أصحابه : عامدين إلى سوق عكاظ ) : بضم العين ، وبالظاء المعجمة - يصرف ، ولا يصرف - .

                                                                                                                              «والسوق » : تؤنث ، وتذكر . لغتان .

                                                                                                                              قيل : سميت بذلك : لقيام الناس فيها على سوقهم .

                                                                                                                              ذكر ابن إسحاق ، وابن سعد : أن ذلك كان في «ذي القعدة » ، سنة عشر من المبعث ، لما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف ، ثم رجع منها . فتكون القصة قبل الإسراء . ولكن لم يكن معه من أصحابه : إلا «زيد بن حارثة » . وهنا قال : «في طائفة من أصحابه » . فلعلها كانت وجهة أخرى . ويمكن الجمع : بأنه لما رجع ، لاقاه بعض [ ص: 810 ] أصحابه في أثناء الطريق ، فوافقوه . قاله الحافظ في (الفتح ) ، وبسط الكلام عليه ، فراجعه .

                                                                                                                              (وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ) .

                                                                                                                              ظاهر هذا الكلام : أن هذا حدث بعد نبوة نبينا ، صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يكن قبلها . ولهذا أنكرته الشياطين ، وارتاعت له ، وضربوا مشارق الأرض ومغاربها : ليعرفوا خبره . ولهذا كانت الكهانة فاشية في العرب ، حتى قطع بين الشياطين ، وبين صعود السماء واستراق السمع . كما أخبر الله تعالى عنهم : أنهم قالوا : وأنا لمسنا السماء ، فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا . وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا . وقد جاءت أشعار العرب باستغرابهم رميها : لكونهم لم يعهدوه قبل النبوة . وكان رميها من دلائل النبوة .

                                                                                                                              وقال جماعة من العلماء : ما زالت الشهب - منذ كانت الدنيا - . وهو قول ابن عباس ، والزهري ، وغيرهما . وقد جاء ذلك في أشعار العرب ، وروى فيه ابن عباس حديثا .

                                                                                                                              قيل للزهري : فقد قال الله تعالى : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ، فقال : كانت الشهب قليلة ، فغلظ أمرها وكثرت - حين بعث نبينا ، [ ص: 811 ] صلى الله عليه وآله وسلم - وقال المفسرون نحو هذا ، وذكروا : أن الرمي بها ، وحراسة السماء : كانت موجودة قبل النبوة ، ومعلومة . ولكن إنما كانت تقع عند حدوث أمر عظيم : (من عذاب ينزل بأهل الأرض ، أو إرسال رسول إليهم ) وعليه تأولوا قوله تعالى : وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ؟

                                                                                                                              وقيل كانت الشهب - قبل - مرئية ومعلومة ، لكن رجم الشياطين وإحراقهم ، لم يكن إلا بعد نبوة نبينا ، صلى الله عليه وآله وسلم .

                                                                                                                              واختلفوا في إعراب قوله تعالى : «رجوما » ، وفي معناه ؛

                                                                                                                              فقيل : هو «مصدر » فتكون الكواكب هي الراجمة المحرقة - بشهبها ، لا بأنفسها - .

                                                                                                                              وقيل : هو «اسم » فتكون هي بأنفسها التي يرجم بها ، ويكون «رجوم » : جمع «رجم » بفتح الراء . والله أعلم . هذا آخر كلام النووي رحمه الله .

                                                                                                                              (فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب . قالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث . فاضربوا مشارق الأرض ، ومغاربها ) معناه : سيروا فيها كلها . [ ص: 812 ] ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «لا يخرج الرجلان : يضربان الغائط » إلخ .

                                                                                                                              (فانظروا : ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا : يضربون مشارق الأرض ، ومغاربها . فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة ، وهو بنخل ) هكذا وقع في مسلم . وصوابه : «بنخلة » بالهاء . وهو موضع معروف هناك . كذا جاء صوابه في (صحيح البخاري ) . ويحتمل أنه يقال فيه : «نخل ونخلة » .

                                                                                                                              وأما «تهامة » : فبكسر التاء . هو اسم لكل ما نزل عن نجد - من بلاد الحجاز - ومكة : من تهامة .

                                                                                                                              قال ابن فارس في «المجمل » : سميت «تهامة » من «التهم » بفتح التاء والهاء : وهو شدة الحر ، وركود الريح .

                                                                                                                              وقال صاحب «المطالع » : سميت بذلك : لتغير هوائها . يقال : «تهم الدهن » : إذا تغير .

                                                                                                                              وذكر الحازمي ، أنه يقال في أرض تهامة : «تهائم » .

                                                                                                                              (عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر . فلما سمعوا القرآن : استمعوا له ، وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ) .

                                                                                                                              [ ص: 813 ] فيه : الجهر بالقراءة «في الصبح » .

                                                                                                                              وفيه : إثبات صلاة الجماعة ، وأنها مشروعة في السفر ، وأنها كانت مشروعة من أول النبوة .

                                                                                                                              (فرجعوا إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا ! «إنا سمعنا قرآنا عجبا . يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا » ) .

                                                                                                                              قال المازري : ظاهر الحديث : أنهم آمنوا - عند سماع القرآن ولا بد لمن آمن عند سماعه : أن يعلم حقيقة الإعجاز ، وشروط المعجزة ، وبعد ذلك : يقع له العلم بصدق الرسول . فيكون الجن علموا ذلك : من كتب الرسل المتقدمين قبلهم - على أنه هو النبي الصادق ، المبشر به - .

                                                                                                                              قال النووي : واتفق العلماء على أن الجن : يعذبون في الآخرة - على المعاصي - قال الله تعالى : لأملأن جهنم من الجنة ، والناس أجمعين .

                                                                                                                              واختلفوا أن مؤمنهم ومطيعهم : هل يدخل الجنة وينعم بها ( «ثوابا ومجازاة » له على طاعته ) ، أم لا يدخلون ويكون ثوابهم أن ينجوا من النار ، ثم يقال : كونوا ترابا كالبهائم ؟ وهذا مذهب ابن أبي سليم ، وجماعة .

                                                                                                                              والصحيح : أنهم يدخلونها ، وينعمون فيها : بالأكل والشرب ، وغيرهما . وهذا قول الحسن البصري ، والضحاك ، ومالك بن أنس ، وابن أبي ليلى ، وغيرهم .

                                                                                                                              [ ص: 814 ] (فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد ، صلى الله عليه وآله وسلم : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) .

                                                                                                                              قال في (فتح البيان ) : سورة «الجن » نزلت بمكة ، وهي ثمان وعشرون آية - في قول الجميع - وتسمى : «سورة قل أوحي » .

                                                                                                                              قال واختلف : هل رآهم النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم ، أم لم يرهم ؟ وظاهر القرآن : أنه لم يرهم .

                                                                                                                              وروى « ابن مسعود » أنه رآهم . ورجحه العلماء .

                                                                                                                              والحق : صحتهما . وأن الأول : وقع أولا ، ثم نزلت «السورة » ، ثم أمر بالخروج إليهم .

                                                                                                                              وقد اختلف الناس (قديما وحديثا ) : في ثبوت وجود الجن ؛

                                                                                                                              فأنكر وجودهم : معظم الفلاسفة . واعترف به : جمع منهم ، وسموهم بالأرواح السفلية . وزعموا أنهم أسرع إجابة من الأرواح الفلكية ، إلا أنهم أضعف .

                                                                                                                              وأما جمهور «أرباب الملل » ، وهم أتباع الرسل والشرائع : فقد اعترفوا بوجودهم ، لكن اختلفوا في ماهيتهم .

                                                                                                                              وقد نطق «الكتاب العزيز » ، والسنة المطهرة : بوجودهم . فلا اعتداد بمنكريهم .

                                                                                                                              [ ص: 815 ] وإذا جاء نهر الله : بطل نهر معقل . انتهى .

                                                                                                                              ومن جهلة الدهرية - في زماننا الحاضر هذا - : الفرقة المسماة «بالنيفرية » . وهي تنكر وجود الجن ، ووجود الملائكة ، بل وجود كل شيء غير محسوس . وهم كالأنعام ، بل هم أضل سبيلا . أقماهم الله ، وبدد شملهم . فقد تجاوز ضرارهم بدين الإسلام وأهله : الحدود .




                                                                                                                              الخدمات العلمية