الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون .

[27] ثم قفينا أتبعنا وأردفنا; مأخوذ من القفا; أي: جاء بالثاني في قفا الأول على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وكان آخر نبي من بني إسرائيل، وأول أنبيائهم موسى عليه السلام.

وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة وهي أشد الرحمة، وكانوا متوادين بعضهم لبعض; كما قال تعالى في وصف أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: رحماء بينهم [الفتح: 29]. قرأ قنبل بخلاف عنه: (رآفة) بالمد [ ص: 547 ] مثل: رعافة ورحمة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها.

ورهبانية هو ترهبهم في الجبال والصوامع، ورفض النساء، والرهبان: الخائف; مأخوذ من الرهب، وهو الخوف، (ورهبانيه) عطف على (ورحمة).

ابتدعوها نعت; أي: جعلنا عليهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة، والمعتزلة تعرب (ورهبانيه) أنها نصب بإضمار فعل يفسره (ابتدعوها)، وليست بمعطوفة على الرأفة والرحمة، ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله، فيعربون الآية على مذهبهم، ابتدعوها من قبل أنفسهم، روي أنهم افترقوا ثلاث فرق: ففرقة قاتلت الملوك على الدين فقتلت وقتلت، وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه ولم تقاتل، فأخذتها الملوك فنشرتها بالمناشير، وقتلوا، وفرقة خرجت إلى الفيافي، وبنت الصوامع والديارات، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل، فتركت، ولذلك تسمت بالرهبان، فهذا هو ابتداعهم.

ما كتبناها عليهم أي: لم نفرض الرهبانية عليهم إلا استثناء منقطع; أي: لكنهم ابتدعوها.

ابتغاء رضوان الله وهو امتثال أمره تعالى، واجتناب نهيه. وتقدم مذهب أبي بكر في ضم الراء من (رضوان).

فما رعوها ما حفظ الرهبانية هؤلاء المعتدون حق رعايتها لأنهم قصروا فيما ألزموا أنفسهم من الرهبانية، ورجعوا عنها، ودخلوا في دين ملوكهم، ولم يبق على دين النصرانية إلا اليسير، فآمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- [ ص: 548 ] قال -صلى الله عليه وسلم-: "من آمن بي وصدقني، فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي، فأولئك هم الهالكون".

فآتينا الذين آمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- منهم أي: من العيسيين.

أجرهم وكثير منهم من العيسيين التاركي الرهبانية، الكافرين بمحمد وعيسى عليهما السلام فاسقون خارجون عن حال الاتباع.

وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل، وأنه يلزمه أن يرعاه حق رعايته، واختلف الأئمة فيما إذا أنشأ صوما أو صلاة تطوعا، فقال أبو حنيفة: لم يجز له الخروج منه، فإن أفسده، فعليه القضاء; لقوله تعالى: ولا تبطلوا أعمالكم [محمد: 33] ، وقال مالك كذلك، إلا أنه اعتبر العذر، فقال: إن خرج منه لعذر، فلا قضاء، وإلا وجب، وقال الشافعي وأحمد: متى أنشأ وحدا منهما، استحب إتمامه، فإن خرج منه، لم يجب عليه قضاء على الإطلاق، وأما إذا كان التطوع حجا أو عمرة، فيلزم إتمامه، فإن أفسده، وجب قضاؤه بالاتفاق; لوجوب المعنى في فاسده.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية