الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              1233 (باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض)

                                                                                                                              وذكره النووي : في الباب الذي تقدم .

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 25 - 28 ج6 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [حدثنا محمد بن المثنى العنزي. حدثنا محمد بن أبي عدي عن سعيد، عن قتادة، عن زرارة، أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن [ ص: 75 ] يغزو في سبيل الله. فقدم المدينة. فأراد أن يبيع عقارا له بها فيجعله في السلاح والكراع. ويجاهد الروم حتى يموت. فلما قدم المدينة لقي أناسا من أهل المدينة، فنهوه عن ذلك وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة نبي الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال "أليس لكم في أسوة؟" فلما حدثوه بذلك راجع امرأته وقد كان طلقها. وأشهد على رجعتها فأتى ابن عباس فسأله عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس: ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: من؟ قال: عائشة فأتها فاسألها ثم ائتني فأخبرني بردها عليك، فانطلقت إليها فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها. فقال ما أنا بقاربها. لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا فأبت فيهما إلا مضيا. قال: فأقسمت عليه فجاء. فانطلقنا إلى عائشة، فاستأذنا عليها. فأذنت لنا. فدخلنا عليها. فقالت: أحكيم؟ (فعرفته) فقال: نعم. فقالت: من معك؟ قال: سعد بن هشام. قالت: من هشام؟ قال: ابن عامر. فترحمت عليه، وقالت: خيرا. قال قتادة (وكان أصيب يوم أحد) فقلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن. قال: فهممت أن أقوم ولا أسأل أحدا عن شيء حتى أموت. ثم بدا لي فقلت: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ألست تقرأ: يا أيها المزمل؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام [ ص: 76 ] الليل في أول هذه السورة. فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا. وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء. حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف. فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة. قال: قلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات. لا يجلس فيها إلا في الثامنة. فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة. ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه. ثم يسلم تسليما يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد. وتلك إحدى عشرة ركعة يا بني! فلما أسن نبي الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع. وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول. فتلك تسع يا بني! وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها. وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح. ولا صام شهرا كاملا غير رمضان. قال: فانطلقت إلى ابن عباس، فحدثته بحديثها. فقال: صدقت. لو كنت أقربها أو أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني به.

                                                                                                                              قال: قلت: لو علمت أنك لا تدخل عليها ما حدثتك حديثها.
                                                                                                                              .].

                                                                                                                              [ ص: 77 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 77 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن قتادة، عن زرارة؛ أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله، فقدم المدينة. فأراد أن يبيع عقارا له بها. فيجعله في السلاح والكراع) اسم للخيل.

                                                                                                                              (ويجاهد الروم حتى يموت، فلما قدم المدينة لقي أناسا من أهل المدينة، فنهوه عن ذلك وأخبروه؛ أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة نبي الله فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم. وقال: "أليس لكم في أسوة؟"، فلما حدثوه بذلك، راجع امرأته. وقد كان طلقها، وأشهد على رجعتها) . بفتح الراء وكسرها، والفتح أفصح عند الأكثرين. وقال الأزهري: الكسر أفصح.

                                                                                                                              (فأتى ابن عباس فسأله عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال ابن عباس: ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) .

                                                                                                                              "فيه": أنه يستحب للعالم إذا سئل عن شيء، ويعرف أن غيره أعلم منه به، أن يرشد السائل إليه؛ فإن الدين النصيحة.

                                                                                                                              ويتضمن مع ذلك الإنصاف، والاعتراف بالفضل لأهله، والتواضع.

                                                                                                                              [ ص: 78 ] (قال: من؟ قال: عائشة. فائتها فاسألها، ثم ائتني فأخبرني بردها عليك، فانطلقت إليها، فأتيت على حكيم بن أفلح، فاستلحقته إليها، فقال: ما أنا بقاربها، لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا، فأبت فيهما إلا مضيا) .

                                                                                                                              (الشيعتان) الفرقتان. والمراد: تلك الحروب التي جرت.

                                                                                                                              (قال: فأقسمت عليه، فجاء، فانطلقنا إلى عائشة، فاستأذنا عليها، فأذنت لنا، فدخلنا عليها، فقالت: أحكيم؟ (فعرفته) فقال: نعم. فقالت: من معك؟ قال: سعد بن هشام. قالت: من هشام؟ قال: ابن عامر. فترحمت عليه. وقالت: خيرا. قال قتادة -وكان أصيب يوم أحد- فقلت: يا أم المؤمنين ! أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن) .

                                                                                                                              أي: العمل به، والوقوف عند حدوده، والتأدب بآدابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه، وتدبره، وحسن تلاوته.

                                                                                                                              (قال: فهممت أن أقوم، ولا أسأل أحدا عن شيء حتى أموت، ثم بدا لي، فقلت: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ألست تقرأ يا أيها المزمل ؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله عز وجل افترض [ ص: 79 ] قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، حولا. وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف. فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة) .

                                                                                                                              ظاهره: أنه صار تطوعا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمة.

                                                                                                                              فأما الأمة فهو تطوع في حقهم بالإجماع، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا في نسخه في حقه.

                                                                                                                              والأصح عند الشافعية نسخه.

                                                                                                                              وأما ما حكاه عياض عن بعض السلف: أنه يجب على الأمة من قيام الليل ما يقع عليه الاسم، ولو قدر حلب شاة، فغلط ومردود بإجماع من قبله.

                                                                                                                              مع النصوص الصحيحة: أنه لا واجب إلا الصلوات الخمس. انتهى.

                                                                                                                              قلت: وفي ذلك نظر، لأن الأحاديث الواردة في ركعتي تحية المسجد، تقضي بوجوبه، فلا وجه للحصر في الخمس. ويزيد الله في الخلق ما يشاء. وإنك إذا تتبعت دواوين السنة المطهرة، وأمعنت النظر فيها، وجدت أشياء قد وجبت بعد إيجاب تلك الخمس.

                                                                                                                              ولا تعارض ولا منافاة في ذلك بين الأدلة.

                                                                                                                              فإن المحامل مختلفة باختلاف الأحوال، والأشخاص، والأزمنة، والأمكنة. والله أعلم.

                                                                                                                              (قال: قلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنا نعد له سواكه، وطهوره) .

                                                                                                                              [ ص: 80 ] "فيه": استحباب ذلك، والتأهب بأسباب العبادة قبل وقتها، والاعتناء بها.

                                                                                                                              (فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل. فيتسوك، ويتوضأ) .

                                                                                                                              "فيه": استحباب السواك عند القيام من النوم.

                                                                                                                              (ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله، ويحمده، ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني!)

                                                                                                                              قال عياض : قيام النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ركعات في هذا الحديث.

                                                                                                                              وحديث عروة عن عائشة بإحدى عشرة منهن الوتر، يسلم من كل ركعتين.

                                                                                                                              وكان يركع ركعتي الفجر إذا جاء المؤذن. ومن رواية هشام بن عروة وغيره، عن عروة عنها: (ثلاث عشرة بركعتي الفجر) .

                                                                                                                              وعنها: (كان لا يزيد في رمضان، ولا غيره على إحدى عشرة ركعة: أربعا أربعا وثلاثا) .

                                                                                                                              وعنها: (كان يصلي ثلاث عشرة ؛ ثمانيا، ثم يوتر، ثم يصلي [ ص: 81 ] ركعتين وهو جالس، ثم يصلي ركعتي الفجر) .

                                                                                                                              وقد فسرتها في الحديث الآخر: (منها ركعتا الفجر) .

                                                                                                                              وعنها في البخاري: (أن صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل سبع، وتسع) .

                                                                                                                              وذكر الشيخان بعد هذا من حديث ابن عباس: (أن صلاته من الليل ثلاث عشرة ركعة. وركعتين بعد الفجر، سنة الصبح) .

                                                                                                                              وفي حديث زيد بن خالد: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين خفيفتين، ثم طويلتين) ، وذكر الحديث.

                                                                                                                              وقال في آخره: (فتلك ثلاث عشرة) .

                                                                                                                              قال أهل العلم: في هذه الأحاديث إخبار كل واحد ؛ من ابن عباس، وزيد، وعائشة، ما شاهد.

                                                                                                                              وأما الاختلاف في حديث عائشة، فقيل: هو منها.

                                                                                                                              وقيل: من الرواة عنها.

                                                                                                                              فيحتمل أن إخبارها بإحدى عشرة، هو الأغلب، وباقي رواياتها إخبار منها ما كان يقع نادرا في بعض الأوقات.

                                                                                                                              فأكثره: خمس عشرة بركعتي الفجر. وأقله: سبع. وذلك بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت أو ضيقه، بطول قراءة. كما جاء في حديث حذيفة، وابن مسعود.

                                                                                                                              [ ص: 82 ] أو لنوم، أو عذر مرض، أو غيره.

                                                                                                                              أو في بعض الأوقات عند كبر السن، كما قالت: (فلما سن نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأخذه اللحم أوتر بسبع) .

                                                                                                                              هكذا (سن) في معظم الأصول.

                                                                                                                              وفي بعضها: (أسن) وهذا هو المشهور في اللغة.

                                                                                                                              أو تارة تعد الركعتين الخفيفتين، في أول قيام الليل، كما رواه زيد بن خالد. وتعد ركعتي الفجر تارة. وتحذفهما تارة.

                                                                                                                              وقد تكون عدت راتبة العشاء مع ذلك تارة، وحذفتها تارة.

                                                                                                                              قال عياض : ولا خلاف أنه ليس في ذلك حد لا يزاد عليه، ولا ينقص منه.

                                                                                                                              وأن صلاة الليل من الطاعات، التي كلما زاد فيها زاد الأجر.

                                                                                                                              وإنما الخلاف في فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وما اختاره لنفسه، والله أعلم.

                                                                                                                              (وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول. فتلك تسع يا بني!)

                                                                                                                              سبق الكلام عليه قريبا.

                                                                                                                              (وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة، أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم أو وجع، عن قيام الليل، صلى من النهار "ثنتي عشرة ركعة".

                                                                                                                              [ ص: 83 ] هذا دليل على استحباب المحافظة على الأوراد، وأنها إذا فاتت تقضى.

                                                                                                                              (ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان) .

                                                                                                                              "وفيه": إثبات الاقتصاد في العبادات المفروضة كلها ؛ وأن الغلو في الإتيان بها، والاستكثار منها، والانهماك فيها، والعكوف عليها، ليس من السنة في ورد ولا صدر.

                                                                                                                              بل هو رهبانية، لا يحبها الله ورسوله.

                                                                                                                              (قال: فانطلقت إلى ابن عباس، فحدثته بحديثها. فقال: صدقت، لو كنت أقربها أو أدخل عليها، لأتيتها حتى تشافهني به) .

                                                                                                                              "وفيه": استحباب استحصال السند العالي للحديث، وأنه ليس الخبر كالمعاينة.

                                                                                                                              وفضيلة السماع عن الخبر المجرد.

                                                                                                                              (قال: قلت: لو علمت أنك لا تدخل عليها ما حدثتك حديثها) .




                                                                                                                              الخدمات العلمية