الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 354 ] محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما .

[29] محمد مبتدأ، خبره رسول الله شهد له بالرسالة، وتقدم تفسير (محمد) في سورة آل عمران، وفي الأحزاب، ثم قال مبتدئا:

والذين معه من المؤمنين أشداء صفة الصحابة خاصة، فلا يكون -صلى الله عليه وسلم- داخلا مع الصحابة في الشدة على الكفار غلاظ عليهم كالأسد في فريسته.

رحماء بينهم متعاطفون بعضهم على بعض كالوالد مع الولد.

تراهم ركعا سجدا لأنهم مشغولون في الصلاة في أكثر أوقاتهم.

يبتغون يطلبون فضلا من الله أن يدخلهم الجنة ورضوانا أن يرضى عنهم. قرأ أبو بكر عن عاصم: (رضوانا) بضم الراء، والباقون: بكسرها.

سيماهم علاماتهم في وجوههم من أثر السجود وهو نور وبياض يعرفون به في الآخرة أنهم سجدوا في الدنيا، وروي أن مواضع السجود تكون في وجوههم كالقمر ليلة البدر. [ ص: 355 ]

ذلك الوصف المذكور مثلهم أي: صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.

في التوراة وتعطف عليه.

ومثلهم في الإنجيل أي: ذلك مثلهم في الكتابين كزرع تمثيل مستأنف; أي: هم كزرع أخرج شطأه فرخه; يقال: أشطأ الزرع: إذا فرخ. قرأ ابن كثير، وابن ذكوان عن ابن عامر: بفتح الطاء، والباقون: بإسكانها، وهما لغتان كالنهر والنهر، وقرأ أبو عمرو: (أخرج شطأه) بإدغام الجيم في الشين.

فآزره قرأ ابن ذكوان: بقصر الهمزة، والباقون: بالمد; أي: قواه; من المؤازرة، وهي المعاونة فاستغلظ غلظ ذلك الزرع.

فاستوى على سوقه جمع ساق; أي: قوي واستقام على أصوله، وهذا مثل ضربه الله لنبيه، خرج وحده، فآزره بأصحابه. قرأ قنبل عن ابن كثير: (سؤقه) بهمزة ساكنة، وعنه وجه ثان: بهمزة مضمومة، وقرأ الباقون: بغير همز.

يعجب الزراع الذين زرعوه، وهذا مثل ضربه الله لبدء الإسلام وقوته [ ص: 356 ] بالصحابة بأن يكونوا قليلا فيكثروا وضعفاء، فيقوون، يوضح ذلك أن علله بقوله:

ليغيظ بهم الكفار أي: إنما كثرهم وقواهم; ليكونوا غيظا للكافرين.

قال عكرمة: أخرج شطأه بأبي بكر، فآزره بعمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى على سوقه بعلي بن أبي طالب.

ومن غيظ الكفار قول عمر بمكة: "لا أعبد الله سرا بعد هذا اليوم".

وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأقرؤهم أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" رضي الله عنهم أجمعين. [ ص: 357 ]

وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة و(منهم) لبيان الجنس وليست للتبعيض; لأنه وعد للجميع.

وأجرا عظيما يعني: الجنة، وقد اجتمع حروف المعجم التسعة والعشرون في هذه الآية، وهي محمد رسول الله إلى آخر السورة، أول حروف المعجم فيها ميم من (محمد)، وآخرها صاد من (الصالحات)، وتقدم نظير ذلك في سورة آل عمران في قوله: ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا [الآية: 154] ، وليس في القرآن آيتان كل آية حوت حروف المعجم غيرهما من دعا الله بهما استجيب له، والله أعلم.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية